يحظى الرئيس ياسر عرفات بتغطية سياسية واسعة للمواجهة التي يخوضها مع حركي "حماس" و "الجهاد الاسلامي". بل يمكن القول ان هذه التغطية آخذة في التحول الى ضغط عليه كي يحزم امره ويحكم قبضته فيشيع الثقة ويصبح أهلاً للحصول على مزيد من "الانسحابات" و "الصلاحيات". تقود الولاياتالمتحدة خط التصلب... وقد رفعت لهجتها منذ متفجرة الارجنتين وصولاً الى عملية تل أبيب. ولم يبق مسؤول الا وحض على إنهاء "الإرهاب" وتوجيه ضربات قاصمة اليه. ومع ان الادارة تكرر انها لا تملك موقفاً سلبياً من "الاصولية الاسلامية" فإنها تكاد تحصر "الإرهاب" بهذا التيار، وتدعو الى تكتل واسع لمنعه من اسقاط العملية السلمية. وكان واضحاً في الجولة الشرق الأوسطية للرئيس بيل كلينتون أن اصابع الاتهام موجهة الى ايران والاصوليين الفلسطينيين واللبنانيين، وأن واشنطن تشجع علناً على وضح حد لنشاطهم. ويلتقي هذا الموقف مع السلوك الذي يعبر عنه رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين، وهو سلوك "استئصالي يطالب عرفات بالعمل الجدي، ويعرض عليه المساعدة او يتصرف بمعزل عنه حيث تقضي الحاجة. ولم يعد سراً ان القرار متخذ على اعلى المستويات السياسية والأمنية في تل أبيب بشن "حرب لا هوادة فيها" ضد "حماس" و "الجهاد الاسلامي" من اجل انتزاع المبادرة والدمج بين العمليات الانتقامية و "العمل الوقائي". والحجة المستخدمة، في هذا المجال. أوراق عرفات ان ادخال "منظمة التحرير" في الحل حصل من أجل قطع الطريق على صعود المد الاصولي في فلسطين والمنطقة. ولذلك فإن التهاون ليس وارداً وليس مطلوباً سوى ان يقوم عرفات بدوره في صد هذا الخطر الذي يتهدده هو ايضاً. وعلى هذا الاساس فإن رئيس سلطة الحكم الذاتي يدرك ان في وسعه الاتكال على دعم سياسي وأمني ولوجستي كبير إذا قرر تسخين المواجهة. وليس هذا الدعم اميركياً واسرائيلياً فحسب، بل ثمة عواصم عربية عدة تنظر بعين الرضا الى ذلك لأسباب كثيرة منها انها تعيش هي نفسها تهديدات اصولية، وتخشى ان يضع هذا التيار يده على قضية فلسطين ذات الوهج الخاص وأن يرفع، منفرداً، راية القدس. فلقد أثبتت التجربة الافغانية فداحة الآثار الناجمة عن وجود قيادة اسلامية لحركة تحرر فكيف إذا كانت المدينة المقدسة في قلب هذه المعمعة. ولا شك في أن عرفات يملك، ضمن الأوراق التي يملكها حيال "حماس" و "جهاد"، ورقة قوى إسلامية محايدة ان لم تكن مؤيدة له. ويتميز طرفان في هذا المجال. فالدكتور حسن الترابي زعيم الجبهة الاسلامية القومية السودانية تمنع عن ادانة اتفاق اوسلو جدياً ويجد تبريرات كثيرة لما اقدم عليه "ابو عمار" ولا يستبعد لعب دور الوسيط بينه وبين "خصومه" الاسلاميين. وكذلك فإن الحركة الاسلامية في فلسطينالمحتلة عام 1948 تنتدب نفسها لأداء هذه المهمة وتشكل احتياطياً سياسياً لعرفات يمكن استخدامه في الضغط على اسلاميي الضفة والقطاع، خصوصاً ان هؤلاء يركزون عملياتها على "الداخل الفلسطيني" ويضعون الحركة في موقع حرج جداً. الى ذلك فإن رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير يملك، فضلاً عن الغطاء السياسي، الأداة الأمنية الكفيلة بخوض مواجهة ضارية. ولا شك في ولاء عناصر الشرطة الفلسطينية ل "القائد العام"، لا بل يمكن القول ان قيادات منها تحضه على سياسة اكثر قساوة حيال الاسلاميين الذين ينازعونها على ولاء قطاعات شعبية واسعة ويمثلون حيالها سلطة مضادة. وبما ان الغالبية العظمى لعناصر الشرطة القادمة من الخارج فإنها في منأى عن الضغوط الأهلية التي يمكنها ان تقف سداً يحول دون الاقتتال. صحيح ان استيعاب الأجهزة الأمنية لعناصر فتحاوية مؤيدة للحل يعطل دور الحركة في المواجهة السياسية للاسلاميين، غير انه يوفر لها دعماً محلياً طالما ان القائمين بها هم من الذين لا يرقى الشك الى وطنيتهم والى قيمة "الدورات التدريبية" التي تلقوها في السجون الاسرائيلية. وحيث لا يكفي القمع يلعب المال دوره وعرفات بارع في إستخدامه. أموال السلطة الفلسطينية نادرة وانفاقها يخضع نسبياً لرقابة الجهات المانحة ولاولويات معينة غير ان عرفات ليس فقيراً معدماً. ولا شك في ان انفاقه في سبيل تحسين مواقعه يلقى رضا من الأطراف المعنية لأنه يعني تغليب الأولويات السياسية على ما عداها. ومن الأسلحة في يد السلطة الفلسطينية تثمير "الانجازات" التي حصلت حتى الآن: لقد تم انسحاب محدود، وتراجعت مضايقات السكان في غزة واريحا. واحتمالات الاستقلال واردة، ونقل السلطات خصوصاً في المجال التربوي، يوفر هامشاً واسعاً للتحرك. اضافة الى ذلك يستطيع أقطاب السلطة، او من بقي منهم، اتهام معارضيهم بأن ما يقومون به لا يفعل سوى اضعاف الموقف التفاوضي الفلسطيني وصب الماء في طاحونة الاسرائيليين الأمر الذي يترك آثاراً سلبية على المصير النهائي للأراضي المحتلة. ويستطيع عرفات، أيضاً، ان يلوح بورقة سياسية مهمة: الانتخابات. وهذه ذات وجهين: تعني أولاً انسحاب الجيش الاسرائيلي من "المناطق الآهلة" بما يعني ذلك من توسيع نفوذ سلطة الحكم الذاتي. واصبح ذلك مطلباً امنياً اسرائيلياً لأن أجهزة الدولة العبرية تعيش حالة عمى ناجمة عن تخوف العملاء من التعاون مع سلطة آفلة. وبهذا المعنى، فإن تغلغل السلطة الوطنية يوفر، أكثر من غيره، القدرة على ضبط الاوضاع. كما ان الانتخابات تعني ايضاً النتائج. وهنا تتردد انباء ان المفاوضات الخاصة بهذا الموضوع ستوصل الى حل وسط فيجري انتخاب مجلس من خمسين عضواً تنبثق منه هيئة تنفيذية على ان ينتخب الرئيس مباشرة من الشعب. واذا كانت صورة عرفات الشخصية سيئة الى حد ما فإن التقديرات كلها تشير الى ان "التسوية" تحظى بغالبية واضحة. يعني ذلك ان نتائج الانتخابات، مع ما يسبقها من تحالفات، ستوفر شرعية جديدة للسلطة الفلسطينية تجعلها اكثر قدرة على الدخول في مواجهة مع "المتطرفين". ولعل ذلك ما يدفع "حماس" و "الجهاد" الى التفكير الجدي في احتمالات المشاركة، وهو تفكير قد يقطع عرفات الطريق عليه بدعوة مفاجئة الى انتخابات قبل انتهاء النصف الأول من العام المقبل. أوراق "حماس" و "الجهاد" اما التيار الاسلامي الفلسطيني فيملك اوراقاً لا يجوز التقليل من اهميتها. منها اولاً انه تيار ذو قاعدة شعبية في غزة ونفوذ قوي في الضفة. انه قوة سياسية حقيقية لها تنظيمها السري. ويملك اعضاؤها استعداداً للتضحية وحس مواجهة عالياً. ونقطة القوة الاساسية لهذا التيار هي ثغرات اتفاق الحكم الذاتي والعيوب التي طبعت تنفيذه حتى الآن. وكلها لغير مصلحة الفلسطينيين. ومن هذه الثغرات ان لا استقلال حتى الآن، ولا اتجاه الى قيام دولة مستقلة. الى ذلك فإن الازمة الإقتصادية - الإجتماعية على حالها، إذ لم "يقبض" أحد "عائدات السلام". وما زالت التبعية لاسرائيل، في هذا المجال، فاقعة. ثم ان السلطة الوطنية عجزت عن اطلاق آلاف السجناء ولم ترغم اسرائيل على احترام تعهداتها الجدول الزمني للتنفيذ، الخط البري بين غزة واريحا، الخ... بل أقدمت على سلسلة "تنازلات مهينهة" امامها افقد التسوية بريقها الاصلي. ويعزز بقاء قوات الاحتلال واستفزاز المستوطنين المواقف السلبية لدى الرأي العام الفلسطيني، وتتحول هذه، في الضرورة، الى تعاطف مع القوى الرافضة لهذه التسوية والمقاتلة ضدها. ويجمع المراقبون على الحديث عن حال من القلق الشعبي العميق الذي يتناول المصير برمته: شرذمة، غموض، قلة الخيارات، الشعور بالتخلي العربي والدولي الخ... ويلعب هذا القلق في دفع فئات نحو اليقين الايماني والاندفاع اليائس والانتحاري. وتستطيع "كتائب عز الدين القسام" النفاذ من ثنايا توزيع المهمات الأمنية بين اسرائيل وسلطة الحكم الذاتي. وتركز ضرباتها خارج الارض التي تعود مسؤوليتها الى الفلسطينيين وترغم اسرائيل على الرد بشكل يضع عرفات في موقع حرج. انه غير مسؤول عما جرى لكنه مطالب بالقمع. وإن لم يفعل يبدو مخلاً بالاتفاقات، وان فعل يبدو منفذاً لأوامر اسرائيل وحارساً لأمنها وحدودها. ولا تتورع تل أبيب عن حشره في الزاوية كما في اغتيال عضو "الجهاد الاسلامي" هاني عابد. لقد ضربت "داخل حدوده" فأظهرت انعدام قدرته على توفير الحماية لمواطنيه. وانتقصت من هيبته وبيّنت عجزه عن المطالبة بتسليم الفاعلين. ويؤدي هذا السلوك، من جانب الاسلاميين، الى رفع أي تهمة عنهم بالمبادرة الى تفجير حرب أهلية فلسطينية. لا بل يوفر لهم القدرة على الادعاء بأن ما يقومون به يعزز الموقف الفلسطيني حتى في المفاوضات، ويعبر عن ردّ مشروع على الاحتلال أولاً، وعلى اقدامه، ثانياً، على توسيع المستوطنات وشبكات الطريق ومصادرة الاراضي والاقدام على القتل والتنكيل. ووصل هذا التكتيك الى ذروته في الاعتذار من عرفات بعد الاهانات التي تعرض لها في المسجد العمري ثم في تسيير تظاهرة تهتف ضده وضد سياسته. والواضح من ذلك ان التيار الاسلامي يريد في آن معاً الاعتراض على السياسة من غير أن يظهر أمام الرأي العام مظهر من يريد اضعافها حيال اسرائيل. ويراهن هذا التيار على صعود قوى داخل اسرائيل نفسها تدعو الى الحوار معه. واقترب هذا الرهان من التحقق اثناء خطف نخشون فاكسمان، الا ان رئيس الوزراء اسحاق رابين احبطه. ثم تصاعدت احداث من الائتلاف الحاكم تطالب بفتح حوار مع "حماس". ومع ان رئيس الوزراء يعارض، فإنه اضطر الى الدخول في بازار العروض والعروض المضادة، حتى بات من الصعب الجزم بأنه لم يفتح "قناة خلفية" جديدة من اجل التوصل الى هدنة تبدو معها "حماس" كأنها حققت للفلسطينيين مكسباً عجزت قيادة منظمة التحرير عن التوصل اليه. واذا كان قادة "حماس" يتظاهرون برفض الحوار والتفاوض فإن احداً لا يشك في "واقعيتهم" و "براغماتيتهم". وهم يخاطبون قوى داخل حركة "فتح" ويستعدون لوراثة "اليسار الفلسطيني" ويسعون الى الاحتفاظ بوتيرة مواجهة تمنع الوصول الى نقطة اللا عودة. قد لا ينجحون في ذلك، إلا ان سعيهم واضح لأن ما يريدونه فعلاً هو القضم المتنامي لنفوذ السلطة الوطنية على أمل الاستفادة مما تستطيع تحصيله ثم التغلب عليها للمطالبة بالمزيد. انهم يمثلون، بهذا المعنى "حالة ليكودية". فلقد اضطر بنيامين نتانياهو الى الاعلان انه لن يتراجع عما تم التوقيع عليه حتى الآن داعياً الناخب الاسرائيلي الى ايصاله الى السلطة بصفته ضماناً من اجل تطبيق معين ومتشدد للاتفاقات يحول دون "تنازلات" خطيرة. التوازن يشجع على المواجهة ان التوازن بين سلطة الحكم الذاتي والتيار الاصولي يمكن ان يشجع كل طرف على المواجهة، كما يمكن ان يشكل عنصر ردع حسب نظرية "خطر الافناء المتبادل". غير ان المعلومات تقول ان الأمور ستدخل في منعطف جديد في الاشهر المقبلة اذا تقدم السيناريو الموضوع على طريق التطبيق. ويقوم هذا السيناريو على العناصر الآتية: أولاً - حصول اختراق في المسار السوري - اللبناني. ثانياً - فتح مفاوضات أردنية - فلسطينية حول الكونفيديرالية، وذلك بضغط اميركي واسرائيلي. ولعل في اشارة الأمير الحسن ولي العهد الاردني الى موضوع القدس ما يزيل عقبة من طريق هذا الحوار. ثالثاً - اذا توافر هذان الشرطان فإن تل أبيب ستعلن استعدادها لاختصار المرحلة الانتقالية من أجل ان تباشر قبل 4/5/1996 مفاوضاتها مع منظمة التحرير حول الوضع النهائي، على ان يكون التقدم في هذا المجال مشروطاً بتقدم العلاقات الفلسطينية - الاردنية واتضاح انها تأخذ المصالح الاسرائيلية في الاعتبار. رابعاً - تطرح قضية العلاقة مع الاسلاميين في جدول المحادثات الاردنية - الفلسطينية، وذلك من موقع مختلف عما حصل في السابق. وسيمارس ضغط من اجل ان يعمد الطرفان الى التضييق على المعارضة الاسلامية وسد المنافذ امامها وحصر نفوذها وارغامها على الاكتفاء بممارسة حرية سياسية لا بعد عسكرياً لها. وسيكون السلاح الامضى ضدها انها لا تهدد التحاق منظمة التحرير او الاردن باسرائيل بل العلاقات الثنائية الناشئة بين طرفين عربيين. وعندها ستكون ساعة الاختيار قد دقت، فإما ان تتراجع الحركة الاسلامية نحو معارضة سياسية تلعب تحت سقف معين وتقبل بالانتقاص من دورها واما ان تتعرض لحصار يعاملها كما تعامل انظمة عربية اخرى الحركات الاصولية الراديكالية لديها.