افترض أنك لفقت محركاً لسيارتك من قطع ومفردات مختلفة، ينتمي كل منها الى نظام وبلد وتاريخ: قطعة جديدة من "فورد"، وأخرى مستعملة من "مرسيدس"، وثالثة معدلة من "بيجو" أو "سوزوكي". هل يمكن لهذا المحرك أن يدور؟ ولنفرض أنه دار، هل تستطيع أن تدخل به سباقاً عالمياً، أو حتى أن تصل الى مكان يتوقف مصيرك كله على بلوغه في وقت مناسب؟ هذا هو بالضبط حالنا مع النظم السياسية والاقتصادية والثقافية التي نعيش في ظلها. بعد أن جمعناها من هنا وهناك، ظناً منا أننا نستطيع بواسطتها أن نعبر من التخلف الى التقدم، أو أن ندخل بها القرن الواحد والعشرين كما يقال. كل أنواع أنظمة الحكم موجودة عندنا، كأننا في متحف لتطور أشكال السلطة. ولدينا خليط من النظم الاقتصادية والاجتماعية، وأنواع وأصناف من المناهج العقلية والقيم الاخلاقية. فالمجتمع الرعوي يخترق المجتمع الزراعي، ونظام مُلكية الدولة يتعايش مع اقتصاد السوق. وعندما أراد بعض الحكومات أن يكون اشتراكياً لم يجد الا بعض الدكاكين فأممته، ووضعت صورة ماركس بلحيته الكثة فوق المقشات وأكياس الملح وقطع الصابون. والذين كانوا يدفعون أجور الحلاقين شعيراً وحنطة هم أنفسهم الذين يفتحون الآن، في المصارف الكبرى، حساباتهم بالاسترليني والدولار. وليس هذا التعدد مجرد تجاور، في بلاد اختلفت حظوظها من أسباب التقدم واختار كل منها نظاماً خاصاً يناسبه. بل إنه تداخل نجده في كل بلد على حدة، وهو من ناحية أخرى صراع بين نظم مختلفة ينفي بعضها بعضاً. فإذا أردنا أن نجمع بين العناصر المتضاربة داخل نظام واحد، نميل في الغالب الى تحكيم القديم الذي نرتاح اليه وتقديمه على الجديد الذي نتوجس خوفاً منه. هكذا نعطي الموتى حق التصرف في مصائر الاحياء. وتكون النتيجة أن الاشكال الجديدة تفقد قوتها، وتعجز عن القيام بنفسها وتظل عالة على الاشكال القديمة... وسواء كان الامر يتعلق بنا كأفراد، أو كجماعات، فهذا التمزق المشار اليه يبقى قائماً. قرأنا مثلاً في الصحف الصادرة خلال الفترة الاخيرة، أن سيدة مثقفة موظفة يئست من الأطبّاء بعد أن عجزوا عن ايجاد علاج للعقم الذي تعاني منه. فقيل لها إن أحد المشعوذين يستطيع أن يعالجها ويساعدها على الانجاب. وعرضت الامر على زوجها، وهو مثقف مثلها، فأذن لها بان تستقبل في منزلها هذا المشعوذ الدجال الذي انتهى به الامر الى الزواج منها نيابة عن الجني الذي سيدبر الأمر زواجاً عرفياً. ونقلها لتقيم معه في منزل مستقل، وكل هذا بعلم الزوج الاصلي وموافقته، فنحن هنا نواجه تمزقاً حاداً لا يجب أن نتجاهل ما فيه من خطر وتعقيد. من السهل أن نتهم الزوجة والزوج، بطلي هذه الحكاية المضحكة المبكية، الواقعية مئة في المئة، وأن ننهال عليهما بالاحكام المطلقة. لكننا بذلك نكون تجاهلنا المشكلة الجوهرية، واكتفينا بادانة فعل يتكرر في حياتنا كل يوم مرات لا تحصى بصور مختلفة. ولو تأملنا المسألة تأملاً هادئاً، لتبين لنا أولاً أن المسؤولية الاخلاقية عن فعل ما، تفترض في الفاعل أن يكون حراً غير مجبر. فهل كانت الزوجة حرة في مواجهة الدجال الذي تعتقد اعتقاداً راسخاً أن قدرته بلا حدود؟ وهل كانت حرة وهي تعلم أنها معرضة للطلاق، اذ سيتركها زوجها لامرأة أخرى، اذا لم تنجب؟ وهل كان الزوج حراً، وهو ورث من أبيه وأمه وأساتذته وزملائه في العمل، مجموعة خرافات. واذا انتقلنا من هذه الدائرة الفردية الى دوائر أوسع، واجهتنا المشكلة ذاتها. فنحن نضع خططاً للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. نستصلح أراضيَ زراعية، ونبني مدارس ومستشفيات ونخلق فرصاً جديدة للعمل. لكننا في النهاية لا نحقق شيئاً، لأن المجتمع الذي يخطط ويستصلح ويبني، هو نفسه المجتمع الذي يتزايد عدد سكانه بمعدلات تفوق معدلات التنمية التي يحققها. وهكذا نهدم - مرّة أخرى - بالتقاليد والقيم الموروثة، ما نبنيه بالمناهج والخطط والاجهزة العلمية الحديثة. واليوم نحن نسعى الى تحرير الاقتصاد من كل قيد، خصوصاً بعد أن انهارت الأنظمة الاشتراكية في العالم وأصبح اقتصاد السوق هو الموضة السائدة، والقاعدة الوحيدة، والايديولوجيا التي لا ينافسها منافس. واذا بنا ننضم الى الموكب، ونعود الى قوانين الرأسمالية، فنحول ما نملكه من مؤسسات عامة الى القطاع الخاص. لكننا نحافظ بالقدر نفسه، أو بحماسة أكبر على نظم الحكم الشمولية، وندعي أنها لا تتعارض مع اقتصاد السوق الذي نتصوره تصوراً ساذجاً. والحقيقة أننا لا نملك من اقتصاد السوق الا التجارة في أبسط اشكالها. نستورد معظم ما نستهلك لفئة محدودة من القادرين على الشراء. أما الانتاج، وما يحتاج اليه من انتشار المعرفة والسيطرة على الثروة القومية، وتشجيع المبادرات الفردية، واقناع الناس بالادخار واستثمار اموالهم في مجالات تتطلب المخاطرة والمغامرة... فهذا ما لا يفطن إليه الا القلائل. كما أن الانتاج لا يتحقق، الا بالتعاون بين المستثمرين والخبراء والايدي العاملة، وهي فئات اجتماعية تختلف مصالحها وقد تتضارب أحياناً. لا بد إذاً من منابر للتعبير، وأطر نقابية ومنظمات تمثل مختلف شرائح المجتمع المدني، وبوسعها التفاوض والتفاهم. فهل هذا ممكن في ظل راهننا السياسي؟ كما أن الدولة في مثل هذا المجتمع المنتج، تضطلع بواجبات ضخمة. إذ عليها أن تحافظ على أمن المجتمع واستقراره، وأن توفر له الخدمات والتسهيلات التي يحتاج اليها الانتاج في الداخل والخارج. ولا بد بالتالي من مؤسسات ديموقراطية، يشارك المواطن عبرها في اتخاذ القرارات، ويراقب تنفيذها حتى يشعر بالثقة والامان. فهذا هو الشرط الاساسي لاندفاعه في العمل بكل قوته، انطلاقاً من موقع المسؤولية الذي يحتله. وهكذا نرى أن اقتصاد السوق لا يمكن أن يقوم في ظل واقعنا العربي، وأن النظام الليبرالي كلٌ مترابط ترابطاً عضوياً، لا تنفصل فيه السياسة عن الثقافة أو الاقتصاد. * شاعر مصري