كشفت الاجراءات المالية التي اتخذتها القيادة العراقية في الاسبوع الاول من شهر ايار مايو الجاري ثلاثة امور اساسية تتعلق بأوضاع الرئيس صدام حسين ونظامه، وهي: 1- ان العراق يواجه مصاعب اقتصادية كبيرة نتيجة استمرار العقوبات الدولية المفروضة عليه منذ غزوه الكويت، وهذه المصاعب هي التي تدفع النظام الى اتخاذ تدابير استثنائية. 2- ان القيادة العراقية اصبحت مقتنعة على ما يبدو، بأن لا مجال لأية مصالحة او لفتح "صفحة جديدة"، لا مع الولاياتالمتحدة ولا مع اية دولة كبرى او اية دولة عربية اتخذت موقفاً واضحاً من احتلال الكويت. وعلى هذا الاساس بدأت القيادة العراقية تستعد لمحاولة "التعايش" مع استمرار العقوبات الدولية المتعددة المفروضة على العراق فترة طويلة اخرى. 3- ان صدام حسين لا يعبأ او يهتم بأن يدفع الاردن "ثمن" هذه الاجراءات المالية، على رغم ان هذا البلد "تعاطف" مع الرئيس العراقي طوال ازمة الكويت وحتى اتخاذ التدابير المالية الاخيرة. فما يهم صدام حسين هو محاولة الاستمرار في الحكم اطول فترة ممكنة، ولو على حساب اصدقاء او حلفاء الامس. ففي الخامس من ايار مايو الجاري اغلقت القيادة العراقية الحدود مع الاردن لمدة ستة ايام واعطت العراقيين مهلة اسبوع لتغيير الاوراق النقدية من فئة 25 ديناراً المطبوعة في بريطانيا ويطلق عليها اسم الدنانير السويسرية واستبدالها بأوراق نقدية من الفئة نفسها تطبع في العراق منذ غزو الكويت في آب اغسطس 1990. وهذا يعني، عملياً، سحب الاوراق النقدية من فئة 25 ديناراً المطبوعة في بريطانيا من التداول. وسمح القرار، الذي اتخذه مجلس قيادة الثورة العراقي بعد سلسلة اجتماعات، للعراقيين الذين يعيشون داخل بلادهم فقط بتغيير هذه الفئة من الاوراق النقدية، اما الذين يملكون "الدنانير السويسرية" ويعيشون خارج العراق فلا يحق لهم استبدالها بالاوراق النقدية المطبوعة في العراق. وبذلك تكون "الدنانير السويسرية" فقدت كل قيمتها. ويقول العراقيون ان "مليارات الدنانير من هذه الفئة اصبحت خارج البلاد وانها تستخدم لضربه اقتصادياً". اضافة الى ذلك، فرضت القيادة العراقية رسوماً جديدة تبلغ 15 الف دينار على جميع العراقيين الذين يريدون السفر الى الخارج باستثناء المسؤولين والديبلوماسيين وعائلاتهم والطلاب، كما اوقفت الصيارفة غير الرسميين عن العمل. وأكد خبراء اقتصاديون وماليون عرب ل "الوسط" ان الهدف الاساسي لهذه الاجراءات هو محاولة الحد من تدهور الوضع الاقتصادي داخل البلاد. فاحدى "نقاط الضعف" الاساسية التي يعاني منها العراق منذ فرض العقوبات الدولية عليه وعدم تمكنه من تصدير نفطه هي النقص في العملات الصعبة. وقد احدث هذا النقص، اضافة الى المصاعب الاقتصادية الهائلة في البلاد، انهياراً كبيراً في سعر الدينار العراقي: فهذا الدينار يساوي في السوق الرسمية 3.2 دولار، لكن في السوق السوداء اصبح الدولار يساوي الشهر الماضي بين 70 و90 ديناراً، بل ووصل الدولار في احدى المراحل الى 105 دنانير. وتأمل السلطات العراقية، بتدابيرها هذه، ان تتمكن من السيطرة بشكل افضل على الكتلة النقدية وان توقف انهيار سعر صرف الدينار بل وان تثبته عند سقف "معقول". وتهدف هذه الاجراءات، ايضاً، الى تحسين القدرة الشرائية للعراقيين الذين يتقاضون اجورهم بالدنانير المحلية. وتظهر هذه الاجراءات ان النظام العراقي "عازم على حصر استعمال العملات الصعبة لشراء حاجات البلاد الاساسية وحماية الاقتصاد الوطني من التدخلات الخارجية"، على حد قول ديبلوماسي اوروبي مطلع على الوضع العراقي. ففرض رسوم مرتفعة جداً على العراقيين الذين يريدون السفر الى الخارج هدفه خفض عدد هؤلاء والحد من استعمال العملات الصعبة. وقال مسؤولون اميركيون ان هذه الاجراءات المالية تظهر ان العقوبات الدولية بدأت تؤثر بوضوح على الاوضاع الداخلية في العراق، وأضافوا "ان ذلك يجب ان يدفع المجتمع الدولي الى مواصلة كل انواع الضغوط على نظام صدام حسين الى ان ينفذ جميع قرارات مجلس الامن المتعلقة بغزو الكويت ونتائجه مما سيؤدي، في نهاية الامر، الى سقوط النظام". واتفق عدد من المسؤولين الاميركيين والاوروبيين على القول ان هذه الاجراءات تظهر ان القيادة العراقية اصبحت مقتنعة ضمناً، وان كانت لا تريد الاعتراف بذلك علناً، بأن كل آمالها بفتح "صفحة جديدة" مع ادارة الرئيس الاميركي كلينتون او مع فرنسا او مع دول عربية واجنبية مهمة اخرى "باءت بالفشل"، وان عليها، بالتالي، الرضوخ لواقع ان العقوبات الدولية المفروضة على العراق ستستمر فترة طويلة. ونقلت "وكالة الصحافة الفرنسية" عن ديبلوماسي اوروبي في بغداد قوله: "ان هذه الاجراءات تظهر ان العراق يستعد للعيش في ظل العقوبات الدولية اذ لا خيار آخر له في الوقت الحاضر". ماذا كانت الانعكاسات الخارجية لهذه الاجراءات العراقية؟ الواقع ان الاردن هو "الضحية الاولى" لهذه الاجراءات. فلم تكتف القيادة العراقية باغلاق حدودها مع الاردن ونشر اكثر من مئة جندي من الحرس الجمهوري لتنفيذ قرار الاغلاق، بل اوقفت تصدير النفط الى الاردن بمنعها الصهاريج التي تنقل النفط من التوجه اليه. والمعروف ان الاردن يستورد نحو 8 آلاف برميل من النفط العراقي يومياً، اي ما بين 3.2 و3.5 مليون برميل سنوياً بأسعار مخفضة وسداداً لديون اردنية على العراق بموافقة الاممالمتحدة. واعلن المهندس علي ابو الراغب وزير الطاقة والثروة المعدنية ل "الوسط" ان المسؤولين العراقيين وعدوه بتعويض الكميات التي لم تصل الى الاردن خلال مدة اغلاق الحدود فور اعادة فتحها. وقدرت مصادر في عمان بمئات الملايين من الدولارات قيمة الخسائر التي لحقت بالصرافين والتجار الذين يتعاملون بالدينار العراقي المطبوع في الخارج وبآلاف من المواطنين الاردنيين الذين يحتفظون "بالدنانير السويسرية" على امل ان يرتفع سعرها في حال الغاء العقوبات الدولية على العراق. فالذين يملكون "الدنانير السويسرية" في الخارج لا يستطيعون صرفها او تحويلها، كما يبدو واضحاً ان العراق ليس مستعداً لدفع اية تعويضات لهؤلاء. عن رد الفعل الاردني على هذه الاجراءات العراقية بعث مراسل "الوسط" في عمان فيصل الشبول بالتقرير الآتي: لا يستطيع احد ان يتكهن حالياً بمدى تأثير ازمة الدينار العراقي على العلاقات الاردنية - العراقية، ذلك ان الاتصالات الجارية بين عمانوبغداد هي التي ستحدد حجم هذا التأثير. وفي الوقت الذي يسعى الاردن لدى العراق للحيلولة دون الاضرار باقتصاده من جراء القرارات الاخيرة والحفاظ على حقوق مواطنيه، فانه لم يتصرف حتى اليوم بما يدل على انه متجه نحو التصعيد. ولدى الاعلان عن الاجراءات العراقية شعر المتعاملون بالدينار العراقي في الاردن بأنهم خسروا كل شيء: البعض منهم احضر ما لديه من دنانير عراقية وألقاها امام الناس، وآخرون اصيبوا بنوبة قلبية، والكثيرون كالوا الشتائم للنظام العراقي. وتبين ان المتعاملين بالدينار العراقي في الاردن على انواع: بعضهم من المضاربين الذين يتلاعبون بالسوق، وبعضهم ممن اشتروا العملة العراقية املاً بانفراج قريب على صعيد الحصار المفروض على العراق، اما البعض الآخر فهم تجار اردنيون صدّروا مواد غذائية وأدوية الى العراق وقبضوا ثمن بضائعهم بالدينار العراقي. الا ان مشاعر الغضب هذه حد منها قليلاً تصريح لمحافظ البنك المركزي الاردني قال فيه ان البنك اجرى اتصالات مع المصرف المركزي العراقي لضمان حقوق الاردنيين واستثنائهم من القرار العراقي. كما اعلن ان رقابة تفرض على الحدود الاردنية مع الدول المجاورة للحيلولة دون تدفق العملة العراقية وذلك في محاولة لحصر كميات العملة العراقية الموجودة داخل الاردن. لم يقم البنك المركزي الاردني بحصر كميات الدنانير العراقية داخل الاردن ولكن التقديرات تشير الى انها تراوح بين مليار دينار وثلاثة مليارات دينار غير ان مصادر مصرفية اردنية اكدت ل "الوسط" ان المبلغ لا يقل بأي حال عن مليار دينار عراقي ولا يزيد عن مليارين. ومن هنا بدأ الاردن يحدد حجم المشكلة التي نجمت عن القرار العراقي وخاصة في ما يتعلق بمجمل خسائر الاقتصاد الاردني من هذه الضربة وبالصناعيين والتجار الذين اقتنوا العملة العراقية ليس بهدف المضاربة او المقامرة بل كأثمان لبضائعهم. وكشف مسؤول اردني رفيع المستوى ل "الوسط" انه في مساء اليوم التالي لبدء تنفيذ القرار العراقي عقدت الحكومة الاردنية اجتماعاً طارئاً استدعت اليه السفير العراقي في عمان وطلبت منه ابلاغ حكومته الطلب الرسمي الاردني: "نريد حماية حقوق مواطنينا". وقد تفادى المسؤولون الاردنيون توجيه اي انتقاد علني للعراق بسبب اجراءاته هذه التي وصفها حاكم المصرف المركزي في الاردن محمد سعيد النابلسي بأنها "شأن من شؤون السيادة العراقية"، واصدر النابلسي تعليمات بمنع ادخال العملة العراقية من كل الفئات الى الاردن "تمهيداً لحصر المبالغ" الموجودة في الاردن وتحديد الخسائر التي سيتكبدها الاردنيون من جراء قرارات بغداد. الا ان هذه الاجراءات العراقية صدمت المواطنين والكثيرين من السياسيين والمعلقين الاردنيين الذين انتقدوا صدام حسين بشدة واتهموه "بنكران الجميل". وقال ديبلوماسي غربي في عمان: "ان صدام حسين سيفقد بقراراته هذا التأييد الذي يتمتع به في الاردن اذ ان الآلاف من الاردنيين والفلسطينيين سيتضررون نتيجة هذه القرارات". وعلى صعيد الاقتصاديين ورجال الاعمال والمحللين الاقتصاديين فقد اشار رجل اعمال اردني الى ان وزير التجارة العراقي طمأن المتعاملين بالدينار العراقي في الاردن قبل اسابيع بأن العراق لن يبدل عملته الوطنية وان قيمة الدينار العراقي ستتحسن في المستقبل. وقال: "علينا ان نقرر بأن العملات العراقية التي دخلت الاردن انما دخلت بشكل رسمي وبتصاريح مسبقة من السلطات العراقية واحياناً تم ارسالها بسيارات تابعة لأجهزة عراقية رسمية لدفع قيمة بضائع ضرورية قام العراق باستيرادها من الاسواق الاردنية. واعتبر اقتصادي اردني بارز ان القرار "سيترك آثاراً سلبية على الاقتصاد الاردني حيث ستتكدس البضائع والسلع في السوق الاردني، خصوصاً في المناطق الحرة وتتعرض لبطء في التصريف نظراً الى توقف البيع والشراء بالدينار العراقي". وعلمت "الوسط" ان البنك المركزي الاردني كان حذر قبل ثلاثة اشهر البنوك التجارية والمواطنين الاردنيين من ادخار الدينار العراقي الا ان هذا التحذير لم يجد آذاناً صاغية في حينه. وقد اعيد فتح الحدود بين العراقوالاردن يوم 10 ايار مايو الجاري واستؤنف تصدير النفط الى الاردن. وذكرت مصادر غربية في بغدادوعمان ان العراق "مستاء" من الاردن بسبب تصريحات الملك حسين التي تدعو صدام حسين، ضمناً، الى التخلي عن السلطة وايضاً بسبب التقارب الاردني - الاميركي، وهو ما عكسته المناورات العسكرية المشتركة التي اجراها الجيش الاردني مع الجيش الاميركي في منتصف نيسان ابريل الماضي. كما ان الاردن يطبق منذ عام الحظر الدولي المفروض على العراق. واضافة الى الاردن، فان اكراد العراق يدفعون ثمن هذه الاجراءات التي تطال المناطق الكردية التي لا يسيطر عليها النظام العراقي. ويذكر ان هذه المناطق لا تتعامل سوى بالدنانير "السويسرية" المطبوعة في بريطانيا قبل ازمة الخليج وترفض استعمال الدنانير المطبوعة في العراق. ويبدو ان بغداد تريد الضغط على الاكراد لدفعهم الى استئناف الحوار الذي قطعوه في تشرين الاول اكتوبر 1991 بهدف تحديد الحكم الذاتي الكردي في شمال البلاد. لكن الاكراد لا يريدون التحاور مع صدام حسين. وقد اعلنت "الحكومة الكردية" في شمال العراق انها اعدت رداً على هذه الاجراءات المالية للحيلولة دون تضرر السكان منها. لكن يبقى الاساس، وهو ان هذه الاجراءات هي نتيجة الاوضاع الداخلية الاقتصادية المتدهورة ونتيجة محاولة صدام حسين البقاء اطول فترة ممكنة في الحكم، اياً تكن معاناة الشعب العراقي.