بعد الانتخابات في ايطاليا، فاز الشيوعيون واليمينيون في الانتخابات في روسيا. ولئن كانت الامور جرت بصورة طبيعية، بهذا القدر او ذاك، في الاستفتاء على الدستور، فان نتائج انتخابات الجمعية الفيديرالية البرلمان صعقت الناس بكل معنى الكلمة، اذ تصدر قائمة الفائزين الحزب الليبرالي - الديموقراطي بزعامة فلاديمير جيرينوفسكي. وحسب رأيه فان الحزب يعتمد مواقف يمين الوسط، لكن خصومه يصفونه بأنه حزب قومي متطرّف وحتى "فاشي"، فيما يشبهون جيرينوفسكي نفسه بشخصية جان ماري لوبان زعيم "الجبهة الوطنية" الفرنسية. وتصدر الحزب الليبرالي - الديموقراطي قائمة الفائزين بحصوله على 25 في المئة من الاصوات، وتلته كتلة "خيار روسيا" الموالية للرئيس يلتسن بزعامة ايغور غايدار نائب رئيس الوزراء، حيث حصلت على نسبة 15 في المئة، بينما احتل الحزب الشيوعي الروسي المرتبة الثالثة حيث حصل على نسبة 11 في المئة من الاصوات. فكيف أمكن حدوث ذلك؟ البعض قال ان السبب هوة حدثت في وعي الشعب، بينما قال البعض الآخر انها غشاوة غطت عقل الشعب. ومهما كان الحال فان فوز جيرينوفسكي المثير لم يولد حتى البلبلة، بل ولد الفزع الحقيقي في اوساط "نجوم" النخبة السياسية الروسية الذين شاركوا في الاستعراض التلفزيوني "لقاء العام السياسي الجديد" مساء يوم الانتخابات. وحالما انتشر في ارجاء قصر الكرملين، حيث اقيم الحفل، نبأ فوز جيرينوفسكي، بدا وكأن الاستعراض تعثر. اذ ان رجال النخبة الديموقراطية، وبينهم الجهاز الاداري للرئيس وأعضاء الحكومة، اجتمعوا للاحتفال بفوزهم، لكن جذوته خمدت امام سمع وبصر الملايين من مشاهدي التلفزيون الروسي. وحين ظهرت على اللوحة المرفوعة وسط القاعة نتائج الانتخابات في المناطق اخفق الكثير من كبار المسؤولين في تمالك اعصابهم، حتى ان اناتولي تشوبايس نائب رئيس الوزراء المهذب جداً اطلق عبارات شديدة اللهجة، واصفاً حزب جيرينوفسكي علانية بالحزب "الفاشي". وفسر "الفوز الرهيب" للحزب الليبرالي - الديموقراطي بأنه ثمرة انقسام الديموقراطيين الذين لم يستطيعوا توحيد جهودهم عشية الانتخابات. وقال تشوبايس: "لقد ادى انقسام الديموقراطيين الى فوز الفاشيين في روسيا. ذلك هو الثمن الباهظ للخلافات". واستمر الاحتفال حتى الصباح، لكن امزجة المشتركين فيه لم تكن احتفالية البتة. وقال احد المدعوين ساخراً: "لقد دعونا الى عيد ميلاد، لكن المحتفى به انتقل الى جوار ربه". في اليوم التالي اعلن الناطق الرسمي باسم الرئيس ان بوريس يلتسن مستعد بشروط معينة للتعاون في البرلمان مع الشيوعيين، وكذلك مع النواب من الحزب الليبرالي - الديموقراطي. اما غينادي زيوغانوف زعيم الشيوعيين، فقال انه يمكن ان يتعاون مع العناصر البراغماتية في الحزب الليبرالي - الديموقراطي. اما جيرينوفسكي فأعلن على الفور عن امنيته في ان يقصى "بكل ارتياح" من الحكومة كلاً من ايغور غايدار وأناتولي تشوبايس نائبي رئيس الوزراء وكذلك وزير الخارجية اندريه كوزيريف، وعن استعداده لترشيح رئيس وزراء آخر بدلاً من فكتور تشيرنوميردين. لكن زعيم الليبراليين صار اكثر حذراً واحتراساً في تصريحاته التالية، اذ قال: "ان خط الحزب الليبرالي - الديموقراطي في البرلمان سيكون باتجاه تفادي المجابهة وتشكيل تكتلات متشددة. ونحن نسعى الى ان نصبح القوة الثالثة التي من شأنها ان تبعد الديموقراطيين والشيوعيين الراديكاليين الذين يمكن ان تتحالف معهم القوى اليسارية الاخرى. وحزبنا مستعد للمشاركة في الحكومة، اما في البرلمان فسيدعو الى الاستقرار في البلاد وتحسين معيشة الناس، ووضع حد للعنف وانهاء الحرب الاهلية". علماً بأن جيرينوفسكي، الذي نظم حملته الانتخابية بصورة ممتازة واستغل جميع امكانات التلفزيون الى اقصى حد، مستعد لتشكيل حكومة من حزبه فقط، لكنه لا يرفض المشاركة في حكومة ائتلافية يمكن تشكيلها، حسب قوله، على قاعدة "خيار روسيا". وكان لافتاً تأييد زعيم الليبراليين - الديموقراطيين الدستور الجديد وتوسيع صلاحيات رئيس روسيا الاتحادية، وهو شيء ضروري من "أجل احلال النظام في البلاد". وقال سياسي معروف من كتلة يافلينسكي طلب عدم ذكر اسمه في حديث مع "الوسط": "لم يكن الامر يستحق قصف "البيت الابيض" في 4 تشرين الأول اكتوبر لكي نحصل بدلاً من المعارضة السابقة على معارضة اخرى ممثلة بشخص جيرينوفسكي". وحسب رأيه فان اصلاحات غايدار التي ادت الى تدهور مستوى معيشة المواطنين وانتشار الجريمة في البلاد، لعبت دورها في مجيء جيرينوفسكي. وتتفق غالبية المراقبين على ان روسيا ستشهد على الاغلب برلماناً انتقالياً آخر يتميز بوجود معارضة قوية ممثلة بالقوميين المتطرفين والشيوعيين. ومن هذه الناحية تشبه الانتخابات في روسيا الانتخابات التي جرت في ايطاليا اخيراً حيث حقق الشيوعيون واليمينيون نجاحاً كبيراً. وليس مستبعداً امام هذا الوضع ان تشتد سيطرة الدولة والاحتكارات القريبة منها على الاقتصاد. اما على صعيد السياسة الخارجية فمن المتوقع اتباع سياسة من موقع القوة والتزعم في العلاقات مع الجمهوريات السوفياتية السابقة. وتشير الدلائل الى ان الناخبين الروس اتخذوا هذا الخيار في 12 كانون الأول ديسمبر 1993.