جان لوي بارو أكثر من رجل مسرح، إنه أسطورة من أساطير القرن العشرين. فالفنان الفرنسي الذي رحل قبل أيام عن 84 عاماً في عز رقاده، كان سفيراً لثقافة بلاده في العالم، وزارع حب المسرح في قلوب أجيال متلاحقة. من راسين الى جان جينيه، ومن كلوديل الى جورج شحادة... قدم صاحب القامة النحيفة أهم نصوص المسرح العالمي على الخشبة. وبنى هذا الايمائي الماهر رؤياه المشهدية انطلاقاً من الجسد، تلك الآداة السحرية القادرة على تقمص الكلمة، ونقلها كالعدوى في ظلمة القاعات. جان لوي بارو واحد من هؤلاء الفنانين الكبار الذين يجعلونك تشعر أنك ولدت وكبرت في وقت متأخر، وأن أشياء كثيرة عبرت قبل وصولك. فالممثل والمخرج الفرنسي الكبير الذي رحل يوم السبت 22 كانون الثاني يناير 1994، مضى الى عالم الحلم في سفرة طويلة بلا نهاية، هو الذي أخرج ذات يوم مسرحية "السفر"، لصديقه الشاعر اللبناني الراحل جورج شحادة. كرّس جان لوي بارو حياته للمسرح. وتبدو حياته مسرحية طويلة، متعددة الفصول والاحداث والديكورات التي كانت تتبدل مع انتقاله من مكان الى آخر. هذا الذي تأثر بأفكار آرتو، وطمح الى تحقيق مسرح كلّي، هل كان يعرف أنه استحال هو أيضاً، مع مرور السنوات وتراكم التجارب، كائناً كلياً؟ ولد جان لوي بارو عام 1910. بدأ حياته الفنية في ممارسة الإيماء، ومرّ بالسينما قبل أن يستولي عليه المسرح. كان تلميذاً لشارل دولان، أحد أعمدة "عصبة الأربعة" التي تعتبر نقطة تحول في تاريخ المسرح الاوروبي. التحق الممثل الشاب الفائض الحماسة المدقع الفقر، بفرقة دولان، وبدأ سيرته في مسرحية "فولبوني"، حيث اقتصر دوره على العبور لحظة على الخشبة. في تلك الأيام، كان أثناء الليل ينام في السرير الكبير الذي استخدم في ديكور المسرحية. ذلك أن الشاب النحيل، بوجهه ذي العظام البارزة، وعينيه المشعتين بنار داخلية تبقيه في حالة دائمة من الغليان، لم يكن يملك أين يذهب. منذ ذلك الوقت، عرف جان لوي بارو أن المسرح هو موعد بين الناس من أجل مكافحة الشعور بالوحدة والقلق. منذ بدايته، لفت بارو انتباه الكبار في المسرح والثقافة، مثل المخرج لوي جوفيه والشاعرين أندريه بريتون وجاك بريفر. وفي عام 1935، سمح له دولان أن يقدم "حكاية أم" وهي مسرحية من اعداده واخراجه وتمثيله، اقتبسها عن رواية لفولكنر. ذهل أنطونان آرتو عندما شاهد هذا العمل، وقال إن المسرح هو تحديداً ذلك الذي يقوم به بارو. من شحاده الى كلوديل ومن تلك اللحظة سيطير المسرحي الشاب بجناحيه، ويبدأ رحلة تسكع لن تنتهي الا بموته: ما أن كان يستقر في مكان حتى يبحر من جديد. عام 1940 التحق بارو بمسرح "الكوميدي فرانسيز"، معقل المسرح الفرنسي الكلاسيكي، وغادره بعد بضع سنوات بحثاً عن الجديد، ومعه مجموعة من الممثلين، أبرزهم الممثلة الرائعة مادلين رينو التي أصبحت زوجته. وكان بارو تعرف على رفيقة دربه عام 1936 أثناء تصوير فيلم "هيلين"، ولم يفترقا بعد ذلك. وارتبط اسما جان لوي بارو ومادلين رينو في المسرح، كما في الحياة. معاً أسسا فرقة تمثيلية استقرت في مسرح مارينيي عام 1946، ولم تلبث أن عرفت ب "مسرح رينو - بارو". أراد الفنان الراحل أن تكون هذه الفرقة "راسخة مثل مزرعة". ان تكون فيها الأشجار المثمرة المنتجة، والمشاتل التي تستنبت فيها البذور الجديدة، وأن يكون فيها أيضاً أشجار كبيرة متينة تؤخذ منها الخزع. وتجذرت هذه "المزرعة" الاستثنائية في مسرح مارينيي طوال عقد من الزمن، جاء خصباً بالعطاء، غنياً بالرهانات الجريئة وحافلاً بالتجارب المميزة التي ستطبع حركة المسرح في فرنسا. في هذا المسرح قام بارو لأول مرة بإخراج مسرحية للشاعر اللبناني والكاتب العالمي جورج شحادة، فإذا به من أبرز وأفضل المخرجين الذين فهموا أعماله، واستطاعوا نقل أجوائها الشاعرية على الخشبة برهافة مدهشة. وارتبط الرجلان بعلاقة صداقة متينة استمرت طويلاً. بين مسرحيات شحادة التي أخرجها بارو "سهرة الأمثال" 1954، "السفر" 1956 و"حكاية فاسكو" 1956. وعادت فرقة "رينو - بارو" فقدمت العمل الاخير في لبنان، حين زارته عام 1957 بدعوة من "لجنة مهرجانات بعلبك". وفي قلعة بعلبك الشهيرة، ضمن إطار المهرجان نفسه، قدم بارو في السنوات اللاحقة، مسرحيات مهمة مثل "بيرينيس" لراسين و"أمفيتريون" لموليير. ففي تلك المرحلة، جاب بارو العالم مع فرقته، حتى اعتبر أفضل سفير للثقافة الفرنسية. فكم من الشبان المبتدئين في العالم قرروا، مثل المخرج الأرجنتيني الأصل جورج لافيلي، أن يذهبوا الى باريس ليخوضوا في المسرح بعد مشاهدتهم عرضاً من عروض فرقته "رينو - بارو". ولم يكتفِ جان لوي بارو الذي تميز بانفتاحه على الآخرين وعلى ثقافات مختلفة، بإلاخراج والتمثيل. بل يعود له الفضل في اطلاق عدد من الممثلين والمخرجين أمثال روجيه بلان وكلود ريجي. كما أنه تميز بتنوع كبير في اختياره للمؤلفين المسرحيين: من الكلاسيكيين الى معاصريه، ومن التراجيديا الى مسرح "البولفار" الباريسي. وكان أهم من عمل على مسرح بول كلوديل، اذ ساهم في التعريف بمسرح هذا الشاعر، بل انه فرض - منذ تقديمه "حذاء الساتين" - هذا المسرح الذي كان يعود اليه باستمرار في مختلف مراحل حياته. عام 1959 عيّنه أندريه مالرو، وكان وزيراً للثقافة، مديراً على مسرح الأوديون. فحوّل بارو هذا المسرح الى مكان يشع بالحيوية، بإصراره على إبراز المواهب الجديدة، وبقوله "نعم" لكل ما يمكن أن يأتي بالجديد القيّم، حتى لو كان ذلك يتناقض مع وجهة نظره. فهو أول من قدم مسرح صموئيل بيكيت ومارغريت دوراس وناتالي ساروت. كما أنه دعا بيجار ليقدم عرضه "الكلي" بعنوان "تجربة القديس أنطوان" عام 1967. وبين عامي 66 و68 أسندت اليه مهام الاشراف على "مسرح الأمم"، فدعا للمرة الأولى الى فرنسا المخرج البولوني جرزي غروتوفسكي وجماعة "الليفنغ تياتر" المسرح الحي، و"البونراكو" وهو مسرح الدمى الياباني. عام 1966 قرر بارو تقديم مسرحية "الستائر" لجان جينيه، فجاءه الاخير قائلاً: "أنا سعيد لأنك قبلت تقديم نصّي في مسرحك، لكنني لا أحب أعمالك، وأريد أن يكلف روجيه بلان بالاخراج". فقبل جان لوي بارو بكل بساطة، لأنه كان يعتبر نفسه خادماً للمسرح أولاً وأخيراً. وبتقديم "ستائر" جينيه، كان بارو يؤكد على ارتباط المسرح بالواقع. فهذه المسرحية التي تدور في ديكور الثورة الجزائرية، وتدين الاستعمار والتمييز العنصري، أثارت ضجةً لا مثيل لها، وتظاهرات شغب، وانقسم الرأي العام بين معارض لها ومؤيد متحمس. وكانت العروض تقدم في جو عاصف، ما تسبب في وقوع حوادث عديدة نتيجة ردود الفعل المتطرفة الداعية الى بقاء الجزائر فرنسية! على أثر أحداث 1968، طرد بارو من مسرح الأوديون لأنه ناصر الثورة الطلابية، ووقف مع الطلاب عندما احتلوا مسرحه، بعد أن نزل اليهم قائلاً: "بارو مات! فماذا نفعل الآن؟". وهذا الباحث الدائم عن التجديد، المصغي الى حركة الحياة وأحكامها، قال لممثلي السلطة قبل أن يغادر الأوديون: "نعم أنا خادم للثقافة، لكنني لست أجيراً للسلطة!". وها هو يجد نفسه مجدداً في الطريق، فيأخذ فرقته ويدور في باريس بحثاً عن مكان يستقبله. استقر "مسرح رينو - بارو" لفترة في قاعة خاصة بالملاكمة، وكان يقدم عرضه خلال الاسبوع على حلبة مصارعة، وفي نهاية الاسبوع، تعود الحلبة الى وظيفتها الأولى. من بعدها انتقل الى محطة قطار كبيرة، بنى فيها مسرحاً شبيهاً بخيمة سيرك. المحطة الاخيرة... لكنه اضطر هذه المرّة أيضاً الى اخلاء المكان الذي أصبح اليوم "متحف "أورسيه"، فانتقل الى قاعة تزلج على الجليد في حي الشانزيليزيه الباريسي. وكان هذا الانتقال ولادة جديدة للبناء الذي صار اسمه مسرح "الرون - بوان، رينو - بارو". وسيظل اسم بارو مرتبطاً بهذا المسرح الذي استقبله، فكان المحطة الاخيرة في مسيرته الطويلة. بقي جان لوي بارو حتى مغادرته مسرح الرون - بوان عام 1991 شاباً يتمتع بحيوية وطاقة مذهلتين. وكان يولي أهمية كبيرة للغة الجسد، وذلك منذ بداياته، عندما تعرف على فن الإيماء، وصار إيمائياً ممتازاً. وكان تميزه في فيلم مارسيل كارنيه "أطفال الفردوس" 1945 هو الذي كرّسه ممثلاً كبيراً، وجعل صورته في شخصية باتيست الشهيرة، تبقى ملازمة لذاكرة أجيال متلاحقة حتى يومنا هذا. باتيست، هذا الإيمائي الشاب، الذي يحب الحلم لأنه يبعده عن قساوة العالم، لكن هناك دائماً من يسدد اليه لكمة ويرغمه على أن يستفيق، لأن الناس لا يحبون الحالمين. سيبقى جان لوي بارو في ذاكرتنا ذلك الشاب الدائم الوفي لصداقاته، الذي كان يحلم بمسرح كلي، استعان من أجل ذلك بوسائل عديدة، من الأقنعة الى الاضاءة والرقص والإيماء.