الحديث عن الإصلاح الاقتصادي في كافة الأقطار العربية من دون استثناء لا يتوقف أبداً، ولكن هل يتوقف الإصلاح الاقتصادي المنشود على بعض من الأمور الاقتصادية والمالية، مثل معدل الفوائد أو عجز الموازنة أو حتى البدء في بيع جزء من مكونات القطاع العام، أم أنه يتخطى هذا إلى تعديل في الأساس النظامي والمؤسسي؟ ربما كان من المناسب قبل أن نطرح هذا الموضوع أن نوضح معنى الإصلاح الاقتصادي. فالمعنى هنا هو تغيير النظام الاقتصادي القائم وتحويله إلى نهج اقتصادي أكثر كفاية وعدالة وجاهزية. وفي حالة العالم العربي، فإن ذلك يعني من الناحية العملية تحويل النظام الاقتصادي من اقتصاد الدولة، أي اقتصاد الأوامر، إلى اقتصاد السوق. صحيح أن حيز الإنتاجية في تطور دائم، ولكن هذا لا يعني أنه تم الانتقال فعلياً إلى اقتصاد السوق، فلا تزال الإنتاجية وبنسبة عالية خاضعة للقطاع العام. والتحول إلى اقتصاد السوق ليس مجرد فكرة عابرة أو الرغبة فقط في التغيير، وإنما هو أمر مفروض في هذه اللحظة التاريخية المهمة، لأسباب وعوامل متعددة يمكن حصر جلها في عاملين: الأول عملي والثاني نظري. يرجع العامل العملي إلى سيادة اقتصاد السوق على المستوى العالمي. فبعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الأنظمة الاشتراكية، تمكن النظام الرأسمالي والاقتصاد الحر المفتوح من احكام قبضته على العالم، ولم يعد بالتالي أمام معظم الدول خيار في تبني أساليب اقتصادية أخرى. وفي وقت يزداد التعامل بين الاقتصاديات، لم يعد ممكناً أن تنتقي كل دولة منهاجاً يتعارض في أساسه مع أسس التعامل العالمية. ويكون الموضوع أصعب بالنسبة إلى دول العالم النامي. والأمر ممكن تمثيله بالزائر الذي يأتي إلى بلدة كبرى، فلا يكون لديه خيار كبير بالنسبة لأنظمة المرور وعليه أن يحترم هذه الأنظمة حتى يضمن السلامة. فليس من العقل أو من المصلحة على زائر حين ينزل إلى طرقات بريطانيا أن يحتج بأنه لا يرى منطقاً في السير على اليسار وأنه تعود لفترة طويلة على السير على اليمين. هكذا يسير البريطانيون، ولا بد من مراعاة القواعد المرورية السائدة. وأنظمة المرور في الاقتصاد العالمي الآن هي أنظمة السوق والقطاع الأهلي الخاص. أما العامل النظري فيجعل الانتقال إلى الاقتصاد الحر أمراً ضرورياً في مضمونه أيضاً وبغض النظر عن وضعية الاقتصاد العالمي، إذ أن هناك أدلة كثيرة على تفوق اقتصاد السوق على اقتصاد الأوامر والاقتصاد المركزي سواء في تحقيق الكفاية الاقتصادية بل وحتى في منح العدالة. على أن يكون مفهوماً أن اقتصاد السوق ليس هو "نظام ترك الأمور تجري" LAISSEZ FAIRE، بل يتطلب وجود دولة متينة ومجتمع مدني قوي متماسك، وكل منهما يقوم بواجبه في اطاره المفترض. وليس هنا مجال ذكر الأدلة التي عرضت في تدعيم اقتصاد السوق على السوق المركزي والتي سبق ذكرها مراراً، سواء لجهة توفير نظام أفضل للعلماء أو لجهة حسن استخدام المعلومات والكفايات المتناثرة، وأخيراً لجهة التطوير والابتكار والتحسين. فالإدارة الاقتصادية ليست مجرد استغلال الموارد الموجودة لإنجاز الأهداف الموضوعة من جانب المخططين، بل هي تقديم الفرص لقدرات الابتكار والتطور للمعادلة وإضافة طرق مستحدثة للإنتاج وإشباع احتياجات متطورة دائماً. وكل هذا لا جدال فيه. ولكن يبقى السؤال: كيف يتحقق الإصلاح الاقتصادي بهذه الطريقة؟ هل يكفي اطلاق اسعار وبيع بعض القطاع العام لكي يخلق قطاعاً خاصاً ويتحقق اقتصاد السوق الحر؟. وكان الاعتقاد السائد أنه يكفي اطلاق السعر PRICE LIBERELIZATION وإلغاء السعر الإداري المفروض والدعم حتى يوجد السوق، ولكن تبدو الأولوية الآن هي ايجاد المؤسسات لاقتصاد السوق INSTITUTIONALIZATION، وهذا هو الأصل في خلق اقتصاد السوق الحر المفتوح. وهذه بعض عناصر التطويرات الاصلاحية المؤسسية المطلوبة. الأساس القانوني: يتضح النشاط الاقتصادي في آخر المطاف من خلال اتفاقات وعلاقات قانونية رسمية، لذلك من المهم ان تكون الاطارات القانونية واضحة وجلية ومبسطة لا غبار عليها. كذلك يخضع الطرف المتعامل لكثير من التحكمات الضريبية والتنظيمية وعليه لا بد أن يعرف بطريق صريح ومباشر مدى الابعاد والالتزامات، ولعل أهم ما يواجه المستثمر ليس حجم الاعباء وتعددها - على رغم مشقة ذلك - وإنما انعدام الوضوح والثقة. فهو لا علم لديه كيف ومتى يتم انجاز المعاملة. ومع زيادة القوانين والقرارات والانظمة والمراسيم وكثرة الاختصاصات وتداخلها، فإن الأمر القانوني يبدو غامضاً وخاضعاً للاجتهادات الكبيرة. ولا يقتصر الأمر على ضرورة وضوح المسائل القانونية، بل لا بد ان يصاحب ذلك نهج قضائى قوي وسريع وفعال ومتطور. دولة اساسها القانون: لا يكفي لاقتصاد السوق وضوح الاطر النظامية، بل يجب اضافة الى ذلك ان يستوحي القانون القائم عملياً مغزى دولة القانون، وان يعكس نموذج الاساس العام المجرد. وإذا كان القانون أصدر من أجل حماية الانسان او مجموعة محددة، فإنه يفقد روحه الموضوعية كقانون حتى لو اخذ شكل القانون. وترتبط بفكرة دولة القانون مجموعة من الضوابط، إلى جانب أهمية انجاز مبدأ العدالة والمساواة والموضوعية، لا بد وان تراعى رعاية الحقوق الاساسية للمواطنين وبما يتفق مع الامال الطبيعية لهم وربما ينجز الامان المطلوب في مكانتهم القانونية. الشفافية والمعلومات: اذا كان القرار الاقتصادي يحتاج الى وجود نقد مستقر حتى يستقر الميزان الاقتصادي فلا يقل اهمية وجوب توفير المعلومة الاقتصادية الدقيقة والصحيحة عن كافة الاتجاهات. وعلى الدولة تقع مسؤولية ذلك في المقام الاول فلا يمكن ان يصدر نظام اقتصادي ويتم التعايش معه وتوقع ايجابيات منه في غياب المعلومات السليمة عن مختلف اوجه النشاط الاقتصادي: التوظيف والانتاجية والتسعير والربحية والخسارة لمختلف المكونات الاقتصادية. ويجب ان تتمتع هذه المعلومة بثقة ودقة وان تكون صادرة من اطراف موضوعية بطريقة دورية وثابتة. وبينما تم تحقيق تقدم معقول في اتجاه الاستقرار النقدي، لا يزال اتجاه المعلومة والوضوح يحتاج الى جهد كبير. والأمر يحتاج هنا الى اصلاحات مؤسسية. فإدارات الاحصاء لا بد وان يكون لها الاستقلال التام عن حكومة الدولة، وما تصدره من معلومات وبيانات يجب ان يوفر الدراية بالظروف الاقتصادية والاجتماعية بكافة اشكالها، وليس الدعاية والتفخيم لانجاز وزارة أو تأييد لوزير أو لرئيس مؤسسة أو أي قطاع. ولا يزال بعض الاتجاهات السائدة في طرح المعلومة او استخدامها والذي يتطلب الحصول على اذن او ترخيص أو تعهد من اجهزة الاحصاء والرقابة، الأمر الذي يعكس بقايا العصر الماضي الذي كانت فيه المعلومات والبيانات جزءاً من المنظومة الامنية والتفريط فيها يساعد العدو والمغرضين. ولا داعي إلى ان الاشارة الى معرفة المواطن بغالبية من المعلومات الاساسية إنما يكون مما يصرح به الوزراء والمسؤولون، وبالتالي يتم بشكل غير تقليدي وكثيراً ما يكون متناقضاً. الاستقرار النقدي والمالي: اذا كان اقتصاد السوق المفتوح ينهض على ارادات الافراد والمشاريع والمؤسسات، فإنه لا يمكن التقييم الاقتصادي الصحيح في غياب اسلوب لقياس القيمة الصحيح، أي النقد المستقر، ولهذا فإن انجاز الاستقرار النقدي والمالي المتواصل هو أساساً من مسؤوليات الدولة. ومنذ اقدم الزمان كان احد اهم واجبات الحكومة هو الحفاظ على معدل السعر والحفاظ على القيمة النقدية وعجز الموازنة. ولا يتوقف الموضوع على حماية قيمة النقد داخلياً، بل يتطلب الأمر أيضاً حماية قيمته خارجياً بتوفير الامان والاستقرار لسعر الصرف. المجتمع المدني: اقتصاد السوق ليس مجرد انشطة لأفراد ولمشاريع ضمن الدولة، بل يتطلب الاعتراف باهمية النشاط الاجتماعي المتفاعل لغير اغراض الربح. ومن هنا تأتي أهمية أدوار هيئات المجتمع المدني في مجال الانشطة الاجتماعية الثقافية والعامة. ولا تزال ممارسة النشاط الاجتماعي بكل اشكاله ينظر إليها بكثير من القلق والريبة. فلا يقتصر دور وزارة الشؤون الاجتماعية أو غيرها من الوزارات والجهات الرسمية على الرقابة والتدقيق. الاصلاح العام: اقتصاد السوق ليس مجرد اطلاق الفرصة للقطاع الخاص، وإنما هو تصور متكامل للنظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي يقوم على الفكر. وإذا كان الشكل القانوني ومبدأ دولة القانون يعتبر جوهرياً لقيام الانشطة الاقتصادية. فإن دولة القانون لا يمكن ان تقوم إلا في اطار مؤسسات سياسية دستورية قوية مستقلة تأخذ بنظام مرن ومتطور. الثقة والمصداقية: اقتصاد السوق هو في نهاية الامر قيام الأفراد والمشاريع بمسؤولية النشاط الاقتصادي في ظل دولة قوية تراعي السوق وتحميه وتحقق المصلحة العامة العليا. وبالتالي فإنها تستلزم ايجاد المناخ الملائم للثقة والمصداقية. وعليه يجب أن ترعاها المؤسسات النظامية اللازمة. وهكذا فإن الاقتصاد بحاجة الى ما يزيد عن اجراءات اقتصادية هنا وهناك، بل انه يتطلب اصلاحات هيكلية مهمة في اساس النهج القائم. على رغم هذا، فإنه من البديهي ان يستغرق التحول الى اقتصاد السوق فترة يتم التحول فيها تدريجاً. على ان ذلك لا يحول دون أهمية اتضاح الرؤية، والتأكد من أن اقتصاد السوق لا يتم الا بتبديل كامل وأساسي في القوانين والهياكل المؤسسية، لا يمكن ان يظل هذا العالم العربي جزيرة وسط محيط من التغيير ولعل الذي لا يؤتى بإرادتنا اليوم سيفرض علينا غداً. * اقتصادي سعودي.