كان ينبغي لمن يحاول ملامسة النتائج الأولية لتطور الاحداث في منطقة الحكم الذاتي الفلسطيني في اعقاب انتهاء عملية خطف الجندي الاسرائيلي العريف نخشون واكسمان على أيدي عناصر تنتمي الى "قوات عزالدين القسام" الجناح العسكري ل "حماس"، ومقتله في ملابسات عملية امنية عسكرية فاشلة استهدفت تحريره، ان يتريث بعض الوقت لكي يتبين ان تلك الملامسة لن تكشف فقط عن اقتراب الاطراف الثلاثة المتورطة مباشرة في الحدث او في صوغ نتائجه، وهي "حماس" والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ورئيس الحكومة الاسرائيلية اسحق رابين من حدود خطرة لجهة استخدام مفاتيح "الحرب الاهلية" في القطاع الغربي الجائع والمنهك والضعيف، بل وعن كون عرفات كان طوال الوقت يراقص "الذئاب" الاكثر شراسة، على حد قول احد الديبلوماسيين، وذلك في وقت لم تعد تظهر شكوك اضافية حول ما اذا كانت العملية الأخيرة في بير نبالا في الضفة الغربية ليست الرقصة الاخيرة في "التانغو" الاخير على اية حال. و"حماس" التي تتحرك تحت مظلة "انتصارها" الامني لن تتوقف عن متابعة استخدام هذا النمط لاختبار قدرة عرفات ورابين معاً في الدفاع عن شراكتهما السلمية وتجنيبها عملية اختطاف مماثلة. وعلينا اذن، ان نعيد ترتيب الاسئلة للتحقق مما اذا كان عرفات لا يزال قادراً على استخدام حنكته السياسية وقدرته على المناورة ومراوغة خصومه وتفادي الضغط على خاصرتيه من قبل "حماس" ورابين معاً، وتجنب اتخاذ اجراءات أمنية تجعله المسؤول الأول والوحيد عن وقوع "حرب أهلية" إن هو فشل في اعادة ترتيب معادلات الوضع الصعبة التي تبدو اكثر تعقيداً بعد الحادث. ما يجري في غزة اذن، هو محصلة مجموع التحديات من جانب "حماس" التي دعت في الفترة الاخيرة بطرق غير مباشرة خصومها الى "منازلة ميدانية" تمكنها، في الواقع، من العبث باسرار رابين الامنية ومن تعريض سلطة عرفات الى اقصى حدود التآكل تمهيداً لالقائها بين اقدام اللاعبين المحليين. لكن "منازلة" على هذا المستوى لن تكشف عن احتمالات جمع عرفات جميع اوراقه لتعزيز قوته والخروج من ازمته، بل وعن كون منازليه ايضاً بحاجة الى مخرج من مآزقهم الذي يتزايد تعقيداً وخطورة مع دخول استراتيجية "حماس" النفق المسدود. فنشاطات "حماس" العسكرية تنتهي الى احد خيارين: الدخول في حرب مكشوفة ومباشرة وغير مضمونة النتائج مع سلطة عرفات، أو استخدام الاستثمار الوحيد الممكن لعملياتها في الضغط على عرفات سلمياً، وهو الاحتمال الذي لا يزال قائماً حتى الآن، ولفت الانظار الى ان الخاطف الحقيقي هو عملية السلام نفسها، والى جوارها المعتقلون و"المحررون" الذين لا يزالون يعيشون في "براكسات" البطالة في أريحا والدعم المالي والانتخابات وبقية التفاصيل. وبهذا المعنى لن يستطيع عرفات التنفس بعمق وارتياح رغم انتهاء عملية الخطف وانتفاء "مسؤوليته" عنها، اذ يتطلع المراقبون الآن الى الطريقة التي سيعتمدها عرفات لحل أزمة سلطته التي بلغت ذروتها مع استمرار "اعتقال" اسرائيل لكل عناصر السلام التي تمكنه من تعزيز سلطته. وبالانتظار يمكن طرح السؤال حول ما اذا كان عرفات سيواصل "تردده" في الاعتراف بأن شركاءه الاسرائيليين انما يحاولون اجباره على قبول مساومة خاسرة حين يطرحون عليه مقايضة "حماس" بعملية السلام بعد فشله في تحقيق المعادلة التي بدأت بها مفاوضاته "الأرض مقابل السلام". يتعين على عرفات اذن اعادة قراءة الوقائع لكي يتبين ان "حماس" قد وضعت بنفسها معادلة لا تقصدها حين فشلت في استثمار النتائج السياسية لعملية الخطف والمعادلة هي ما بدأ تداوله، قبلها، غالبية الفلسطينيين: اذا كان وقف هذا النوع من النشاط المسلح والعنيف امراً ملحاً وعاجلاً وضرورياً لمتابعة تطوير سلطة عرفات فان الثمن الوحيد الممكن هو اعتراف عرفات نفسه بمسؤوليته عن تحرير عملية السلام برمتها وجعلها قابلة لاستيعاب خصومه ومعارضيه. تردد "حماس" والواقع ان "حماس" تبدو اليوم اكثر تردداً من عرفات نفسه في فتح آفاق الخروج من المأزق العام ربما لانها لا تريد منح عرفات الفرصة الاخيرة لاعلان التفوق، بل هي اكثر ميلاً، حتى الآن، الى تحميله نتائج مجمل الازمة التي بدأت تأخذ عنواناً وحيداً هو "المأزق العام"، وتحت شعار يتردد على الدوام بان عرفات "ينفذ سياسة رابين". وتمت ترجمة هذا ضمن وقائع الاسبوع الماضي على الوجه التالي: حرمان مستشار عرفات د. احمد الطيبي من فتح باب المفاوضات على مصراعيه وهو ما حصر عملية الخطف الناجحة بالمعايير الامنية تحت ضغط وقائع انتظار الاقتحام الاسرائيلي المرتقب والمتوقع من قبل الجميع، وفقدان عامل المرونة حتى في الاستفادة من المبادرة التي اقدمت عليها في اللحظات قبل الاخيرة بتمديد مهلة الانذار مدة 24 ساعة أخرى، مكتفية بتأكيد شروطها دون الدخول عن طريق عرفات في بحث عملي يبقي المبادرة بيد عرفات بالوكالة عنها على الاقل. هذا التردد الذي مكن رابين من حصر عرفات داخل حلبة رقص دامية دافعاً به الى اقصى حدود النزف والتوتر بتحميله كامل المسؤولية عن حياة الجندي واشتقاق معادلته الجديدة "حماس مقابل السلام" قبل ان يعود عنها في اعقاب انكسار الهستيريا السياسية التي اجتاحت حكومته بعد فشل عملية التحرير واثبات عرفات صدقيته في التزام شروط اللعبة في حدود منع وقوع عمليات مسلحة ضد اهداف اسرائيلية في مناطق سلطته وفي متناول يده. وكان رابين سعيداً الى حد ما وهو يقدم اعتذاره مواربة الى عرفات ويعترف له بجهوده في البحث عن الجندي المخطوف، لكنه كان اكثر سعادة بمراقبته الآن يرقص وحيداً مع "ذئاب" "حماس"، وهو على دراية كافية بحدود قوة عرفات، وانه لا يزال بمقدوره التعامل معه من موقع من يقبض على عناصر التفوق منذ اعترف عرفات له بذلك في لقائهما عند نقطة "ايرتيز" الحدودية في اواسط آب اغسطس الماضي، حين خاطبه بصاحب "اليد العليا". رغم هذه الاختبارات الصعبة والمعقدة التي ارادتها "حماس" لعرفات ورابين معاً فقد كانت اللحظة مواتية تماماً واستثنائية لعرفات لالتقاط المبادرة، واستثمار فشل "حماس" ورابين من اتجاهين مختلفين، حين لم تطرح سلطة عرفات الاحتمال التالي: ان يرفع عرفات سماعة الهاتف ويحادث رابين في مكتبه مباشرة لا للاستماع الى اعترافه الضمني والخجول بانكسار ادعاءاتها وتهشمها تماماً، ولا للثناء على جهود قوات الشرطة والأمن الفلسطينيين وعرفات شخصياً الذين "تصرفوا كما ينبغي حين قلنا لهم ان الجندي مختطف في غزة" - والكلام لرابين - بل ليقوم بتعديل اتفاقه الامني المبرم مع اسرائيل في القاهرة بتاريخ الرابع من أيار مايو الماضي وانتزاع توقيع رابين على تحرير سلطة عرفات نهائياً من مسؤولية اية اعمال عسكرية تقع خارج حدود سيطرتها ولا تخضع لصلاحياتها. هذا الخطأ الكبير فتح الباب على مصراعيه لبعث "فزاعة" الحرب الاهلية التي تجبرنا على وضع اسئلة اختبارية خرجت من التداول في ظل الحدث ولكنها قابلة للتداول في اطار وقائع اخرى: ماذا لو اطلقت "حماس" الجندي المخطوف، وأظهر سياسيوها مقدرة فائقة في السيطرة على اجهزتهم الامنية كما فعل عرفات حتى الآن، وانسحب الخاطفون الى قواعد خلفية بعد تسجيل سابقة أمنية توفر جميع عناصر القوة لاحراج رابين وليس عرفات؟ سوف يقف الجميع قبالة احتمالين متجاورين: ان تصب هذه الخطوة بنتائجها المباشرة وربما البعيدة ايضاً في خانة عرفات وتقوي من مواقعه. وهذا انجاز لسلطته، لكنه انجاز عام ايضاً يصب في خانة المصلحة الوطنية. اما ان تكون "حماس" هي مصدر هذا الانجاز بالضرورة فانه قد يسبب نوعاً من "الاحراج الايجابي" لعرفات لكنه سيغلق ابواب فزاعة الحرب الاهلية ويكشف عن تعاون طرفين: سلطة تستفيد من قوة معارضيها، ومعارضة استوعبت ابسط شروط المعارضة الايجابية خارج نطاق المصلحة الضيقة المسنودة ببرنامج سياسي لا يهم غالبية الفلسطينيين المؤيدين لعملية السلام. انه الحدث الذي لم يقع بسبب انشداداته لعمليات انتاج تجارب قديمة غير ناجحة. وفي التفاصيل نعثر على اسباب كافية للكشف عن غطاء التراث الذي يحكم قواعد لعبة من هذا المستوى. فلنستخدم من دون حرج عناصر القياس والاختبار: تجربة المبعدين لقد استفادت "حماس" الى أبعد الحدود من خطأ رابين ابعاد عدد من عناصرها الى مرج الزهور في جنوبلبنان اثر عملية خطف لجندي اسرائيلي مماثلة لما وقع اخيراً في بير بنالا. وتمكنت من استثمار البعد النضالي لصمود المبعدين في مواجهة جانبية مع عرفات "المفاوض" والراغب في تفكيك عملية الابعاد وحماية مفاوضاته من الانهيار تحت ضغط مماثل مارسه رابين في حينه، باعلانه قبول الاقتراح الذي نص على اعادة المبعدين على مراحل، وبينهم اليوم ناطقون ومتحدثون باسم "حماس" في غزة. لكن "حماس" لم تنجح في استثمار الابعاد السياسية للعملية حين حشرت نفسها داخل دائرة معارضتها للمفاوضات من دون احتساب امكانية استثمار مأزق رابين نفسه الذي كان الطرف الاضعف في المعادلة والمحاصر دولياً. وفي نهاية الامر اضطرت "حماس" الى التراجع بصمت وقبول ما كان عرضه عرفات ورابين وقبلت به الاوساط الدولية. ليس في الامر غرابة حين تجبر الوقائع قوة سياسية او عسكرية على تغيير مسارها وقبول عرض خصومها. ولكن فيه من الاستخلاصات ما يكفي لتبرير اعادة سرد تلك الواقعة لنكتشف بوضوح ان ما لم تعلنه "حماس" في حينه واليوم ايضاً هو شعارها الضمني: "بيدنا لا بيد عرفات". لنر الى المسألة بطريقة اخرى: اذا كان خيار اسرائيل بين الأمن والعمل العسكري من جهة وبين التفاوض من جهة أخرى هو المطروح على بساط المستوى السياسي فيها فانها تختار الحل العسكري. وبهذا المعنى الذي تعزز في عملية "عنتيبي" الشهيرة الناجحة وكذلك في جميع ما تبعها واعقبها من عمليات أمنية فاشلة قامت على مبدأ "تحرير الرهائن مهما كلف الثمن" فان ما شهدناه في بير نبالا ليس سوى مشهد آخر مصغر من مشاهد عمليات "معلوت" و"سافوي" وسواهما منذ ما بعد العام 1974، مع تغيير في الاسماء والاماكن والمحتجزين أو المختطفين. فالقاسم المشترك كان ولا يزال قرار الحكومة الاسرائيلية بتنفيذ حكم الاعدام بالخاطفين والمخطوفين معاً لتجنب التفاوض او تقديم ثمن للخاطفين. الحوار والتناقضات وفي المحصلة نعود الى الاعتراف بأن عرفات هو المستهدف في اختبار القدرة على متابعة الرقص مع "الذئاب"، حين نتأكد من اعلان رئيس المكتب السياسي ل "حماس" الدكتور موسى أبو مرزوق رفضه اي حوار مع عرفات رئيس السلطة الذي وقع الاتفاقات مع اسرائيل، و"لا نقاطع فتح" والقول لأبي مرزوق. ولا ينطوي هذا الاعلان وغيره سوى على مفارقات تكشف عن تملص من الاعتراف بأن لا مخرج للازمة الفلسطينية العامة الا بالتحاور مع عرفات و"حزب السلطة" ليس بوصفهما الافضل ولكن باعتبارهما الممر الضروري للتعامل مع المتغيرات الناشئة بعد قيام السلطة الفلسطينية التي لا يقلل عدم التعامل معها من حقيقة كونها الواقع الوحيد القائم. ما يبقى اذن يفسر تناقض مواقف "حماس" في موضوعات مثل المشاركة في السلطة او الانتخابات المقبلة ربما بسبب ادراكها ان اقصى ما يوفره قبولها العمل ضمن قواعد اللعبة الديموقراطية هو التحرك تحت سقف اغلبية يسيطر عليها عرفات. وبهذا المعنى يكشف تردد "حماس" وتباين مواقفها عن استمرار الخلط بين الحماس الشعبي العام لاعمال ضد الاحتلال الاسرائيلي يقدم بعضها متنفساً للكبت الناجم عن بلوغ السلطة الفلسطينية ذروة ازمتها السياسية وتردي احوالها الاقتصادية واستمرار "الفساد والفوضى الادارية والحكومية العامة" من جهة وبين النفوذ الفعلي لقوى المعارضة. فحين ننقل هذه الاعتبارات من قائمة الاحتمالات الى حيز المعلومات والاختبارات الميدانية والموازين الحسية يظهر اتفاق جميع مصادر المعلومات على تأكيد محدودية قوة المعارضة. ما يدفع ب "حماس" الى تفضيل الخروج من مأزقها السياسي بالتعاطي المطلق مع النفوذ العام تحت تأثير الانتصارات العسكرية والامنية المؤقتة. "انتهى شهر العسل في قطاع غزة". قال أحد ضباط الشرطة الفلسطينية، وأضاف توجد لدينا أوامر جديدة تقضي باعتقال كل من يحوز سلاحاً غير مرخص ومصادرته. ففي غزة "يوجد رب بيت واحد هو القانون والسلطة الفلسطينية ولن نسمح بأن يدوسوا - اي اعضاء حماس - القانون". هكذا كانت ملامح الصورة قبل عملية الباص الاسرائيلي في تل ابيب. والأكيد ان العملية ضاعفت حدة المواجهة بين اسرائيل و"حماس" وربما ادت الى قرار كبير بانهاء "حماس" يكون المدخل اليه اندلاع حرب أهلية في غزة.