الديبلوماسي الأميركي الراحل فيليب حبيب هو موضوع كتاب "ملعون هو صانع السلام" لجون بويكن، تنشر دار النهار في بيروت قريباً ترجمته العربية التي أنجزها غسان غصن. كتاب عن فيليب حبيب ولكن، ايضاً عن الديبلوماسية والحرب والنهج السياسي والصراع العربي - الاسرائىلي من خلال أزمة حصار بيروت وترحيل منظمة التحرير الفلسطينية قيادة ومقاتلين. فيما يلي حلقة ثانية مما اخترنا، تبين صورة الصراع بين الديبلوماسية الأميركية ممثلة بفيليب حبيب والعسكرية الاسرائىلية العدوانية ممثلة بآرييل شارون... من البديهي ان التوافقية بين آرييل شارون ومناحيم بيغن هي المزيج الحفّاز الذي زوّد وقود حصار بيروت، لكن التواترات بين الرجلين بدأت تطفو على السطح في اواخر تموز يوليو. وفي وقت متأخر من ليل 9/9، نقل لويس الى بيغن خطة حبيب الشاملة "النهائية" وعلى رغم آلام بيغن من جرح في رجله، فقد قرر الاهتمام شخصياً بهذا الأمر، وأمضى جزءاً كبيراً من الليل في دراسة الخطة. عندما اجتمع لويس به وبشارون في صباح اليوم التالي لمراجعة الخطة معاً، لم يبدُ رئيس الوزراء في حال جيدة، وأظهر طوال الاجتماع انزعاجاً من شارون وعدائية نحوه. اثار لويس مسألة ظن انها لم ترد من قبل، وهي شعور حبيب بأن القوات السورية التي ستغادر بيروت ايضاً مع المنظمة يجب ألاّ تعامل كجيش مذلّ". اضاف بيغن عندئذ ان في حال تطبيق تعديلات وشروط معينة، بما فيها توقيت الدخول الفرنسي "فإننا نقبل الخطة من حيث المبدأ العام" - ينبغي على الحكومة بالطبع اتخاذ القرار النهائي، لكن هذه هي توصية رئيس الوزراء. وقال لويس: "من الواضح ان بيغن يريد استكمال الخطة الشاملة وتطبيق حل سياسي سريعاً". بحلول ذلك الوقت، كما قال لويس في احد تقاريره اصبح بيغن "فائق الحساسية تجاه الاتهامات المتنامية بأن آرييل شارون يقوده هنا وهناك من أنفه، ويأمر بعمليات عسكرية على مسؤوليته". ومن الجلي ان بيغن ذُعر من احتمال الانهيار التام للحل الديبلوماسي، فدعا حبيب الى القدس للتحدث عن الخطة، فرأى المبعوث الأميركي في ذلك الاجتماع فرصة سانحة كي "يجادل بيغن من فوق، فيما يبدو الزخم متحولاً". وفي تقييم لويس ان رئيس الوزراء الإسرائيلي "يلتمس المساعدة منا للحصول على حل سياسي. وينبغي وجود فيليب هنا لدعم بيغن". عندما اجتمع الرجلان في اليوم التالي، الحادي عشر من آب، اعتذر بيغن في حكم الواقع عن غارات شارون الجوية على بيروت الغربية في وقت سابق من ذلك النهار، قائلاً ان الهجوم شنّ قبل تمكنه من تبليغ شارون بألاّ يفعل ذلك. وقد تشبّث شارون بتقييده الصارم لفترة بقاء القوة المتعددة الجنسيات، خصوصاً الوحدات الفرنسية، في بيروت، لكن اللافت للانتباه ان بيغن لم يقل اي شيء لمساندته. وفي اثناء "محاضرة" من شارون لحبيب عن ضبط النفس الذي اظهرته اسرائيل حتى الآن في مواجهة استفزازات حديثة العهد، مع الإيحاء الضمني بأن ضبط النفس هذا سينتهي عاجلاً وليس آجلاً، قاطعه بيغن وقال: "لا نريد دخول بيروت الغربية في ضوء التطورات الأحدث عهداً، ولن ندخل بيروت الغربية. إننا نعتبر هذه المسألة منتهية، بما اننا الآن في طور التنفيذ التقني للخطة". من البديهي القول ان هذه هي الكلمات التي عمل حبيب تسعة اسابيع بانتظار سماعها، فقد وافق بيغن الآن جوهرياً، كما وافق العرب اخيراً في الوقت نفسه تقريباً. ظن حبيب ان القادة العرب وافقوا على التنفيذ قبل ذلك بأسبوعين، لكنه اخطأ في ظنه، إذ لم تترسخ مع انقضاء الأيام في آب تلك العروض التي اعتقد انه تلقاها في الشهر السابق بتوفير الملاذ لقادة المنظمة ومقاتليها. عندما لم تتمخض الجهود والعروض عن نتائج ملموسة، قرر حبيب والمسؤولون في وزارة الخارجية الأميركية تغيير نقاط التركيز. في اوائل آب، مارس الأميركيون ضغوطاً هائلة على تونس لقبول نسبة كبيرة من المقاتلين وأيضاً، بالأهمية ذاتها على الأقل، لقبول قيادة المنظمة. فعلاً، لم يرد التونسيون اي شيء من هذا القبيل، لكن الولاياتالمتحدة حاجّت بأن لتونس - البعيدة عن اسرائيل نحو ألفي كيلومتر - ميزة البعد الجغرافي عن المنطقة. وقال الأميركيون: كلما اقترب الموقع الجديد للمنظمة ومقاتليها من إسرائيل ازدادت المشاكل الممكن ان يتسببوا بها لإسرائيل، وازداد احتمال اقدام الإسرائيليين على تعقبهم في البلد الجديد المضيف لهم. لكن تونس ابعد بكثير من ان يعرّض الفلسطينيون فيها إسرائيل لأي خطر، ثم ان تونس ستجني في المقابل بعض الثمار. بعد المراوغة الكلامية الوافية، رضخ التونسيون للأمر في العاشر من آب، وأعلنوا موافقتهم على قبول قيادة المنظمة ومكاتبها وبعض مقاتليها. وبعد قدر مماثل من المراوغة، وافق عرفات على الذهاب الى تونس. فجأة، اصبح من السهل على الدول العربية الأخرى، اكثر بكثير من السابق، ان تنضم الى القافلة. وافقت الجمهوريتان اليمنيتان على استقبال عدد من المقاتلين، وأعرب السودان عن استعداد مماثل، كما اكدت الحكومتان السورية والأردنية ما اعلنتاه سابقاً. تواصل قصف شارون لبيروت على نحو عنيف ومتسارع، كأن ما من شيء يحدث على الجبهة الديبلوماسية. فكلما بدا ضرب بيروت الغربية اقل ضرورة، زاده شارون حدة وكثافة - طوال اربعة ايام متتالية من التاسع الى الثاني عشر من آب، الذي بلغ فيه السيل الزبى. ففيما اجتمع حبيب بضباط الارتباط من مشاة البحرية الأميركية في اليرزة لإطلاعهم على نتائج اجتماعه ببيغن في اليوم السابق، بزّ شارون حتى نفسَه بأعنف القصف الإشباعي وأشده ترويعاً وإرعاباً منذ بدء الحرب. يقول ضابط من المارينز راقب "القصف الكاسح المفاجئ" وهو واقف مع حبيب في اليرزة ان الوضع بدا "فعلاً" وكأنها الحرب العالمية الثانية امامك: "يا رباه، كأنهم يقصفون برلين!". في لحظة النجاح نفسها، تبخّرت الديبلوماسية. رفض الوزان مجدداً التوسط مع منظمة التحرير الفلسطينية، سائلاً حبيب عن جدوى الاستمرار في هدر وقته محاولاً التفاوض مع المنظمة، فيما يدمّر الإسرائيليون عاصمة بلاده، على رغم جهوده وجهود المبعوث الأميركي! وقال لحبيب: "اننا في الواقع نترك وحشاً ضارياً يفعل بالضبط ما يحلو له فعلُه". لم يستطع الوزّان ان يفهم كيف ان الولاياتالمتحدة لا تستطيع منع ما يجري، اذاً، فلا بد تالياً من وجود تواطؤ. يقول لويس ان ذلك القصف الكاسح الوحشي في الثامن عشر من آب اغسطس كان "القشة التي قصمت ظهر البعير في نظرة بيغن الى شارون"، فقد اغتاظ بشدة من شارون بسبب ذلك القصف، الذي أوقعه في حرج شديد. ويقول شولتز: "بدا على نحو متزايد كأن بيغن أشبه بضحية لتلاعب شارون به طوال الحرب". أما رئيس الوزراء الاسرائيلي نفسه، فقد ذكر انه لم يعرف اي شيء عن ذلك الهجوم الا بعد شنه بفترة طويلة، وانه حظّر على شارون اتخاذ اي اجراءات عسكرية اخرى من دون موافقته، ملمحاً بحدة ووضوح الى انه قد يطرده من الحكومة. كذلك، طفح كيل مجلس الوزراء من شارون، وسأله احدهم: "ما هو الهدف من تخريب التسوية السلمية؟". وقال له وزير آخر إن "ما يجري حالياً مضاد لقرار الحكومة". صرخ شارون قائلاً: "ان أي قرار بعدم التقدم قرار سيئ"، فردّ بيغن مزمجراً: "إياك ان ترفع صوتك! ينبغي ان تعرف من يدير الأمور هنا!". واتخذت الحكومة الاسرائيلية قراراً بتجريد وزير الدفاع من سلطة استعمال الطيران الحربي، وهو إذلالٌ عميق له، وتصويتٌ إداني بحجب الثقة لم يسبق له مثيل في تاريخ اسرائيل. بمجرد ان قيّد بيغن يدي شارون في 12 آب، تمكن حبيب من العودة الى العمل، وتذليل عائقين رئيسيين عالقين، اولهما موعد دخول القوة المتعددة الجنسيات الى بيروت. وبعد جولة مكثّفة من الأخذ والردّ، تخلى بيغن اخيراً عن المجادلة في 15/8 ووافق على ان في استطاعة الفرنسيين دخول بيروت في اليوم "ي"، اليوم المحدد لبدء الاجلاء. تمحور العائق الثاني حول الاصرار على معرفة اسماء مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية المطلوب اجلاؤهم. فقد ترددت تقديرات عديدة عن عدد المجلوين من أفراد المنظمة، لكن ما من احد عرف فعلاً من هم هؤلاء الناس. اراد الاسرائيليون قائمة محددة ودقيقة بجميع اسمائهم، وأراد الاردنيون قائمة بأسماء المتوجهين الى الأردن. أراد الاسرائيليون معرفة هوياتهم، جزئياً لأغراض استخبارية وجزئياً لأن محللي استخباراتهم اعتقدوا بأن المنظمة تخطط لإبقاء ما بين ألفي مقاتل وألفين وخمسمئة وإجلاء اشباه لهم. وأراد الأردنيون معرفة الهويات، جزئياً كذريعة لرفض بعض المرحّلين الى الأردن وجزئياً لأن ليس هناك بلد يريد ادخال مهاجرين من دون ان يعرف على الأقل من هم. زال الآن كل من العائقين الرئيسيين العالقين، وبدأ الاسرائيليون اخيراً بحلول الخامس عشر من آب يتحدثون عن الخطة كنتيجة محتومة. لكنهم هرعوا لعصر آخر كل نقطة ممكنة لفائدتهم ومصلحتهم. ففي 17/8 قدم شارون الى حبيب قائمة بأحد عشر مطلباً جديداً مجردّ مقدار قليل يُذاق من طعم "عشرين مليون اقتراح للخطة" قال حبيب إن اسرائيل قدمتها اليه منذ بدء الحرب. لبّى بعض النقاط التي تمكّن من تلبيتها، ورفض بقية المطالب رفضاً حاسماً. في التاسع عشر من اب، وافقت الحكومة الاسرائيلية اخيراً على خطته على رغم بعض التفاصيل المطلوب استكمالها وأصبحت الصفقة جاهزة على نحو راسخ. اخيراً، بعد لأي، بعد عشرة اسابيع قاسية، مرهقة، من الاحباطات والاساءات والنكسات المتواصلة، نجح فيليب حبيب. قبِل الاسرائيليون خطته رسمياً، وتقرّر بدء الاجلاء بعد ذلك بيومين. بالطبع، تحمّست واشنطن لاعلان نجاحه، فالرؤساء يحبّون اعلان النجاحات، ومستشاروهم يحاولون دائماً تنسيق تلك الاعلانات لتحقق اقصى ما يمكن من التأثير ولفت الأنظار. وهذا النجاح بالذات هام جداً، لأنه فعلاً النجاح الرئيسي الأول في السياسة الخارجية يمكن لادارة ريغن التباهي به. ولكن حتى في يوم توقيع الاسرائيليين نهائياً على الخطة، بقي حبيب متخوفاً وشاعراً بأن اي اعلان صادر عن ريغن في هذا الصدد "سابق لأوانه ومحفوف بالمخاطر"، لأن ثمة أموراً عدة قد تنتكس او تتعرقل. وهذا فعلاً ما حدث فوراً، على رغم ان المشكلة نفسها لم تكن متوقّعة، ولم تكن من الاسرائيليين او الفلسطينيين، وإنما من اللبنانيين. فموعد انعقاد مجلس النواب لانتخاب رئيس جديد للجمهورية هو بعد أربعة أيام، وزعيم الميليشيا المسيحية المارونية بشير الجميل هو المرشّح الوحيد. لعب بشير لعبة قاسية لا تعرف المساومة لضمان نجاحه، يمكن وصفها بأنها ذكية، حيث استغل الاجلاء للابتزاز. فخطة حبيب تدعو الى تسليم الاسرائيليين مواقعهم في منطقة المرفأ الى الجيش اللبناني ليلة الجمعة، العشرين من اب، ودخول الفرنسيين الى المنطقة صباح السبت، كي تتمكن قوات منظمة التحرير الفلسطينية من المغادرة عبر المرفأ بعد الظهر. لكن بشير عقد في هذا اليوم، الخميس، صفقة مع الاسرائيليين لتسليم مواقعهم في محيط المرفأ للميليشيا التي يتزعمها. وإن لم يؤمّن المسلمون ذلك النصاب القانوني المطلوب، فلن تسمح ميليشيا بشير بنزول الفرنسيين في المرفأ. لا نصاب اذاً لا قوة متعددة الجنسيات، لا "متعددة" إذاً لا اجلاء، لا اجلاء، اذاً لا نهاية للحصار. استشاط حبيب غضباً، ليس فقط على بشير الجميل وإنما ايضاً على الحكومة اللبنانية. فمنذ اسابيع وهو يوجه المسؤولين اللبنانيين الى كيفية التصرف كحكومة ذات سيادة، والى اعادة إحكام سيطرتها، أقله على العاصمة. ولسوف يعلن نفسه الى الأبد إن هو سمح الآن بتفكك عملية الاجلاء لمجرد ان المسؤولين اللبنانيين أضعف من ان يقدروا على التصدي لبشير. اجتمع بالرئيس سركيس وقال له: "سوف أتعامل فقط مع حكومة واحدة على حدة. ان كنت أنت لا تريد وصول القوة المتعددة الجنسيات، فعليك انت ان تقول ذلك. ان هذه القوة تجيء بناء على طلبك... اذا حاول بشير عرقلة المجيء بعد ان طالبتنا أنت بأن نأتي، فإننا لن ننزل الى الشاطئ... لكنك انت تتحمل عندئذ ملامة بقاء المدينة تحت الحصار. عليك انت تحمل الملامة اذا نفد صبر الاسرائىليين ودخلوا، ومزقوا المكان. عليك انت تحمل الملامة اذا انهار وقف اطلاق النار، لأنني انا لن اتحملها. واذا طال الامر اكثر مما ينبغي، فإنني سأمتطي صهوة حصاني وأخرج من هنا" ان كانت هذه هي الطريقة التي ستدير فيها بلدك". بعد ذلك، صب جام غضبه على بشير، موقفه بسيط وواضح، فهو يدعم انتخاب بشير رئىساً للجمهورية" لكن الوضع الآن اكبر بكثير من هذا الانتخاب. قال له ان من غير المقبول اطلاقاً افساد العملية كلها بمنع وصول القوة المتعددة الجنسيات. اذا فعل ذلك، فإنه يقضي بضربة مهلكة واحدة على ما لديه من دعم اسرائىلي ودعم اميركي، وعلى اي دعم لبناني قليل يحظى به خارج زمرته. اذا انهارت عملية الاجلاء، فمن الممكن جداً اشتعال فتيل الحصار مجدداً - حيث يبقى بشير مترئساً على عاصمة اشبه بالقفر المسود بالدخان، من دون اي اصدقاء له داخلها او خارجها. هل هذه هي الرئاسة التي يريدها؟ لم يستطع بشير التراجع عن موقفه، من دون خطوة ما تنقذ ماء الوجه" لذلك، كما يقول درايبر: "نسج فيليب وبشير من خيالهما مسرحية قصيرة بارعة من فصلين". ففي صباح اليوم التالي، جمع درايبر ممثلين لفرنسا والجيش اللبناني وحشد من الاعلاميين" ثم "توجه على رأسهم، نيابة عن حبيب، الى مقر قيادة جماعة بشير في المرفأ. هناك، "عقدنا اجتماعاً معداً للتباهي ولفت الانظار مع بشير وكبار مساعديه كي نبحث ما سيحدث في عملية الاجلاء". اعجب رجال بشير اعجاباً شديداً بذلك الاستعراض الاميركي العلني لأهمية زعيمهم، ولم يروا تالياً اي تراجع منه عندما سحب تهديده. على اثر ذلك، قال حبيب لتشارلي هل: "ألا تعرف الآن لمَ قلت لكم الا تدعوا ريغن يدلي بأي تصريحات؟ يجب ألا يصدروا اي تصريح قبل ان يبدأ اول رجل بالتحرك". اياكم ان تقدموا على ذلك قبل وصول الفرنسيين ووجود السفينة وقوات منظمة التحرير الفلسطينية في الطريق اليها". وأضاف ان التحرك سيبدأ تقريباً في منتصف الليل بتوقيت واشنطن، ولذا فإن على المسؤولين الاميركيين الانتظار حتى صباح السبت للادلاء بما يريدون من تصريحات وبيانات. وختم الاتصال بمزيج من الهزل والجد، قائلاً ان واشنطن ستفوتها قطعاً فرصة الطنطنة بالنجاح في كل تلك البرامج التلفزيونية الرئىسة مساء الجمعة" لكن الوضع يتطلب توخي الحذر وعدم التسرع. غير ان ريغن لم ينتظر. ففي التاسعة والنصف من صباح الجمعة، العشرين من آب، بتوقيت واشنطن - بعد ثلاث ساعات من تلقي هل اتصالاً من درايبر بأن "من الممكن" ازالة العقبة التي وضعها بشير - خرج الرئىس الاميركي الى حديقة البيت الابيض وأعلن الصفقة امام وسائل الاعلام: "كانت المفاوضات لتنشئة هذه الخطة بالغة التعقيد، وجرى اعدادها في اشد الظروف عسراً. في بعض الاحيان، كان من الصعب تخيل كيفية التمكن من التوصل الى اتفاق، ومع ذلك فقد تم التوصل اليه. ان الحصافة السياسية والشجاعة لدى الرئىس سركيس وزملائه في الحكومة اللبنانية تستحقان تقديراً خاصاً، مثلما يستحقه العمل الاستثنائي الروعة للسفير حبيب. لم يفقد فيليب الامل مطلقاً، وفي النهاية انتصرت روحيته وعزيمته. اننا كلنا مدينون له بالامتنان العميق". لم يكن لدى حبيب اي وقت للتهاني، اذ لا تزال هناك حرائق في الادغال ينبغي اطفاؤها. فطوال التذبذبات والترجحات لمنظمة التحرير الفلسطينية خلال الاسابيع العشرة المنصرمة، ظل امر واحد على الاقل ثابتاً لا يتغير ولا يتبدل" وهو الخوف من ان تتعرض الاسر الفلسطينية الباقية في لبنان، بعد مغادرة المقاتلين، الى مذابح يرتكبها الاسرائىليون او حلفاؤهم اللبنانيون الكتائبيون. للتسكين من مخاوف المنظمة، ادخل حبيب في خطته كل الاجراءات الوقائية التي تمكّن من ادخالها اي تلك التي تسمح بها اسرائىل ووزارة الدفاع الاميركية لضمان سلامة المدنيين. تلقى من الاسرائىليين توكيداتهم على ان قواتهم لن تدخل بيروت الغربية بعد مغادرة منظمة التحرير الفلسطينية ومقاتليها، ولن تقوم بأي اعمال انتقامية ضد الفلسطينيين الباقين في لبنان. كذلك حصل على توكيدات مماثلة يوم الخامس من آب من بشير الجميل، نيابة عن الميليشيا الكتائبية. وزود حبيب منظمة التحرير مراراً وتكراراً بتوكيدات اميركية، شفاهية وكتابية ايضاً، على ضمان سلامة المدنيين. كان له ملء الثقة في استقامة الولاياتالمتحدة بدعم ضماناته، وأدنى حد من الثقة في الاسرائىليين او حلفائهم الكتائبيين، لكنه ادرك بألم شديد انه يضمن سلوك هاتين الفئتين وتصرفهما. فتوكيداته لن تكون صادقة إلا اذا صدقت التوكيدات الاسرائىلية والكتائبية، التي بنى عليها ضماناته للفلسطينيين. والسؤال هو: كيف يمكنه تصديق توكيداتهم وتأكيداتهم بعد كل ما اختبره طوال الاسابيع العشرة المنصرمة؟ لقد شعر قطعاً بأن شارون خدعه وكذب عليه مراراً وتكراراً إبان متابعته الحثيثة لتحقيق هدفه العسكري باقتلاع منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، لكنه اعتقد ان اعتماد الازدواجية والنفاق، بعد انجاز ذاك الهدف العسكري" لم يعد بالتأكيد في مصلحة اسرائىل. على هذا الاساس، حدد حبيب للفلسطينيين رسمياً وبدقة ان "الولاياتالمتحدة ستقدم ضماناتها لسلامة المدنيين بناء على توكيدات تلقتها من حكومة اسرائىل ومن قيادة مجموعات لبنانية معينة كانت وما زالت على اتصال بها"، اي الكتائب اللبنانية. على صعيد غير رسمي، قال لهم عبر الوسطاء: "انا حمايتكم". بقبول خطة حبيب، قبل عرفات رسمياً كل هذه التوكيدات. ولكن، مع اقتراب لحظة الصعود فعلياً الى السفن ومغادرة لبنان، اشتدت حدة الهاجس العاطفي لعرفات بشر مقبل، ووجد حبيب نفسه مضطراً الى اعطائه دفعة اخيرة من الطمأنة. حصل على التوكيدات الاسرائىلية مجدداً، ثم اجتمع ببشير الجميل في منزل السفير ديلن وبحضوره. لم ينظر هذا الصبياني البالغ من العمر اربعة وثلاثين عاماً في اي يوم على الاطلاق بجدية، الى ذاك "الرجل القصير الغريب الاطوار، المسمى عرفات"، فنكّت عليه بضع مرات" مع انه سارع بعد كل مرة الى القول: "طيب! اعرف ان هذا الامر جدي". ولأن الديبلوماسيين لا يستطيعون اختيار نظرائهم، فإن عليهم التعامل مع الموجود. لذا، احتمل حبيب تلك التصرفات ليرسخ في ذهن بشير شدة خطورة الوضع" خصوصاً انه وديلن يتوقعان وصوله الى الرئاسة خلال ايام معدودة. فمهما تكن شدة كرهه للفلسطينيين، ومهما تكن كثافة الدماء المتجمدة على يديه، فمن الصعب ان يتحمل رئىس مقبل للجمهورية كلفة التلطخ بدماء جديدة على يديه، ارتسمت على وجه بشير لدى سماعه تلك الاقوال ابتسامة ساخرة فيها اشمئزاز مستتر، فسرها ديلن بأنها تعني: اعتقد انه ليس لدي اي خيار سوى التعاون، اذاً؟ عندئذ، اعطى حبيب مرة اخرى ضمانته الشخصية بأن قواته لن تتخذ اي اجراء بحق الفلسطينيين الباقين في لبنان. غادر بشير منزل السفير، ووصل الوزان" فأطلعه حبيب على ما قاله بشير. ارتاح رئىس الوزراء اللبناني، ورفع سماعة الهاتف للاتصال بعرفات - ضاغطاً على زر مكبر الصوت، كي يتسنى للآخرين سماع المكالمة. أصيب عرفات بالهلع، ولفت انتباه حبيب وديلن على نحو آسر الكرب الشديد في صوته وملامح الكرب المماثل على وجه الوزان. قال عرفات انه لا يستطيع المغادرة لأن ابناء شعبه الباقين من دون مقاتلين سيتعرضون للقتل العمد. وجه حبيب رئىس الوزراء اللبناني بالفرنسية، وتحدث الوزان الى عرفات بالعربية، كما استعملت بضع كلمات انكليزية هنا وهناك. جرب الوزان كل حجة ووجهة نظر تمكن هو وحبيب من التفكير فيهما لاقناع عرفات بأن التوكيدات مخلصة، وبأن الاجراءات الوقائية مضمنة في الخطة الشاملة. فالقوة المتعددة الجنسيات ستبقى لحماية المدنيين، وهذا الامر جوهري في مهمتها ومن مقومات وظيفتها. كما ان المستطاع اعداد ترتيبات امنية دائمة خلال وجود تلك القوة، وقبل انتهاء مدتها. اضف الى ذلك، ان الولاياتالمتحدة تجازف باسمها كضامنة للتوكيدات الاسرائىلية والكتائبية. بعد الاصغاء الى كل الحجج ومساءلتها واحدة تلو الاخرى طوال خمس عشرة دقيقة موجعة، قبل بها عرفات اخيراً وقال انه ورجاله سيبحرون من لبنان. تمثلت احدى عقد اللحظات الاخيرة في اصرار بيغين على عدم بدء الاجلاء قبل استعادته جنديين وقعا في الاسر ورفات تسعة جنود، بمن فيهم على الاقل اربعة قتلوا خلال الغزو الاسرائىلي عام 1978 ومن الطبيعي ان منظمة التحرير سعت الى مقايضة الجنديين والرفات بأسرى الحرب الفلسطينيين لدى اسرائىل، لكن حبيب قال للمنظمة ان الوقت قد فات كثيراً لاجراء مثل تلك المقايضة" وان عليها تسليم الرفات من دون قيد او شرط. وعندما هددت العقدة المستعصية باغراق الصفقة كلها، اخترقها حبيب بتوجيه رسالة تنص على ان الولاياتالمتحدة مشغولة البال بمصير اسرى الحرب الذين تحتجزهم اسرائىل وبأسلوب معاملتهم، وان هؤلاء الاسرى يجب ان يعاملوا وفقاً لما تقتضيه الاتفاقات الدولية، وان الولاياتالمتحدة ستواصل التحدث مع اسرائىل في شأنهم. بدت تلك الرسالة وافية بالمراد، فتخلت منظمة التحرير عن اصرارها على المقايضة. ما هو التقدّم المفاجئ الباهر باتجاه حلّ المشكلة، ومتى حدث؟ لا تجد أي إجماع في الرأي بهذا الصدد في صفوف المشاركين، أو المراقبين. فثمة حجّة مقنعة ممكنة، مفادها ان التقدّم المفاجئ يعود الى قبول بيغن خطة حبيب من حيث المبدأ، في العاشر من آب. ويقول شارون ان قصفه الكاسح في الثاني عشر من ذلك الشهر، وإنذاراً نهائياً يُظنّ ان حبيب وجّهه بعد القصف، هما اللذان أقنعا عرفات أخيراً بوجوب المغادرة. ويعزو الكثيرون من الأميركيين في تلك المرحلة حدوث التقدّم المفاجئ جازمين، الى اتصال ريغن هاتفياً في 12/8 ومطالبته الاصرارية بأن توقف اسرائيل ذاك القصف بالذات. كما يشير بعض الناس الى القصف في الرابع من آب، أو في الحادي عشر والثاني عشر منه، بينما يشير بعضهم الآخر الى قرار تونس في العاشر من ذلك الشهر بقبولها قيادة المنظمة ومكاتبها وعدداً من مقاتليها، أو الى قرار الرئيس السوري في اليوم عينه بقبول معظم المقاتلين. ويرى أحد المراقبين ان الدافع عائد الى رسالتي حبيب في الثامن عشر والتاسع عشر من آب، المتضمنتين ما تطلّبته منظمة التحرير من توكيدات وتطمينات. غداً حلقة ثالثة أخيرة.