في الوقت الذي كانت أسعار السلع ترتفع والمرتبات باقية على حالها تقريبا كان الدينار العراقي يشهد انحداراً لا مثيل له في تاريخه ، فقد كان الدينار العراقي من أقوى العملات العربية ، وفي منتصف السبعينيات كان الدينار العراقي معادلاً للدينار الكويتي، إذ كان الدينار الواحد منه يساوي 4،3 دولار أمريكي، غير أن الحرب العراقيةالإيرانية أصابت الدينار العراقي بأضرار فادحة جعلت سعر الدينار الواحد يقل عن 35 سنتاً مع انتهاء تلك الحرب المدمرة، وبقي هذا سعره حتى عشية أزمة الخليج، لكن ما أن انتهت الحرب حتى انخفض سعره إلى سنتين ونصف السنة. وبالعملة الأردنية انخفض سعره من 170 فلساً إلى 45 فلساً واستمر سعر الدينار في الانخفاض حتى لم يعد يساوي في السوق الأردنية أكثر من عشر فلسات في أفضل الأحوال. وبعض الصيارفة لا يتعاملون بالدينار العراقي من حيث المبدأ، أما الصيارفة الآخرون فهم يتعاملون بها بسب وجود كميات كبيرة منها في الأردن وبسبب وجود مشترين لها أيضا في السوق الأردنية وبخاصة ممن يأخذونها للاستعمال في المنطقة الكردية في شمالي العراق، ففي هذه المنطقة التي لا تخضع للحكم العراقي ما زال الدينار العراقي يستخدم بفئتيه المصور والأصلي. وبدأ تدهور سعر الدينار العراقي مع دخول النظام العراقي الحرب ضد إيران في العام 1980، وما أن انتهت هذه الحرب حتى ارتفع سعر الدينار العراقي إلى ما يزيد على الدولار، لكن ذلك لم يستمر سوى بضعة أيام ليعود بعدها إلى سعره الذي كان عنده وقت انتهاء الحرب، وهو 40 سنتاً للدينار الواحد تقريباً. وفي الفترة التي أعقبت انتهاء الحرب شهد سعر الدينار العراقي مزيداً من الانخفاض أوصله إلى بضعة سنتات، لكن ذلك لم يمنع حدوث بعض حالات الارتفاع المفاجئة، التي كانت ترتبط دائما بأنباء عن تقدم المفاوضات بين العراقوالأممالمتحدة في شأن السماح للعراق بتصدير نفط بقيمة 6،1 مليون دولار كل ستة شهور لشراء مواد وسلع غذائية ودوائية بثمنها وإدخالها للعراق عبر الأردن، وهي المفاوضات التي دأب الرئيس العراقي صدام حسين على رفضها وبقي كذلك حتى العام 1996. لذا في شباط فبراير 1992، ارتفع سعر الدينار العراقي لدى بدء جولة من هذه المحادثات ليصبح 20-25 سنتاً، لكنه عاد فانخفض مجدداً اثر فشلها. وفي المحادثات التي جرت في فينا حول الموضوع نفسه في آب أغسطس الماضي من العام نفسه ارتفع سعر الدينار العراقي ليصبح 40-45 سنتاً ليعود إلى سعر أشد انخفاضاً ثم ليواصل انخفاضه إلى سعره الحالي الذي لا يزيد على سنتين أميركيين . الأصلي والمصور وعلى رغم ذلك أبقى النظام العراقي على السعر الرسمي للدينار الذي كان حدده "أيام العز" التي كان يعيشها الدينار العراقي آخر السبعينات وحتى نشوب الحرب العراقيةالإيرانية، وهو 2،3 دولاراً للدينار العراقي الواحد. لكن ذلك لم يمنع نشوء سوق سوداء في قلب بغداد والمدن العراقية الأخرى، فالكل يعرف أن سعر الدينار الرسمي غير حقيقي، وأن أحدا لا يأخذه على محمل الجد. وهكذا بدأت رحلة هبوط الدينار العراقي إلى الحضيض الذي ما زال يعيشه حتى الآن، فما أن حل العام 1992 حتى كان سعر الدولار يساوي في السوق السوداء العراقية نحو 25 ديناراً، ومع نهاية العام المذكور كان سعره نحو 35 دولاراً. وتنبهت السلطات العراقية آنذاك إلى "خطر" السوق السوداء على العملة الوطنية فشنت حملات منتظمة على تجار العملة الذي كانوا يتخذون من زوايا الشوارع والمكاتب الوهمية في وسط بغداد مراكز لنشاطهم. غير أن الحكومة ما لبثت أن أوقفت حملاتها على السوق السوداء لتبديل العملة، أولاً لأنها لم ترد أن يحدث مع هؤلاء ما كان حدث مع تجار المواد الغذائية الذين أعدم 42 منهم في صورة بشعة في صيف العام المذكور، وهو ما أحدث نتيجة عكسية جرت على النظام أوصافا أقلها الهمجية التي تعني التعامل مع المشاكل الاقتصادية بالإعدام. وثانياً، وهو الأهم، فإن بعض المتنفذين في السلطة العراقية ومن هؤلاء عدي ابن الرئيس العراقي صدام حسين وسعدون شاكر وهو عضو سابق في مجلس قيادة الثورة وزير داخلية سابق، وغيرهم، عرفوا مقدار الأرباح التي يمكن لتجار تبديل العملة في السوق السوداء تحقيقها. وبالطبع فإن انخفاض قيمة الدينار كان يرافقه ارتفاع الأسعار التي بدأت في التحليق شاملة كل شيء، من المواد الغذائية البسيطة مثل البيض والخبز والسجائر وحتى أسعار الأراضي والعقارات والسيارات، إذ أصبح سعر الدولار هو المقياس الحقيقي لأسعار السلع والبضائع المتداولة. ومثلما يحدث في هذه الحالات فإن ما تفعله الدول هو طباعة كميات من العملة الورقية للدولة وطرحها في الأسواق في تعبير عن حالة تضخم نموذجية. لكن النظام العراقي كان معزولاً عن العالم ما جعل كل دول العالم ترفض طباعة أوراقه النقدية باستثناء يوغوسلافيا التي كانت الحرب الأهلية فيها قد بدأت فلم تتم الصفقة. ومن الطريف أن النظام العراقي كان اتفق مع بريطانيا على أن تطبع له كمية من العملات الورقية من فئات مختلفة، غير أن بريطانيا لم تسلم الكمية المطبوعة للنظام في العراق الذي كان قد غزا الكويت في تلك الأثناء. وهنا بدأ تداول ما يعرف بالدينار المصور، وهو مجموعة أوراق نقدية من فئات مختلفة تطبعها الحكومة على آلة تصوير عادية وتطرحها في السواق على أنها دنانير عادية قابلة للتداول. وهكذا أصبح هناك نوعان من العملة قيد التداول في العراق: الدينار المصور والدينار الأصلي، والأخير حمل إلى جانب اسمه الأخير عددا من الأسماء الأخرى مثل "السويسري"، اعتقادا من المواطنين بأن فئات هذه العملة طبعت في سويسرا، في حين أنها كانت طبعت في بريطانيا قبل أزمة الخليج، "وأبو الحصون"، وذلك نسبة إلى صورة لخيول بيضاء تحملها الورقة المالية، و"دينار صدام" نسبة إلى صورة الرئيس العراقي صدام حسين التي تزين الورقة من فئة 25 ديناراً والتي كانت الفئة الأكثر تداولاً بسبب انخفاض قيمة الدينار. وتقديراً من المواطنين أن قيمة الدينار الأصلي أكبر من قيمة المصور أخذ بعض التجار يشترطون الدفع به، ما جعل بعض المواطنين يخفونه تحسباً ليوم قريب يعود فيه للدينار قوته ومجده الغابر. وكان هناك سبب آخر لاشتراط الدفع بالدينار الأصلي هو أن المواطن العادي لم يثق بالدينار المصور الذي كانت نوعية الورق المصنوع منه وكذلك سوء نوعية ألوانه وتعرضه للتلف ولضياع الألوان بسرعة سبب في عدم اقتناع المواطنين به. وغني عن القول إن المسافرين الخارجين من العراق أو أولئك القادمين إليه حملوا معهم الدنانير المصورة وأدخلوها الأسواق المجاورة للعراق ومنه السوق الأردنية وبدأ الصيارفة في تداولها ووضعوا لها سعرا يقل عن سعر الدنانير الأصلية. وبالطبع فإن هذه الإجراءات لم تحسن كثيراً من وضع الدينار العراقي فلا هي حافظت على سعره، ففي أواخر شهر نيسان ابريل من العام 1993 كان سعر الدينار في الأسواق العراقية قد وصل إلى نحو 65 للدولار الواحد. أزمة السويسري وفي ليلة الخامس من شهر أيار مايو من العام نفسه اتخذ مجلس قيادة الثورة العراقي خطوة مفاجئة بإلغاء الورقة النقدية من فئة 25 ديناراً، التي كانت الأكثر تداولاً، وكان عنصر المفاجأة الأكبر أن العملة الملغاة كانت الأصلية أو السويسرية وليست المصورة كما كان الجميع يتوقعون. ومنح مجلس قادة الثورة المواطنين العراقيين والمقيمين في العراق مهلة مدتها أسبوع واحد لتبديل دنانيرهم الأصلية بأخرى مصورة، وأكمل المجلس هذا الإجراء الذي اتخذ شكل عقوبة لمن يحتفظ بهذه العملة في الخارج بإغلاق حدوده مع العالم الخارجي. وبالطبع كان الأردن هو المقصود بهذا الإجراء تحديدا، فمن المعروف أن الحدود بين الأردنوالعراق، وكانت وما زالت هي الحدود الوحيدة المفتوحة بين العراق والعالم في صورة رسمية بقرار خاص من الأممالمتحدة، لذا اتخذ العراق إجراءات مشددة للتفتيش عن أموال مهربة عبر الحدود، ثم امتد التشدد ليشمل كل شيء تقريباً: الساعات والمصنوعات الجلدية والملابس والمنسوجات والمواد الغذائية والتحف وغيرها. وبالطبع فإن الإجراءات المذكورة لم تحافظ على استقرار سعر الدينار العراقي، فما أن انتهت "أزمة الدينار السويسري" كما سُميت عملية الإلغاء المشار إليها حتى بدأ سعر الدينار في الارتفاع بوتائر أسرع، فقد استمرت الحكومة العراقية في طباعة الأوراق النقدية وزادت أن طبعت ورقة من فئة 50 ديناراً، ما أبقى الأمور عمليا على حالها، خصوصاً أن قرار إلغاء العملة في طبعتها لسويسرية لم يوقف تداولها تماماً في الخارج وكذلك في المنطقة الكردية التي لا تخضع للنظام العراقي. وما زال التعامل بالدينار الأصلي ساريا في تلك المنطقة. وخلال عام من اتخاذ الإجراء المذكور ارتفع سعر الدينار العراقي في السوق السوداء العراقية إلى نحو عشرة أضعاف، إذ بلغ سعر الدينار العراقي مقابل الدولار في شهر أيار مايو 1994 نحو 700 - 6500 للدولار الواحد مقابل 65 ديناراً للدولار عندما اتخذ قرار الإلغاء. وكان ذلك مبرراً للرئيس العراقي صدام حسين الذي كان قد عين لأول مرة رئيساً للوزراء غيره، هو السيد أحمد حسين خضير، لعزل الأخير والعودة إلى تسلم رئاسة الوزارة، إلى جانب "رئاساته" الأخرى. وفور تسلمه المنصب بدأ الرئيس تطبيق سياسة اقتصادية جديدة كان من أبرز ملامحها وقف طبع المزيد من الأوراق النقدية ومنع المواطنين من سحب مبلغ يزيد على خمسة آلاف دينار عراقي في اليوم الواحد، وهو مبلغ ضئيل إذا قُورن بالقوة الشرائية له، وكان المبرر أن هذا الإجراء سوف يحد من حركة الاستهلاك. واقترن ذلك بالتشدد في إخراج العملة الأجنبية البلاد. وفي الوقت نفسه قرر منح زيادات للعاملين في وزارات الدولة ومؤسساتها، الذين كانوا قد بدأوا يعانون في صورة لا سابق لها في ظل الأوضاع الاقتصادية السائرة من سيئ إلى أسوأ. كما سارع النظام إلى سحب القطع النقدية من الأسواق لأنها، بما كانت تحتويه من معادن أصبحت تساوي أضعاف أضعاف قيمتها الأصلية، وفي محاولة يائسة لحل مشكلة السوق السوداء سمح النظام لبعض محلات الصرافة بأن تفتح أبوابها والتعامل بصرف العملات الأجنبية بما فيها الدولار بسعر تشجيعي، وهو سعر وسط بين سعر السوق السوداء المرتفع وسعر الحكومة الرسمي، الذي بقي كما هو، أي 2،3 دولار للدينار الواحد. ولم ينس الرئيس العراقي أن يعلن عن إنزال عقوبات قاسية بمن يهدد استقرار الاقتصاد وأمنه ممن يتعاملون بتبديل الدولارات في السوق السوداء وكذلك بالمزارعين الذين ذكرهم بأن عليهم بيع محاصيلهم للحكومة. وهدد بقطع أطراف المخالفين لهذه الأوامر. ولكن لم يتحقق شيء مما أراده الرئيس، إذ استمر سعر الدينار في الانخفاض أمام الدولار في ظل ارتفاع صاروخي في الأسعار التي أصبحت، ومنذ فترة طويلة، تحدد بموجب سعر الدولار، ولم يعد الدينار العراقي إلا أداة للدفع. وما أن انتهى العام 1994 حتى كان سعر الدينار يصل إلى أكثر من ألف للدولار الواحد، ومع إطلالة العام 1995 وصل سعره إلى 1200 للدولار. فشل وكما هو متوقع، فإن الرئيس اضطر إلى العودة إلى طباعة الأوراق النقدية، التي أضاف إلى الموجود منها أوراقاً جديدة من فئة 250 ديناراً ثم تلتها بعد ذلك ورقة من فئة 500 دينار. وفي صيف العام المذكور بدأ سعر الدينار ينخفض بوتائر غير مسبوقة، وكان أحد أسباب ذلك هروب صهري الرئيس صدام حسين وهما حسين كامل وصدام كامل ومعهما ابنتا الرئيس العراقي وعدد من أقاربهما. ما أن حلت نهاية العام 1995 حتى كان سعر الدولار يحلق على ارتفاع 2600 دينار عراقي. ورافق ذلك ارتفاع آخر في الأسعار وتدهور في الحالة الاقتصادية للبلاد يرافقه الدينار في الحالة المعاشية للمواطنين. وكانت تلك فترة تقلبات سريعة في سعر الدينار جعلت أسعار سلعة ما في أول سوق الشورجة قلب بغداد التجاري تختلف عنها في نهايته. وشبه أحد العراقيين الوضع في العراق آنذاك بوضع من يعيش داخل كازينو كبير للعب القمار، فقد تشتري اليوم سلعة بمبلغ ما لتصحو في اليوم التالي على السعر وقد انخفض إلى النصف، أو أنه ارتفع إلى الضعفين. ومع حلول العام 1996 كان سعر الدينار ينخفض إلى نحو الثلاثة آلاف للدولار الواحد.