لم يسبق للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ان فقد أعصابه أمام وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر أو سلفه جيمس بيكر كما فقدها عندما اتصل به كريستوفر من دمشق في زيارته الأخيرة ليبلغه بأن الولاياتالمتحدة تحمّل السلطة الفلسطينية مسؤولية تعرّض الجندي الاسرائيلي نخشون واكسمان لأي سوء بعدما خطفته مجموعة من حركة "حماس" وقبل ان يحاول الاسرائيليون تخليصه من خاطفيه في عملية عسكرية فاشلة. ومما قاله عرفات لكريستوفر انه يحترم كل ما التزمه في الاتفاقات التي عقدتها السلطة الفلسطينية مع اسرائيل، سواء في أوسلو أو في واشنطن أو في القاهرة، لكن مثل هذا الالتزام لا يعني "انني مسؤول عن أمن الدولة العبرية"، مشيراً الى ان اسرائيل التي سيطرت على قطاع غزة طوال أكثر من 25 عاماً لم تنجح في وقف العمليات العسكرية لحركة "حماس" وغيرها، لا في القطاع ولا في عمق الأراضي الاسرائيلية، وبالتالي لا مبرر لأن تلقي اسرائيل المسؤولية على السلطة الفلسطينية بدل ان تتحمل مسؤولية فشلها في حماية أمن مواطنيها. وقال عرفات لكريستوفر انه سيبذل كل ممكن لمحاولة معرفة مكان وجود الجندي المخطوف، لكنه استدرك مؤكداً ان الجندي "لم يخطف من المناطق التي تسيطر عليها سلطة الحكم الذاتي، وكذلك هو غير موجود فيها، بدليل ان الجندي ظهر في الشريط التلفزيوني المصور وهو يرتدي ملابس شتوية في حين ان الطقس في غزة وقطاعها حار، ما يعني ان الجندي المخطوف هو حتماً في الجليل أو الضفة الغربية التي لا تزال خاضعة لسيطرة القوات الاسرائيلية". ولم ينتظر عرفات كثيراً صباح يوم الأربعاء الماضي، اذ ما ان تبلغ خبر الانفجار في باص للركاب في ميدان ديزنغوف وسط تل أبيب الذي أسفر عن مقتل أكثر من عشرين شخصاً وجرح عشرات آخرين حتى استدعى مستشاريه الأمنيين والسياسيين وخرج بقرار يدين فيه العملية التي أعلنت "كتائب عزالدين القسام - مجموعة مرج الزهور" عن تنفيذها. ومع ان تفاصيل تنفيذ العملية وخلفياتها وتأثيرها على تطورات المسيرة السلمية بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية لا تزال غير واضحة، أجمع المراقبون على ان قوة الانفجار الذي هزّ قلب تل أبيب كانت مماثلة لقوة الانفجار الذي نفذته "حماس" في شهر نيسان ابريل الماضي في مدينة الخضيرة وأسفر عن مقتل خمسة اسرائيليين. ولا تكشف الصيغة التي اعتمدتها "حماس" لاعلان مسؤوليتها عن الحادث عبر مكبرات الصوت في "مسجد فلسطين" في غزة ومساجد اخرى طريقة تنفيذ العملية، فيما حرص القادة السياسيون والاعلاميون للحركة داخل وخارج الأراضي المحتلة في التفريق بين "مجموعة مرج الزهور" التي أعلنت مسؤوليتها وبين مبعدي "حماس" الى جنوب لبنان في محاولة للتمويه. وقال ابراهيم غوشة الناطق الرسمي باسم "حماس" خارج الأراضي المحتلة انه لا يستبعد استمرار هذا النمط من العمليات العسكرية اذا استمرت العملية السلمية بالأسلوب نفسه الذي سارت عليه في السنوات والأشهر الماضية. وأضاف في حديث هاتفي مع "الوسط" ان "القوى الميدانية التي تمثل الشعب الفلسطيني تريد ان تثبت وجودها وحضورها، اذ من دون عودة أربعة ملايين لاجئ ومع استمرار اذلال شعبنا داخل الأرض المحتلة، تحرص "حماس" على اثبات ان اتفاقات أوسلو وواشنطن قصاصات ورق لا تسمن ولا تغني عن جوع، وهي لا تساوي الحبر الذي كتبت به". ورفض غوشة الاتهامات التي وجهت الى حركته حول استغلاله سوء العلاقة بين الأردن والمنظمة وتركيزها على انتقاد المنظمة من دون غيرها من الأطراف العربية التي وقعت او ستوقع اتفاقات مع اسرائيل. وقال "ان الحركة ستعمل على تمزيق أية اتفاقات أو معاهدات ضد مصلحة الشعب الفلسطيني، وقد حددت "حماس" موقعها من كل طرف في عملية السلام". ولا يبدو ان هناك بيانات واضحة تؤيد كلام غوشة، ويعترف قطب بارز في "حماس" بأن ظروف تواجد بعض قادتها في بلدان عربية حال دون صدور مواقف بارزة من عملية التسوية، مشيراً الى ان هذا الأمر ربما ينعكس على شعبية الحركة داخل الأراضي المحتلة والتي تبدي حساسية بالغة حيال ارتباط الحركة بجهات أخرى أو سكوتها عن طرف لمصلحة طرف آخر. ليفعلوا ما يريدون وقال تقرير ديبلوماسي مصدره غزة ان غالبية ابناء القطاع ينظرون بقلق الى تهديدات "حماس" بحرق قطاع غزة اذا استمرت السلطة الفلسطينية في احتجاز انصارها وكوادرها، مضيفاً ان هناك قطاعاً واسعاً من المواطنين، وان كان لا يزال يعاني من الاحتلال وتسلطه الا انه لا يريد ان يخسر ما حصل عليه بفضل اتفاقية الحكم الذاتي. ويشير الى ان "حماس" لم تنجح في جمع أكثر من بضعة آلاف فلسطيني للتظاهر في غزة على رغم ان الحركة وضعت باصات نقل كبيرة بتصرف المواطنين للمشاركة في تظاهرة الاحتجاج ضد السلطة الوطنية يوم الاثنين الماضي. وأبدى أكثر من مراقب أجنبي "اعجاباً" بالطريقة التي تعامل بها عرفات مع تظاهرة "حماس"، ذلك ان الرئيس الفلسطيني طلب من قادة الشرطة ومسؤولي حركة فتح في القطاع عدم الوقوف في وجه أي نشاط تنظمه "حماس" لانجاح مسيرتها على رغم ترديد المتظاهرين هتافات ضد عرفات، كما أفسح المجال للباصات التي أقلت المتظاهرين للوصول الى قلب غزة، وقال عرفات لمستشاريه "ليفعلوا ما يريدون شرط ان لا يعتدوا على املاك الغير ويحترموا القوانين". والتفت عرفات نحو ديبلوماسي أجنبي كان في مكتبه وقال: "أنا لا أقود قطيعاً من الغنم، أنا أقود شعباً ولأبنائه حرية التظاهر والتعبير ضمن ما تسمح به القوانين"، وتساءل عما اذا كانت تظاهرة تضم بضعة آلاف من أصل حوالى مليون مواطن يسكنون قطاع غزة مشكلة وأجاب "لا أعتقد ذلك". ومع ان الضجة التي رافقت خطف الجندي الاسرائيلي كانت لا تزال تتفاعل، جاءت عملية تفجير باص الركاب في تل أبيب لتطرح سيلاً من التساؤلات والاستفسارات عن تأثير النشاط العسكري المتزايد لپ"حركة المقاومة الاسلامية" على عملية السلام بشكل عام وعن مدى استعداد اسرائيل للاستمرار في تنفيذ تعهداتها وتطبيق ما وعدت به في الاتفاقات المعقودة بيها وبين السلطة الفلسطينية. ولعل أبرز ما يشغل عرفات، أكثر من متابعة عملية حماس الأخيرة وانعكاساتها، علاقة السلطة الفلسطينية بالحكومة الأردنية، لا سيما بعد ان استفحل الخلاف بين الجانبين على قضية القدس وتعيين كل طرف مفتياً للمدينة الرازحة تحت الاحتلال. وينظر بعض مساعدي عرفات، وحتى عرفات نفسه، باستغراب الى موقف بيريز الذي سلم بيده رسالة سرية الى القيادة الفلسطينية قبل توقيع اتفاق واشنطن في ايلول سبتمبر 1993 تدعو الى تأجيل البحث في مستقبل المدينة المقدسة الى وقت آخر. وتقول الرسالة التي حصلت "الوسط" على نسخة منها موقعة من فاروق قدومي رئيس الدائرة السياسية في المنظمة ان اسرائيل تحرص على حماية المؤسسات الفلسطينية الموجودة في القدسالشرقية نظراً الى أهميتها بالنسبة اليهم. وأوضح أبو اللطف لپ"الوسط" ان الرسالة طلبها شخصياً من وزير الخارجية النروجي الراحل جوهان يورغن هولست قبل أيام من توقيع اتفاق أوسلو، وطلبها الأخير بدوره من بيريز. ويعتبر أبو اللطف ان فتح ملف القدس أو الولاية الدينية عليها سابق لأوانه فلسطينياً وأردنياً، وان اسرائيل "تغتبط" برؤية الجانبين الفلسطينيوالأردني يتنازعان عليها. وقال السيد فريح أبو مدين وزير العدل في السلطة الفلسطينية لپ"الوسط" ان اللعبة الاسرائيلية لن تنطلي على الفلسطينيين، لأن أي عرقلة لعملية السلام ولتنفيذ الاتفاقات بين الفلسطينيين واسرائيل ستكون على حساب اسرائيل. وأوضح ان السلطة الفلسطينية لم تأتِ الى غزة مع الشرطة لحماية الاسرائيليين في تل أبيب وغيرها من المناطق غير الخاضعة لسلطة الحكم الذاتي، لا سيما ان حواجز التفتيش الاسرائيلية تقوم بعملها كالمعتاد، وبالتالي فان أي تسلل أو عمل عسكري خارج حدود سلطة الحكم الذاتي يقع على مسؤولية الحكومة الاسرائيلية وأجهزتها الأمنية. خسارة 10 ملايين دولار ويقول وزير فلسطيني آخر في قطاع غزة ان اغلاق قطاع غزة من قبل السلطات الاسرائيلية بعد كل عملية تنفذ تترك نتائجها السلبية على سكان القطاع الذين يعانون من أزمة اقتصادية خانقة. وضرب المسؤول الفلسطيني مثلاً على الخسارة فقال "ان الكثيرين من المستثمرين الفلسطينيين لا بد ان يترددوا في توظيف أموالهم وايجاد فرص عمل للعاطلين اذا شعروا للحظة واحدة بأن توظيفاتهم غير مضمونة النتائج". ولم يستبعد ان يكون اغلاق قطاع غزة في الاسبوعين الماضيين أدى الى خسارة استثمارات قدرت قيمتها بعشرة ملايين دولار أميركي. ويؤكد مسؤول فلسطيني آخر ان الأسبوع الذي أعقب لقاء رابين وعرفات أخيراً في ايريز عند مدخل قطاع غزة كان حافلاً نجحت خلاله السلطة الفلسطينية في قطف ثمار جهودها، اذ تمكن عرفات من بناء علاقة عمل جيدة مع رابين للمرة الأولى منذ ان التقاه في واشنطن، وقال المسؤول ان عرفات ورابين اعتادا ان ينهيا لقاءاتهما الثنائية بخلافات، الأمر الذي لم يحصل في اجتماعهما الأخير، كما ان الدول المانحة للمساعدات كانت على وشك انجاز مذكرة تحدد المفاهيم التي تتجاوز فشل مؤتمر الدول المانحة الذي انعقد في باريس، ولولا تطورات احداث الأسبوع قبل الماضي من خطف الجندي وتفجير الباص في تل أبيب لتم توقيع المذكرة، اضافة الى ان وصول وفد شركة فلسطين للتنمية والاستثمار كان اشارة واضحة الى ان المتمولين الفلسطينيين البارزين الذين طالما أبدوا تحفظاتهم عن اداء السلطة الفلسطينية، قرروا دخول المعترك ووضع ثقلهم الى جانبها لفتح مجالات عمل جديدة وفرص تهدف الى التنمية والاستثمار. ويحرص أنصار السلطة الوطنية على القول بأن عملية البناء صعبة وان الهدف هو استقطاب الكوادر العلمية والفنية القادرة على تسيير العمل بصورة دقيقة بما يضمن تأسيس بنية تحتية قوية. ويستبعد فريح أبو مدين ان يكون قطاع غزة مسرحاً لحرب أهلية بين أنصار "حماس" والشرطة الفلسطينية، ويقول ان ذلك لن يتحقق لأنه "من غير المسموح على الاطلاق اللعب بمصير الناس ومقدراتهم". ويضيف ان الحركة الاسلامية في الأراضي المحتلة، العام 1948، قامت بجهد ملموس لاطفاء فتيل الفتنة عندما زار وفد منها برئاسة عبدالله نمر درويش ورائد صلاح رئيس بلدية أم الفحم قيادة السلطة الفلسطينية بهدف التفاهم معها بخصوص ما استجد من تطورات بين "حماس" والسلطة. وقد أبلغ اعضاء وفد الحركة بأن السلطة الفلسطينية مصرة على نزع السلاح الموجود في قطاع غزة من أيدي المواطنين واعادة تنظيمه لأن حماية السكان هي من صلاحيات السلطة الوطنية وليس أي طرف آخر. ولكن الدكتور ابراهيم اليازوري، أحد أبرز قيادات "حماس" داخل قطاع غزة، يؤكد ان "الجو متوتر" في القطاع، وان هناك "نقمة شعبية" على السلطة لاعتقالها كوادر وأنصار الحركة. ووصف المسيرة التي حصلت يوم الاثنين الماضي بأنها كانت "ضخمة" وان "عشرات الآلاف" شاركوا فيها "لكن وكالات الأنباء تعمدت التقليل من أهميتها". وأكد اليازوري حرص "حماس" على عدم وقوع اشتباكات فلسطينية - فلسطينية. وقال لپ"الوسط" ان هناك "قناعة لدى "حماس" باستمرار العمليات العسكرية طالما بقي الاحتلال قابعاً فوق أرضنا". وبانتظار رؤية رد فعل رابين الذي قطع زيارته الخاصة للندن بعد تلقيه نبأ انفجار تل أبيب، وطريقة تعامل عرفات مع "حماس" لاستيعاب رد الفعل الاسرائيلي والضغوط الدولية، يبقى أمام الجانبين الاسرائيلي والفلسطيني سلوك طريق واحد لا مفر منه وهو السير قدماً باتجاه تطبيق الاتفاقات المعقودة بينهما التي قال رابين ان نشاطات "حماس" تهدف الى نسفها، قبل أيام من زيارة كلينتون للمنطقة لحضور حفل توقيع اتفاق السلام الأردني - الاسرائيلي على ضفاف البحر الأحمر.