«الإحصاء»: 12.7% ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    حلاوةُ ولاةِ الأمر    حائل.. سلة غذاء بالخيرات    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    الشيباني يحذر إيران من بث الفوضى في سورية    رغم الهدنة.. (إسرائيل) تقصف البقاع    الحمدان: «الأخضر دايماً راسه مرفوع»    تعزيز التعاون الأمني السعودي - القطري    المطيري رئيساً للاتحاد السعودي للتايكوندو    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    مليشيات حزب الله تتحول إلى قمع الفنانين بعد إخفاقاتها    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    جدّة الظاهري    الأبعاد التاريخية والثقافية للإبل في معرض «الإبل جواهر حية»    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    5 علامات خطيرة في الرأس والرقبة.. لا تتجاهلها    في المرحلة ال 18 من الدوري الإنجليزي «بوكسينغ داي».. ليفربول للابتعاد بالصدارة.. وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    ارتفاع مخزونات المنتجات النفطية في ميناء الفجيرة مع تراجع الصادرات    وزير الطاقة يزور مصانع متخصصة في إنتاج مكونات الطاقة    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    أمير الشرقية يرعى الاحتفال بترميم 1000 منزل    الأزهار القابلة للأكل ضمن توجهات الطهو الحديثة    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    مسابقة المهارات    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    وهم الاستقرار الاقتصادي!    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    %91 غير مصابين بالقلق    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    البحرين يعبر العراق بثنائية ويتأهل لنصف نهائي خليجي 26    التشويش وطائر المشتبهان في تحطم طائرة أذربيجانية    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    حرس حدود عسير ينقذ طفلاً مصرياً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    ملك البحرين يستقبل الأمير تركي بن محمد بن فهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرئيس وعد بالقطيعة مع الماضي وبالحوار . الجزائر زروال أو ... الزلزال
نشر في الحياة يوم 07 - 02 - 1994

رافقت "الوسط" في الجزائر اختيار الامين زروال رئيساً للبلاد، وحضرت حفلة تنصيبه. ورصدت حركة الشارع الجزائري في جولة ميدانية. ووجهت اسئلة الى قادة الاحزاب والقوى السياسية لاستشراف آفاق المرحلة المقبلة.
ماذا يحدث لو فشل الأمين زروال؟ وبدا ان السياسي تضايق من صيغة السؤال خصوصاً انه لم تمض سوى ساعات على تأدية الرئيس الجديد اليمين الدستورية. صمت قليلاً وأجاب: "كل جزائري كان يفضل ان يأتي الرئيس من انتخابات. وزروال نفسه تعهد ان تنتهي المرحلة الانتقالية بالرجوع الى المسار الديموقراطي. في الظروف غير الطبيعية لا بد من حلول استثنائية. بصراحة انها الفرصة الاخيرة. اذا فشل زروال ستتخذ المواجهة شكل حرب مدمرة سيقع الزلزال. لن تتقسم الجزائر. فاما ان تنجو كلها واما ان تسقط كلها. زروال هو الفرصة الاخيرة لمؤيديه ولخصومه".
زروال أو الزلزال هذا هو عنوان الفصل الجديد من الأزمة الجزائرية المفتوحة. لعب النظام ورقته الاخيرة وزج في المعركة بتغطيته الذهبية، اي رصيد الجيش، في محاولة حاسمة لترتيب حوار وتسوية وتعايش فماذا ستختار الجبهة الاسلامية للانقاذ؟ لم يحن بعد موعد الاجوبة فالامتحان الكبير لا يزال في بداياته.
شعرت بشيء من القلق حين تنبهت اننا عبرنا شوارع عدة ولم نصادف سيارة واحدة. كانت العاشرة والنصف ليلاً ولا تزال تفصلنا ساعة كاملة عن موعد بدء سريان منع التجول الذي يستمر حتى الرابعة والنصف صباحاً. وأحسست بالحرج فالشاب الذي تبرع بايصالي الى الفندق كان نجل السياسي. وقلت نقتل المسافة بالكلام. سألت الشاب عما يفعله في الليل فأجاب: "نجلس كالعجائز امام التلفزيون. ان تضجر في البيت افضل ألف مرة من ان تغامر بالخروج". وتذكرت ما قاله لي سائق التاكسي في النصيحة التحذير "رتب مواعيدك في النهار واترك الليل للفندق. تغيرت الجزائر". وفي المدن المرتبكة يجدر بالمرء ان يصدق سائق التاكسي.
النهار شيء آخر
النهار افضل. اتصلت برجل نصحني اصدقاء بزيارته. وبعد الظهر كنت اقرع الباب. تأخر الجواب قليلاً ثم ادير المفتاح وأطلت موظفة من شق الباب لتسأل عن اسم الوافد. ذهبت ثم عادت ودخلت. صافحت الرجل وسألته عن سبب اغلاق الباب بالمفتاح فرد مشيراً الى الفئات التي يستهدفها العنف بسبب ميولها او مهنها او ادوار سابقة لها. وأورد اسماء زملاء له اغتيلوا. طال الحديث وتشعب. كان المجلس الأعلى للأمن اعلن تعيين زروال رئيساً للدولة فقال الرجل انها آخر محاولة "لتسوية بين الجيش والانقاذ" وتخوف من ان تختار "الانقاذ" سياسة كل شيء او لا شيء "وسيكون الخيار انتحارياً لها ولخصومها وللبلاد".
حين هممت بالمغادرة قال الرجل ان طريق عودته الى منزله يمر قرب الفندق والح. صعدنا في سيارته ورحت اراقب. كان دائم التحديق في المرآة كمن يخشى مفاجأة. وحين ازدحم السير بدا عليه الانزعاج وراح يراقب اليمين واليسار معا. وانتابه شيء من التوجس حين ركض شاب على الرصيف. وأحسست بأنه يجاهد لاخفاء قلقه. وقبل الوصول الى الفندق سألته عن برنامجه اليومي فأجاب انه يدخل منزله قبل غروب الشمس ولا يغادره الا صباحاً "فالايام صعبة".
نهار العاصمة الجزائرية طبيعي او يكاد. يذهب الموظفون الى الدوائر والعمال الى المصانع والمؤسسات، وتختنق شوارع العاصمة بالسيارات وتضيق الارصفة بالعابرين. لا شيء في النهار يوحي بالذعر والحضور الامني عادي باستثناء الحراسات المشددة حول المباني الرسمية المهمة. النهار متروك لمتاعب العيش العادي لتحصيل الخبز والتفاوض مع البائعين على اسعار السلع. كأن المدينة تنسى في النهار المخاوف التي راودتها في الليل. في الاحياء الشعبية البيوت متراصة كالاعشاش والاطفال يلعبون عند المداخل الشديدة التواضع. آلاف الشبان يتكئون على الجدران. ومن عيون بعضهم يطل نوع من الغضب يعبر عن احتجاجهم. ويؤكد الزي احياناً طبيعة الانتماء خصوصاً لدى الشباب الملتحين. يتكئون على الجدران ويهدرون اعمارهم. جيل بلا أمل. يقول الاستاذ الجامعي ويضيف: "لا فرصة للعمل، والحصول على مسكن صعب جداً. ولا قدرة على الزواج الاّ في شروط قاسية. وغربة بين السلطة والناس".
ويشرع قائلاً: "خلال عهد الشاذلي بن جديد نشأت الغربة بين السلطة والناس او تعمقت. كان هواري بومدين خطيباً ويتحدث الى الناس باستمرار. جاء بن جديد وكان يفتقر الى وسيلة الاتصال هذه فلا يخاطبهم الاّ مرة في العام، مرة كانت تؤكد ضعف قدرته في اللغة العربية وفي الاتصال ايضاً".
في تلك الايام التي يمتزج فيها لحم الاطفال بغبار الشوارع تلمح بعض شعارات تذكرك بالمعركة الدائرة. "نعم للدولة الاسلامية" و"الدولة الاسلامية هي الحل" و"نطالب بالافراج عن السجناء". لم تعد ليوم الجمعة الجزائري نكهة المواجهة العلنية. استعادت السلطة سيطرتها على معظم المساجد، ولم تعد المعركة تدور بالخطب بل بالرصاص وأحياناً بالسكاكين. يشير سائق التاكسي الى اماكن وأيام. الى مسجد باب الواد او القبة كان يأتي زعيم "جبهة الانقاذ" الشيخ عباس مدني ونائبه الشيخ علي بلحاج فتذهب جموع لملاقاتهما. والآن يقيم الاثنان في سجن البليدة وتدور الحرب وثمة من يقول ان الاتفاق معهما لم يعد كافيا لوقفها وان كان واضحاً ان التسوية ستخفض الى حد كبير حرارة العنف ومسارحه.
لا يحتاج الخوف الى دليل. فهؤلاء الذين يتحدثون اليك ولا يبخلون بالمعلومات او التفسيرات يفضلون في الغالب تغييب اسمائهم خصوصاً اذا كانوا من خصوم المتهمين بممارسة العنف والاغتيالات. وهناك من يتحدث عن "عنف غامض" وعن انفلات في التصفيات وان كان هناك من يشكك في ان تكون المجموعات المسلحة خرجت فعلاً او كثيراً على ارادة قيادة "الانقاذ" وخطها.
هجرة الاجانب
نزلاء الفندق كثر وهو محروس بعناية. فاضافة الى رجال الأمن الساهرين على المداخل يطالعك في كل طبقة حارس او اكثر. تسعى السلطات جاهدة الى احباط خطة "الجماعة الاسلامية المسلحة" لافراغ البلاد من الاجانب. ومنذ بداية الهجوم على الاجانب في تشرين الثاني نوفمبر الماضي قتل 28 منهم غالبيتهم الساحقة من الاوروبيين. ولكن حتى الساعة لم يؤد الهجوم الى التسبب في "الرحيل الكبير"، لكن كثيرين غادروا او ارسلوا على الاقل النساء والاطفال.
رولان مهندس فرنسي يعمل في الجزائر منذ ستة اعوام. قبل انقضاء العام اعاد زوجته وطفليه الى فرنسا وغادر شقته الى الفندق ووافقت الشركة على دفع النفقات. ويعترف رولان بأن السلطة تبذل جهوداً كبيرة لحماية الاجانب "لكنها لا تستطيع تعيين حارس لكل واحد منهم". ولا يعرف هل سيبقى طويلاً أم لا. ويشدد على انه التحسن الاقتصادي هو المفتاح والاّ "فان الجزائر ستغرق اكثر في العنف". وفي الجزائر اصلاً 50 الف فرنسي و25 الف جزائري يحملون الجنسية الفرنسية. هاجر الآلاف من الفريق الاول وقرار الباقين ينتظر استكشاف ملامح مرحلة زروال واحتمالات الحل.
الجزائر خائفة. هذا صحيح. ولكن من المبالغة الحديث عن حرب أهلية، على الأقل حتى الآن. ولا مجال لمقارنة وضع العاصمة الجزائرية بما كانت عليه بيروت يوم تشرذمت السلطة السياسية وأدواتها الأمنية وغيب قرارها واستباحها المسلحون. ارتباك المؤسسات الدستورية الجزائرية لم يؤد الى تآكل القوى الأمنية أو تبعثرها. وبهذا المعنى فان الدولة موجودة وقادرة والجيش رقم صعب في الحاضر وفي أي حل. وربما لهذا السبب اعاد اختيار اللواء الأمين زروال لرئاسة الدولة فتح باب الأمل.
بعد قليل من تأدية زروال اليمين الدستورية قال الشيخ محفوظ نحناح زعيم حركة "حماس" لپ"الوسط": "ان الرجل كان بلا شك أفضل الخيارات المطروحة، وربما كان من الشخصيات القليلة القادرة على مواجهة الظرف الصعب. نحن نعمل من أجل الحوار وعلى كل هيئة جادة في السعي الى اخراج البلاد من المأزق ان تعمل فعلياً من أجل حوار عميق ينهي مرحلة التخبط وذلك يبدأ باعادة الأمل الى الشعب وبناء الثقة".
وقال وزير الخارجية الجزائري محمد صالح دمبري لپ"الوسط" ان فرص النجاح متوافرة وقائمة وأن الآمال بالحل تجددت.
لماذا زروال؟
حين جاء المجلس الأعلى للدولة لتسلم السلطة بعد استقالة الرئيس الشاذلي بن جديد في 11 كانون الثاني يناير 1992 والتي جاءت بعد نحو اسبوعين من اكتساح "الانقاذ" الدورة الأولى من الانتخابات الاشتراعية ضم المجلس شخصيتين اساسيتين: الرئيس محمد بو ضياف العائد من المنفى، بما يمثله وما يرمز اليه خصوصاً افتراقه عمن تعاقبوا على السلطة، واللواء خالد نزار كممثل للجيش. وأدى اغتيال بو ضياف في 29 حزيران يونيو 1992 الى تحويل المجلس الأعلى قيادة "جماعية" تتوزع فيها الأدوار ولكن بما لا يكفي لأي مبادرة. وكان على المجلس ان يتابع برئاسة علي كافي ما بقي من ولاية الشاذلي، أي حتى 31 ديسمبر كانون الأول 1993.
وشهدت ولاية المجلس الأعلى للدولة اندلاع المواجهة العسكرية مع "الانقاذ" والجماعات المسلحة، والتي أسفرت حتى الآن عن سقوط نحو 3400 قتيل واعتقال الآلاف وزعزعة استقرار البلاد وتعميق ازمتها الاقتصادية. واستنزفت تلك المرحلة الحكومات المتعاقبة فلا الحوار بدأ ولا المواجهة حسمت ولم يعثر المجلس أيضاً على لغة تفاهم مع الجبهتين الأخريين اللتين جاءتا بعد "الانقاذ" في الانتخابات وهما جبهة القوى الاشتراكية بزعامة السيد حسين آيت احمد، وجبهة التحرير الوطني التي يتولى السيد عبدالحميد مهري حالياً منصب أمينها العام. اضافة الى تعثر التفاهم مع الاحزاب والحركات الأخرى ومع معظم الطبقة السياسية. وأظهرت تلك المرحلة صعوبة الحوار من جهة وتعذر الحل الأمني من جهة أخرى.
عسكري لامع واشارات
مصادر سياسية رافقت تلك المرحلة عن قرب قالت لپ"الوسط": "ظهرت مؤشرات الى فشل السياسيين وكان وزير الدفاع عضو المجلس الأعلى اللواء خالد نزار منشغلاً بالمحافظة على المؤسسة العسكرية لاعتقاده بأن تماسكها يمنع الانهيار ويبقي احتمال الحل قائماً. وحين قرر نزار الذي يعاني متاعب صحية، مغادرة وزارة الدفاع لم يجد أفضل من اللواء المتقاعد زروال الذي كان ترك الجيش بعد خلاف مع بن جديد على اعادة تنظيم القوات البرية وترك منصب السفير في بوخارست في 1991 ليعيش متقاعداً كمواطن عادي. لكنه بدأ صعوده منذ تعيينه وزيراً للدفاع في تموز يوليو الماضي".
وأضافت المصادر: "كان للمجيء بهذا العسكري اللامع الذي التحق بجيش التحرير الوطني وهو في السادسة عشرة مشاركاً في حرب التحرير، وقع ايجابي خصوصاً انه تميز كضابط محترف خلال دورات تابعها في موسكو وباريس. انه رجل صارم ومحاور لم يتورط في فساد دهاليز السلطة ويتمتع باحترام في أوساط الضباط والعسكريين ولم يتهور في احداث اكتوبر تشرين الأول 1988 حين كان قائداً لمنطقة قسنطينة وتفادى اراقة الدماء".
ولاحظت ان زروال لم يتقدم لتسلم السلطة وهو ما كان يمكن ان يكتل الاحزاب ضد الجيش لكنه أرسل اشارتين مفادهما ان المؤسسة العسكرية لن تسمح بوقوع البلاد في الفراغ وأرفقهما بالتشديد على الحوار وقيم الثورة والجمهورية وتحدث عن القطيعة مع الماضي.
الاشارة الأولى جاءت في حديث الى وكالة الانباء الجزائرية طالب فيه القوى السياسية بايجاد حل سياسي للأزمة قبل نهاية السنة، مؤكداً ان مؤسسة الجيش ستبقى محايدة. وكان ذلك في 25 تشرين الأول.
وجاءت الاشارة الثانية في 16 كانون الثاني يناير الماضي، قبل تسعة أيام من انعقاد الندورة الوطنية للحوار التي مددت ولاية المجلس الأعلى شهراً على أمل نجاحها. ففي كلمة متلفزة ذكّر زروال بالانسحاب التلقائي للجيش من الساحة السياسية قبل خمس سنوات وقال: "...لكن انسحاب الجيش من الساحة السياسية لا يعني انه سيبقى مكتوف الأيدي أمام الانزلاقات والتجاوزات التي تهدد مصير الشعب ومستقبل الأمة. أريد أن أوضح ايضاً ان انسحاب الجيش يعني كذلك ان المؤسسة العسكرية لن تقبل من الآن فصاعداً بأن تكون وسيلة في اطار الصراعات لأي طرف كان".
وبعدما شدد على الحوار والحل السياسي تحدث عن دفع عجلة "التغيير الحقيقي" الذي يطالب به الشعب "هذا التغيير هو القطيعة الحقيقية مع أساليب التسيير الماضية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً". وأشار الى نظام وطني جديد "يضع حداً نهائياً للاحتكارات السياسية والثقافية والايديولوجية".
في هذا الوقت كانت عملية البحث عن الرئيس قد انطلقت وسط انباء عن اتصالات تمهيدية مع شخصيات من "الانقاذ" أو مقربة منها. وتقول مصادر مطلعة ان اتصالاً تم بالدكتور أحمد طالب الابراهيمي وزير الخارجية السابق الذي يحظى برصيد من الثقة لدى الاسلاميين لكنه بدا متمسكاً ب "الرئاسة عبر الانتخابات في أقرب فرصة"، فضلاً عن ان انتماءه الى جبهة التحرير لا يتلاءم مع شروط "القطيعة". وبدأت اثر ذلك مفاوضات مع عبدالعزيز بوتفليقة وزير الخارجية في عهد بومدين وأحد "بارونات" جبهة التحرير الذي تولى بن جديد ابعادهم وتحجيمهم.
رئاسة بوتفليقة تتعثر
وتقول المصادر ان بوادر تعثر ندوة الوفاق الوطنية والجدل حول الصلاحيات والانباء التي روجها مقربون من بوتفليقة عن عزمه على اجراء تغييرات أمنية وعسكرية ساهمت كلها في طي موضوع بوتفليقة بعدما كان أعلن رسمياً موافقته المبدئية على تولي رئاسة المرحلة الانتقالية. وحين افتتحت ندوة الحوار بمقاطعة من الاحزاب الكبرى وانسحاب احزاب أخرى بدا واضحاً انه لم يبق غير الورقة الأخيرة، ورقة زروال فرشحته الهيئات المشاركة. وفور تعثر المفاوضات غادر بوتفليقة الى جنيف.
وفي 31 كانون الثاني الماضي أدى زروال اليمين الدستورية رئيساً للدولة في مرحلة انتقالية تمتد ثلاث سنوات كحد أقصى واستناداً الى أرضية اعتمدتها ندوة الوفاق الوطني.
وجاء في المادة الثالثة من هذه الأرضية:
"تهدف المرحلة الانتقالية الى تعزيز النظام الدستوري واستمراريته بما يضمن:
- سيادة الدولة:
- الطابع الجمهوري والديموقراطي للدولة في اطار مبادئ الاسلام وخصوصيات الشعب الجزائري.
- الحقوق والحريات الاساسية الفردية والجماعية.
- مبدأ الوصول الى السلطة عن طريق الانتخابات.
وترمي هذه الاهداف الى تكريس العدالة الاجتماعية والتضامن الوطني وضمان السلم المدني والرقي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للبلاد وفقاً لتطلعاتها وطموحاتها في احتلال مكانتها ضمن الحضارة العالمية".
الورقة الأخيرة... و"الانقاذ"
ماذا يعني اختيار زروال؟ ولماذا استقبلته بالترحيب أوساط سياسية ونقابية وشعبية؟
يقول احد السياسيين: "اللجوء الى زروال هو اللجوء الى الورقة الأخيرة بعدما فشل السياسيون في التوافق على حد أدنى لاخراج البلاد من الأزمة. انه يؤدي الى توضيح الصورة. الخروج من الازمة يستلزم في الدرجة الأولى تفاهماً بين "الانقاذ" والجيش. وتشديد زروال على الحل السياسي والقطيعة مع ممارسات الماضي يلزم الانقاذ بخيار صعب. فهناك حالياً رئيس قادر على اتخاذ القرار تدعمه المؤسسة العسكرية من دون التباس".
ويضيف: "اذا اختارت الانقاذ الاستمرار في المواجهة العسكرية وفي وقت يعرض زروال الحوار فان عليها ان تتوقع ضربات عسكرية موجعة. فضلاً عن ان وجود زروال بالصيغة التي جاء بها ينسف آمال المراهنين على تفكك الجيش الذي لا تزال حالات الفرار منه محدودة جداً بضع مئات على رغم مرور عامين على المواجهة. وسيكون زروال من جهته مطالباً بالتعجيل في بناء المؤسسات واعداد البلاد للعودة الى المسار الانتخابي ومعاودة الحوار بين السلطة والشعب، وقبل ذلك كله ان يحاول وضع الأسس لمعالجة الوضع الاقتصادي".
وكان أول قرار اتخذه هو تجديد ثقته بحكومة رضا مالك التي شكلت في الصيف الماضي. وفي حين رأى بعضهم ان الخطوة لا تنسجم مع فكرة القطيعة قال آخرون ان زروال يريد ان يأخذ الوقت الكافي لاختيار من سيراهن عليهم في المرحلة المقبلة. كما يريد اعطاء الحكومة فرصة لمتابعة مفاوضاتها مع المؤسسات المالية الدولية خصوصاً ان خيار اعادة جدولة الديون هو من الخيارات المطروحة.
وسارعت الاوساط المقربة من "الانقاذ" في العاصمة الجزائرية، كما هو متوقع، الى انكار "شرعية النظام". لكنها اعتبرت في الوقت نفسه ان لا بد من الانتظار لمعرفة "مدى التزام زروال الحوار والحل السياسي ووفق أي مواصفات ومعايير وبعدها يمكن اتخاذ المواقف".
التدهو الاقتصادي
والواقع هو ان زروال تسلم وضعاً متفجراً وملغوماً على أكثر من صعيد. فاضافة الى المواجهة العسكرية والسياسية الحامية، هناك التدهور الاقتصادي المروع وما تستلزمه عملية الانتقال الى اقتصاد السوق من قرارات مؤلمة. فالديون الخارجية للبلاد 27 بليون دولار وخدمة هذه الديون ترتب سنوياً نحو 8 بلايين من مداخيل البلاد من العملة الصعبة التي تراوح بين 11 و12 بليون دولار. وجاء انخفاض اسعار النفط ليضاعف الصعوبات. وعلى الصعيد العملي يبقى للدولة الجزائرية ثلاثة بلايين لتوزعها على التغذية والمواد الأولية والصناعة والادارة والجيش. واذا اضفنا الى ذلك ان نسبة البطالة ترتفع الى 30 في المئة بين القادرين على العمل وان نسبة التزايد السكاني هي 2.8 في المئة وان نسبة التضخم هي في حدود 40 في المئة تكتمل الصورة القاتمة.
وحتى ولو تجاوزنا مسألة ندرة بعض السلع الغذائية فماذا يفعل الجزائري؟ الحد الأدنى للاجور هو 3500 دينار نحو 150 دولاراً وكيلو اللحم هو في حدود 250 ديناراً وكيلو الدجاج 120 ديناراً وكيلو البندورة ب 8 دنانير. اضافة الى ان العنف ضرب الاستثمار، وان المصانع تعمل بأقل من طاقتها، وان الانتقال الى اقتصاد السوق سيبدأ بدفع مئات الآلاف الى البطالة او التقاعد المبكر.
ارتياح واعطاء فرصة
غداة بدء عهد زروال بدا الارتياح واضحاً في الشارع الجزائري وعكست تعليقات المواطنين نوعاً من عودة الأمل بالحل وشهد بعض المدن والاقاليم مسيرات دعم للرئيس وبرنامجه. وعلى رغم الشعور بأن الحوار لن يكون سهلاً فان الانطباع العام هو ان الخوف من مواجهة نهائية مدمرة سيدفع الاطراف المعنية الى التفكير جدياً قبل اقفال الباب نهائياً في وجه الحل السياسي. ورجحت المصادر المطلعة ان تختار غالبية القوى اعطاء فرصة للرئيس الجديد مستبعدة قيام تحالف بين "الجبهات الثلاث" في الوقت الحاضر ومشيرة الى ان على جبهة التحرير وجبهة القوى الاشتراكية ان تأخذا في الاعتبار "ان التسوية قد تبرم في غيابهما اذا اختارتا طريق السلبية".
لا بد من الوقت لمعرفة ملامح الفصل الجديد من الازمة الجزائرية. ولا بد من الوقت لمعرفة هل يتمكن زروال من استنهاض المؤسسات وبلورة مشروع يجتذب على الأقل اولئك الذين ايدوا "الانقاذ" احتجاجاً على حكم جبهة التحرير. وفي غياب مشروع من هذا النوع قد تكون العودة الى المسار الانتخابي مجرد استكمال للانتخابات التي اجراها بن جديد فذهبت به. ولا بد من الوقت لمعرفة فرص "التعايش" مع "الانقاذ" في الشارع او في السلطة، ومدى قدرة الجيش على أن يكون ضماناً للتعددية حتى ولو حملت الى السلطة مدني وبلحاج أو الورثة.
دمبري: جزائر واحدة
بعد ساعات من اعلان الرئيس زروال ثقته بحكومة رضا مالك، ما يعني استمرارها في مهماتها، التقت "الوسط" وزير الخارجية محمد صالح دمبري الذي بدا مرتاحاً الى انطلاقة العهد الجديد.
وسئل عن تصوره لملامح المرحلة الجديدة، فأجاب: "امامنا وفاق وطني ووثيقة أظهرت ما يجب أن نحققه خلال المرحلة الانتقالية لجهة المؤسسات الدستورية وتنظيم السلطات. أمامنا برنامج للخروج من الازمات التي تعيشها الجزائر لكي نضمن استقرار البلد وازدهار المجتمع والرجوع الى الانتخابات في اطار جو ديموقراطي وقبول للرأي الآخر وابعاد العنف عن الوطن الجزائري. الحوار مفتوح لكل العناصر المخلصة لهذا البلد. والجزائر تحتاج الى كل ابنائها في هذه المرحلة وفي المستقبل القريب والبعيد. ومن يتبنى الروح الديموقراطية مع كل عناصر المجتمع ولا يفرض آراءه بطريقة عنفية هو من ابناء الجزائر المخلصين... ربما كانت هناك طرق عدة لمحبة الجزائر ولكن ليس هناك الاّ جزائر واحدة. وهذه الجزائر الواحدة والموحدة تحتاج الى كل ابنائها".
وعن احتمالات تعثر الآمال الجديدة قال: "هناك احتمال آخر فلماذا نبدأ بالحديث عن الفشل. هناك تفاؤل لدى الرأي العام الجزائري واعلانات عن مسيرات دعم ومواقف ترحيب وتجاوب. احتمال النجاح قائم ومطروح فلماذا التشاؤم"!
وما هو المقصود ب "القطيعة"؟ أجاب وزير الخارجية الجزائري: "المقصود القطيعة مع بعض المنهجيات وأساليب العمل والاحتكارات في الميدان السياسي والفكري والاقتصادي. وما شاهدتموه في قصر الامم في نادي الصنوبر جلسة تأدية اليمين هو رمز كبير وفي الواقع المعاش لهذه القطيعة".
ايران والسودان
وكان لا بد من سؤال السيد دمبري عن القطيعة الديبلوماسية مع ايران واحتمالات انتهائها، فأجاب: "الديبلوماسية الجزائرية مبنية على مبادئ بينها عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى. والجزائر بلد غيور على استقلاله ويطلب من العالم الخارجي أن يحترم مبدأ عدم التدخل في شؤونه الداخلية. وفي الوقت نفسه ان الديبلوماسية الجزائرية مرنة واذا كان هناك بلد يطلب تنظيم علاقات جديدة في اطار التعاون والصداقة يمكن اعادة النظر في القرار الماضي".
ورفض الخوض في موضوع الادلة على التدخل الايراني مكتفياً بالقول: "اعتقد بأن الجزائر لم تتخذ موقفاً من فراغ".
وعن العلاقات مع السودان قال: "هناك تمثيل على مستوى قائم بالاعمال. وموقفنا هو عدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير ورفض أي تدخل في شؤوننا الداخلية. وقبل أن تسأل عن العلاقات أنظر الى تصريحات بعض السياسيين السودانيين، وهي تعطي فكرة عن المواقف التي تباعد أو تقرب".
وبالنسبة الى المفاوضات العربية - الاسرائيلية اعاد دمبري التذكير بموقف المجلس الاعلى للدولة الذي أعلن في أيلول سبتمبر الماضي وهو "دعم الحركة الفلسطينية وما يريده الفلسطينيون بقيادة ممثلهم الشرعي الوحيد. وتمنينا أن يكون الاتفاق أول خطوة في تسوية قضية الشرق الاوسط بمجملها وطلبنا من اخواننا في الوطن العربي أن يحموا حرية القرار الفلسطيني".
ووصف دمبري العلاقات مع فرنسا بأنها "طبيعية" وقال ان محادثاته مع وزراء خارجية المجموعة الاوروبية في بروكسيل "تهدف الى اعادة النظر في اتفاقية 1976 وتنظيم اطار جديد يتبنى فكرة الشراكة بين المجموعة الاوروبية والجزائر وهذا الاطار قابل لتوسيعه في تنظيم منطقة للتبادل الحر. وهذه الفكرة قابلة في الوقت نفسه لتنظيم تنسيق جذري ما بين الجزائر وتونس والمغرب وهما سبقانا في هذا السياق، ولنبني شراكة واسعة بين المجموعة الاوروبية والمغرب العربي".
وسألت "الوسط" الأمين العام بالنيابة لجبهة القوى الاشتراكية السيد كمال داود زعيمها السيد حسين آيت أحمد الموجود خارج الجزائر عن رأيه في انعكاسات فشل مهمة زروال في حال وصوله فأجاب: "انها الحرب الأهلية أو المس بالوحدة الوطنية أو الفوضى الكاملة". ولاحظ أن النجاح مرهون بالابتعاد عن نهج التسلط والدخول في حوار حقيقي في اطار ندوة ذات سيادة تشارك فيها الاحزاب ذات الصفة التمثيلية وكذلك الجيش.
وقال الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني السيد عبدالحميد مهري رداً على اسئلة "الوسط" ان تعامل الحزب مع زروال سيكون "حسب السياسة التي سيطبقها وسينتهجها في مواجهة الأزمة. سياسته ستحدد موقفنا".
وهل يعتبر أن زروال هو الفرصة الأخيرة لتحاشي انهيار كامل؟ أجاب: "ليس لدي مثل هذا الانطباع. الفشل سيكون مؤسفاً في حال حصوله وكل حالة تفرز حلولها اذا وقع شيء". وأكد ان الحزب لم يستشر في مسألة وصول زروال.
وكان اليوم الأول من عهد زروال تميز بمقتل مصور فرنسي واصابة زميله الاوسترالي اثناء محاولتهما تصوير فيلم في منطقة القصبة التي كانت شهدت أول اعمال العنف اثر وقف المسار الانتخابي قبل عامين.
وترافق الحادث مع معلومات عن "جولة تصعيد جديدة" في الهجمات. وتخوف المراقبون من "اختبار قاس للقوة" بين المسلحين والقوى الأمنية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.