مساء الجمعة 25 شباط فبراير الماضي تجددت "الحرب الباردة" في ليلهامر. انها ليلة البرنامج الفني للتزحلق على الجليد. المنافسة ضارية بين الاميركية نانسي كاريغان والاوكرانية اوكسانا بايول. الاميركيون كلهم وراء بطلتهم المفضلة، الحسناء، التي تمثل انتصار "الخير" على الشر الذي حاولته ضدها مواطنتها تونياها هاردنغ. الاوكرانية، وحدها، تحمل على اكتافها ذكريات طفولتها المعذبة وعلى قدمها آثار الحادثة التي تعرضت لها صباح يوم المنافسة. الاميركية هي الاولى حسب نقاط البرنامج التقني. تدخل الحلبة تقوم باستعراضها. تليها بايدل. حان وقت الحسم. هيئة الحكام مؤلفة من 9 أشخاص. أربعة منهم يعتبرون الاميركية فائزة: الاميركي، الياباني، الكندي، البريطاني. الأربعة الآخرون يعتبرون الاوكرانية هي الفائزة: الاوكراني، البولوني، الصيني، التشيخي. يتردد التاسع، الالماني، ثم يقترع لصالح بايدل. التحقيق البسيط والسريع يثبت انه "الماني شرقي". الاصطفاف كامل اذاً. الغربيون يقترعون لاميركا والشرقيون لاوكرانيا. كما في مجلس الأمن أيام زمان. ليست هذه نكتة. هكذا جرى تقديم المنافسة والنتيجة. لو كانت المسابقة قبل سنة لكتبت الصحف حول وجود مدرستين في التزحلق اما هذه الايام فعادت لغة "الحرب الباردة" تقتحم عالم الرياضة لانها ببساطة عادت الى التداول في الحياة السياسية العامة. لا تتحدث وسائل الاعلام الا عن "جدار برلين" في ساراييفو، وعن عودة "الشرطي الروسي"، وعن "تحرك جثة الاتحاد السوفياتي"، و"يالطا الجديدة"، الخ... وكذلك تحفل تصريحات المسؤولين الروس والاميركيين والاوروبيين بمصطلحات اعتقد الكثيرون انها دفنت تحت ركام "الحائط" وأهيل فوقها تراب كثير في حرب الخليج. جاسوس روسي في ال "سي. اي. ايه" تحذير اميركي من النزعات الامبراطورية. خوف اوروبي من ضرب الاستقرار فوق القارة. تعليقات لا تحصى حول الاخطاء التي ارتكبتها واشنطن في دعمها لموسكو وهجوم عنيف على "المجموعة الروسية" المحيطة بالرئيس بيل كلينتون وأبرزها الرجل الثاني في الخارجية مستروب تالبوت. التهمة الرئيسية ان هؤلاء "نعاج" تتراجع امام تكشيرة الدب الروسي عن انيابه. هذه هي الاجواء العامة التي اعادت لمباراة رياضية المعنى الذي كان يطغى، سابقاً، على المنافسة الكونية بين نظامين عالميين. يصعب وضع هذه التطورات في اطارها من غير العودة الى المرحلة السياسية التي دشنتها في روسيا المواجهة بين الرئيس بوريس يلتسين ومجلس السوفيات الاعلى. انطلقت من حل البرلمان وقصفه بالدبابات واعتقال رئيسه رسلان حسبولاتوف ونائب الرئيس الروسي الكسندر روتسكوي وانتهت باطلاق سراحهما مع آخرين، في نهاية الشهر الماضي. دار الزمن دورة سريعة ليعول الى نقطة البدء. ولكن في السياسة، لابد من دفع الثمن والخاسر الاكبر، في هذا المجال، هو بوريس يلتسين الواقع، حالياً، في الحفرة التي حفرها للآخرين. أخطاء يلتسين اخطاء الرئيس الروسي اكثر من ان تعد. لقد شق الجبهة المؤيدة له ودخل في مواجهة مع حلفاء الامس الذين سبق لهم ان وضعوه حيث هو. خالف الدستور. حل البرلمان وسجل على نفسه انه يقبل بالرد على الاعتصام بالدبابات، تحرق "البيت الابيض". دعا الى انتخابات مبكرة مرفقة باستفتاء على دستور يعطي الرئيس صلاحيات واسعة جداً. تسامح مع عمليات التزوير لكنها من غير ان يكلف نفسه عناء الضغط على مؤيديه من اجل الانتظام في جبهة موحدة. وبما ان الشعوب الروسية كانت تعاني الأمرّين من "علاج الصدمة" فانها مالت بتلقائية، الى معاقبة المسؤولين عن هذه السياسة وهم من الذين يجمع اصدقاؤهم في الغرب على انتقاد استعلائهم واحتقارهم لآراء "الناس". تلقى هؤلاء هزيمة قاسية طال رذاذها الرئيس باعتبار ان ايغدر غايدار وبوريس فيودوروف وانصارهما اضعف من ان يحموه. حقق القوميون انتصاراً باهراً وكذلك كل من خاض الانتخابات بشعارات معادية للبرنامج الليبرالي. اعتبر يلتسين ان اصدقاءه هزموا غير انه فاز لأنه نجح في تمرير الدستور الجديد. هذه غلطته القاتلة. لقد مرّ الدستور بأغلبية ضئيلة متشكلة، في معظمها، من الاصوات التي التي منحه اياها زعيم اليمين القومي المتطرف فلاديمير جيرينوفسكي. يعني ذلك ان الرئيس بات من غير قاعدة شعبية، مؤيدوه اقلية برلمانية والاكثرية المؤيدة للدستور تدين بالولاء لخصومه. لم يتعظ. أبعد رموز الليبرالية ودفع فيكتور تشيرنوميردين الى الواجهة محاولاً ان يحكم عبر الوسط. غير ان رئيس الوزراء يملك برنامجاً خاصاً على الصعيد الداخلي: ضبط وتيرة التخصيص، اعطاء الاولوية للمعالجة الاجتماعية لنتائج السياسة الاقتصادية الليبرالية، التركيز على انعاش الآلة الانتاجية، تمثيل مصالح المركب الصناعي العسكري، التسامح مع قدر معقول من التضخم، ورفض شروط صندوق النقد الدولي، دعم الزراعة، الخ... انه برنامج يتعارض، في معظم بنوده، مع ذلك الذي رعاه بوريس يلتسين وشجعه منذ ان ساقته الاقدار الى تفكيك الاتحاد السوفياتي وحكم روسيا. هنا ارتكب يلتسين غلطة يكررها في كل مرة. بدل ان يتقدم لملء الفراغ وللضغط على موازين القوى الجديدة ولاستخراج اكثرية معتدلة قرر ان... يغيب . اختفى عن الانظار. وأصبحت اطلالاته على الروس قليلة مثل العملة النادرة. محبط قال اصدقاؤه. لا بل مريض. انه معتكف. لا بل يدرس سبل الرد على المعطى السياسي الجديد. حاول بيل كلينتون الاتصال به خلال 48 ساعة سابقة على توجيه الانذار للصرب فلم يفلح، برغم التكنولوجيا كلها، في التحدث اليه. غير موجود. الخط لا يرد. ربما ان موسكو تعج بالشائعات فقد كانت الأقرب الى التصديق هي القائلة بأن الرجل، مثل عادته افرط في الشرب وبانه ليس في حال تسمح له بمناقشة الرئيس الاميركي في تطورات الأزمة البوسنية ولا في مخاطبة مواطنيه لشرح خططه المستقبلية. التفسير الأقرب الى الصحة هو مزيج من هذه الاسباب كلها. غير ان هذا التفسير لا يلغي ان الروس افتقدوا رئيسهم في المرحلة اللاحقة لاعلان نتائج الانتخابات. لم ينجح احد في ملء هذا الفراغ. قادة التيار الليبرالي كانوا مشغولين بالادلاء بتصريحات لوسائل الاعلام الغربية يشرحون فيها اسباب هزيمتهم ويشككون بنوايا الحكومة الجديدة. فشلوا في التقاط انفاسهم وفي وضع حد للمشاكل التي تخترقهم وللحزازات التي تجعل من الواحد خصماً للآخر. قائد التيار القومي المتطرف، فلاديمير جيرينوفسكي، كان يتخبط في اقوال هوجاء تصدم المقترعين له لأنها تعدهم بحروب نووية لا تنتهي وبعداوات مع العالم اجمع. لم يفتح فمه الا ليهدد شعباً او دولة بالفناء الكامل ولم يكلف نفسه عناء قول كلمة جدية واحدة حول المشاكل الداخلية التي تتخبط بها بلاده. كلما أثيرت أمامه القضايا الاقتصادية أو الاجتماعية رد واعداً الروس بأنهم سيغسلون أقدامهم في المياه الدافئة. ولقد كانت النتيجة الطبيعية لذلك تراجع التأييد الممنوح له وهو تراجع لا تؤكده استقصاءات الرأي العام فحسب بل الاستقالات المتتالية من قيادة الحزب. لا يستطيع الشيوعيون السابقون ملء الفراغ فجمهورهم اعتراضي يدرك أنه لا يحمل مشروعاً للمستقبل وذلك، بالضبط، لأن حزبه لم يدخل المطهر الذي دخلته أحزاب شيوعية أخرى كانت حاكمة وعادت منه الى السلطة. أما فيكتور تشيرنوميردين فان "رماديته" كفيلة بترك أي فراغ على حاله. المهم ان روسيا مرت، داخلياً، في مرحلة ارتباك لا يكفيها ان الحكومة كانت تضع، شيئاً فشيئاً، لبنات سياستها الجديدة. فالمشكلة في روسيا أكبر كثيراً من ان تحل باجراءات حكومية لا تنتظم في مشروع وطني كبير يخاطب الوجدان المتعرض لاهتزاز عميق. كان مقدراً لهذه المرحلة الضبابية أن تنتهي مع القاء بوريس يلتسين خطابه أمام النواب. سيضطر الى تحديد سياسته وسيحصل الفرز المطلوب. غير أن الدوما استبقته وفجرت في وجهه قنبلة لم يكن يحسب حسابها: العفو عن متمردي 1993 وانقلابيي 1991. سيناريوهات "الانهيار" انها ضربة سياسية موجعة جداً. ليس غريباً ان يصحبها حديث عن "انقلاب وشيك" و"حرب أهلية" و"مواجهات قريبة" وان تعلو الصرخات قائلة "ان البلاد لن تصل الى الصيف بخير" وان "الجيش سيحسم الصراع" وبأن "الانهيار الكبير هو وراء الباب". وبالرغم من ان الحياة السياسية الروسية حافلة ب "تهديدات" من هذا النوع فإنه من غير الجائز التقليل، هذه المرة، من أهمية هذه التحذيرات. وذلك لأسباب عديدة أهمها التالية: أولا، تبين ان الدستور الرئاسي مليء بالثغرات. الصلاحيات الواسعة للرئيس، وهي التي يمكن لأي بديل عن يلتسين استخدامها، لا تشمل حق العفو المتروك، بصورة غامضة، الى البرلمان. هذا الخطأ كان يمكن اصلاحه في بلد عادي باللجوء الى محكمة دستورية، غير انه في روسيا مدخل الى توتر سياسي شديد لأن الصراع يدور، منذ فترة، حول توزيع الصلاحيات. وتزداد حدة الصراع طبعاً من التوازن الهش بين القوى ومن ان الموضوع المطروح ليس "من يحكم روسيا" بل "من يملك روسيا". ثانياً، لقد حل يلتسين البرلمان السابق وبالضبط من أجل الخلاص من رسلان حسبولاتوف والكسندر روتسكوي. وأجرى انتخابات جديدة جاءت ببرلمان يعمد الى اطلاق سراحهما. لو كان القرار من المحكمة لكان الأمر هيناً. غير أنه قرار من البرلمان الجديد ما يعني انه خطوة سياسية بامتياز موجهة ضد ذلك الذي قصف البرلمان السابق. وبدل ان يناور يلتسين ويطاطئ الرأس أمام القرار وضع نفسه في موضع المواجهة معه. قال في البرلمان ان الفرق كبير بين المصالحة والعفو الشامل. وحرّك قوى للتصدي للقرار. وحض المحكمة على رفض تنفيذه. غير ان ذلك كله لم يمنع خروج الرجلين من السجن وان كان أعطى لهذا الخروج طابعاً سياسياً محدداً: ضرب هيبة الرئيس. ثالثاً، لا يشكل حسبولاتوف أي تهديد ليلتسين. فهو شاشاني مسلم ومريض ثم انه يقول انه ينوي الاعتزال. اما الكسندر روتسكوي فقصة أخرى. يملك الصفات التالية: روسي، جنرال سابق في الجيش، قاتل في افغانستان، انفك مبكراً عن الحزب الشيوعي، انتخب الى نيابة الرئاسة مع يلتسين، يتمتع بشعبية مؤكدة. واكب الاصلاحات الديموقراطية وتصدى لانقلابيي 1991، احتج على الآثار الاجتماعية للسياسة الليبرالية، واختلف مع رئيسه حول وتيرة "الاصلاحات" فحسب، الخ... أي انه في موقع استثنائي لتوحيد تيارات المعارضة القومية والشيوعية، ولمغازلة الفلاحين وموظفي القطاع العام، ولطمأنة الجيش وجد يلتسين صعوبة في تحريك وحدات ضده، من غير استفزاز تشيرنوبيردين ومع احتمال كسب بعض الليبراليين الذين يمكن لهم أن يستمعوا الى نصيحة نائب الرئيس الأميركي آل غور: المطلوب علاج أكثر وصدمة أقل! يخرج روتسكوي من سجنه في وقت يتراجع جيرينوفسكي ويثبت عجز الشيوعيين عن بلورة زعامة وطنية ويتأكد ان تشيرنوميردين يمكنه أن يكون "رجلاً ثانياً" معتدلاً لا "رجلاً أول". صورة روتسكوي وإذ ادخل في الاعتبار ان الدوما اقترعت للعفو عنه بأكثرية تقارب أربعة أخماس الأصوات تبين انه لا يتمتع بهالة الراغب في الثأر فقط بل بدعم برلمان شرعي جداً. ولهذا فإن خروجه من السجن يعيد فتح اللعبة السياسية باعتبار ان "خوفيدرالية" المعارضة باتت تملك بديلاً معتدلاً عن يلتسين يقيها شران. تتمثل في جيرينوفسكي الذي يريد تحويل مجموعة من الغرائز البدائية الى برنامج حكم. يقف روتسكوي، بالضبط، عند نقطة الربط الجديدة بين السياستين الداخلية ضبط وتيرة الاصلاح، معالجة اثاره، تدخل الدولة، الخ.. والخارجية وضع حد للتنازلات من طرف واحد، الاهتمام بالروس في الخارج، دور روسيا في دول الجوار، موقعها الأوروبي والآسيوي الموازي لحجمها، بحثها عن ندية جديدة مع الولاياتالمتحدة الأميركية، الخ...... ومن هنا خطره الشديد على بوريس يلتسين المتذبذب والمزاجي. ولقد أدرك هذا الأخير انه أمام معطى سياسي جديد. انه معطى ناشئ منذ أشهر وقد وصل الى ذروته في الأيام الأخيرة السلوك في ساراييفو خارجياً، وقرار الدوما داخلياً.... ولذلك تميز خطاب يلتسين أمام النواب بنبرة متشددة تكاد تستعيد حرفياً مجمل المطالب الذي سبق للمعارضة ان واجهته بها. غير ان هذا الخطاب لم يلق الاستحسان لسبب وحيد هو انعدام الثقة بالذي يلقبه وجنوح النواب نحو الحل الطبيعي: هذا الكلام يملك من يمثله فلا داعي لهذا "الوكيل" الرجراج الذي يمكنه أن يغير رأيه غداً. الدور الروسي لقد سبق لهذا "المعطى" الجديد ان أعطى ثماره في مجال السياسة الخارجية. من ذلك، مثلاً، منع حلف شمال الأطلسي من توسيع حدوده واستثناء روسيا والاستعاضة عن ذلك ب "الشراكة من أجل السلام". ومن ذلك، أيضاً، تكريس الدور في طاجيكستان، وقره باخ، ومولدافيا، وجيورجيا، والابقاء على حد أدنى من التوتر مع اوكرانيا وحد أعلى مع دول البلطيق... ومن ذلك أخيراً المبادرة في البوسنة والعودة القوية الى البلقان وتهميش أوروبا من أجل الدخول في حوار ثنائي مع واشنطن. وإذا كانت هذه المبادرة تستند الى اجماع وطني داخلي من البطريرك القسي الثاني الى الشيوعيين ومن جيرينوفسكي الى غايدار... فانها قابلة للتطور بحيث تصبح محكاً لعلاقات روسيا بعدد من الدول الغربية ومعياراً للنفوذ الروسي في أوروبا والعالم. تشير الدلائل كلها الى ان هذا الاتجاه سوف يتطور بحيث تطل روسيا جديدة على العالم لا هي ممثلة الاستكانة الكاملة والالتحاق بواشنطن ولا هي الساعية الى تجديد "الحرب الباردة". روسيا باحثة، كما بات يقول وزير الخارجية اندريه كوزيريف، عن "مصلحتها الوطنية" الصرفة، أولاً، بحاجات السياسة الداخلية الجديدة وليس بضرورة مراعاة المؤسسات النقدية الدولية والعواصم صاحبة القرار فيها. لم يعد السؤال المطروح في موسكو والعالم يتناول ما إذا كان التحول السياسي قد حصل وسوف يتطور. هذا أمر محسوم. السؤال الفعلي هو حول القيادة التي ستتحمل المسؤوليات في المرحلة المقبلة. بالطبع يمكن ليلتسين ان يفك عزلته ويغيّر جلده في انتظار الانتخابات الرئاسية في 1996 ولكن تسارع الأحداث يجعل الحديث مبرراً عن احتمال تغيرات فجائية يكون الانقلاب العسكري أكثرها درامية وتقريب موعد الانتخابات الرئاسية أكثرها شرعية.