لم يمضِ اسبوعان على عرض "المهاجر"، أحدث أفلام المخرج المصري البارز يوسف شاهين، حتى بدأت التكهنات باحتمال وقف عرض الفيلم، بسبب ما اعتبره بعضهم "اجتراءً" على نبي من أنبياء الله هو يوسف عليه السلام وتعريضاً بسيرته. ويبدو أن الردود العنيفة على محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها الكاتب الروائي نجيب محفوظ مساء الجمعة، الخامس عشر من تشرين الأول اكتوبر الماضي، اي بعد حوالي خمس سنوات على الافتاء بقتله لسبب مشابه، لم تفت في عضد المعارضين لاستمرار عرض الفيلم، إذ اتسع نطاق الجدل على نحو يهدد بانتكاسة جديدة للمدافعين عن حرية التعبير. وفي الوقت الذي نشرت أنباء عن "دعوى قضائية" أمام محكمة الامور المستعجلة في عابدين ضد كل من مخرج "المهاجر" ومنتجيه وشيخ الازهر ووزير الثقافة ومدير الرقابة على المصنفات الفنية، للنظر في وقف عرض الفيلم والتحفظ على كل نسخه واشرطته ومنع تداولها او تصديرها، قرر مجلس الشعب المصري ان يناقش في دورته المقبلة، يوم الخامس من تشرين الثاني نوفمبر، طلب احاطة عن الفيلم قدمه أحد النواب إلى وزير الثقافة. قصة النبي يوسف واستند مقدما الدعوى القضائية وطلب الاحاطة على اعتقاد بلغ مستوى اليقين لدى الاول بأن الفيلم يتناول قصة سيدنا يوسف عليه السلام تناولاً "يتعارض مع ما ورد في الكتب السماوية" ويحمل مضامين سياسية "تحط من قدر مصر وشعبها وتسقط قيمه وحضارته" . كما يحمل الفيلم، وفقاً للدعوى التي رفعها محام شاب يدعى محمود أبو الفيض، "دعوة صريحة إلى العنصرية، وسخرية شديدة من حكام مصر في ذلك العصر ومن الشعب المصري نفسه". وصرح ابو الفيض إلى "الوسط" بأنه شاهد غالبية افلام يوسف شاهين وانه يحترم فن هذا المخرج "على رغم خبثه الواضح خصوصاً في افلامه الخمسة او الستة الاخيرة، إلا أنه في "المهاجر" تعرى تماماً وكشف بوضوح مواقفه الحقيقية". وقال المحامي الذي يدير مكتباً متواضعاً للمحاماة في أحد أحياء القاهرة الشعبية، إنه ترك كل أشغاله وقضاياه وتفرغ ليوسف شاهين، "فالدفاع عن الدين والرسل فرض عين على كل مسلم". وأوضح أنه شاهد "المهاجر" مرتين، مرة كمشاهد عادي، ومرة كمحام. واضاف: "يوسف شاهين ليس مخرجاً عادياً، لذا يحتاج الى تركيز وتمحيص وعينين مفتوحتين عن آخرهما". ونفى ابو الفيض ان يكون هناك تشابه بين "اولاد حارتنا" و"المهاجر" لكنه لم يحدد جوهر الاختلاف. وأشار إلى أنها المرة الاولى التي يقاضي فيها فناناً او مثقفاً، وان قراره رفع الدعوى ضد يوسف شاهين لم يقابل بأي رد فعل من قبل زملائه السينمائيين، "لكن المواطنين العاديين تحمسوا إلى رفع الدعوى وصرخ أحدهم في وجهي لفرط غيرته على دينه وحضارة بلده: أوقفوا هذا الرجل يقصد يوسف شاهين عند حده". واكد ابو الفيض استحالة ان يكون شيخ الأزهر قد وافق على عرض الفيلم، وقال: "لو ثبت أن هذا حدث بالفعل سأتنازل عن الدعوى المرفوعة ضد يوسف شاهين وسأقاضي شيخ الازهر. حاولت الاتصال بمكتب شيخ الازهر للتثبت من حقيقة موقفه إلا أن موظفي المكتب رفضوا التحدث معي بحجة أنني اختصمته في دعواي". بين الأزهر وشاهين والمعروف ان يوسف شاهين كان تقدم الى الأزهر بسيناريو فيلم يحمل عنوان "يوسف واخوته" يروي فيه جانباً من سيرة نبي الله عليه السلام، خصوصاً رحلته الى مصر، نظراً إلى قرار بمنع ظهور انبياء الله على الشاشة او إنطاقهم. وإذا كان القرار يختص في الغالب بالافلام التي يكتب نصوصها ويمثلها ويقف وراءها سينمائيون مصريون او عرب، فقد منع الازهر على سبيل المثال عرض فيلم "الرسالة" لمصطفى العقاد في مصر بينما لم يتدخل، او ربما لم يحل دون عرض افلام "الرداء" او "كوفاديس" او "الوصايا العشر"، وقد تناولت مباشرة شخصيتي عيسى وموسى عليهما السلام. واكد يوسف شاهين ل "الوسط" انه اقتنع بوجهة نظر الازهر: "لم يكن بيننا خلاف، وبصراحة أفادني هذا الرأي وحررني من قداسة الشخصية. ومن هذا المنطلق قدمتُ شخصية "رام" بكل ما في الشخصية الانسانية من مظاهر قوة وضعف. وهذا لم يكن ممكناً لو وافق الأزهر على سيناريو يوسف واخوته". وبناء على ذلك اجرى شاهين بعض التعديلات على النص المقترح فغيّر اسم الفيلم الى "المهاجر" وجعل اشقاء يوسف سبعة، بدلاً من احد عشر، واستبدل بالبئر قاع المركب الذي حمله الى مصر. واذا كان يوسف عليه السلام قد أتى الى مصر غلاماً وبغير ارادته فقد أتى اليها بطل يوسف شاهين شاباً يافعاً يبحث عن المعرفة. أما أبرز التعديلات التي ادخلها المخرج على نص "يوسف واخوته" فتتمثل في عودة رام واخوته الى موطنهم. وهو ما تقول بخلافه وقائع قصة يوسف عليه السلام كما وردت في القرآن الكريم. انقسام الآراء ومن الواضح ان الرقابة على المصنفات الفنية في مصر إبان فترة وجود مديرها السابق حمدي سرور اقتنعت بهذه التعديلات ولم ترَ ضرورة لعرض سيناريو الفيلم على الأزهر القانون يعطي الرقابة هذا الحق. غير ان ذلك لم يحل دون انقسام الآراء في فيلم يوسف شاهين الذي بلغت نفقاته مليوني دولار، أي نحو سبعة ملايين جنيه مصري، وهو أضخم إنتاج عرفته السينما المصرية طوال تاريخها. ولوحظ ان غالبية الآراء التي احاطت بالفيلم فور عرضه ذهبت في اتفاقها واختلافها الى حد بدا كما لو أنها ليست "معركة من أجل فيلم". الأمر الذي أعاد إلى الأذهان أجواء الجدل حول فيلم شاهين الوثائقي "القاهرة منورة بأهلها" في أيار مايو 1991. فالمؤيدون ل "المهاجر" يرون فيه حدثاً سينمائياً وثقافياً هو الأبرز والأهم بين كل أحداث العام "وملحمة سينمائية في حب مصر وأهلها وأرضها وتاريخها". كما أنه "خلاصة مسيرة ابداعية طويلة وصعبة ومعقدة اراد فيها اي شاهين ان يغير السينما العربية، وقد فعل فلم تعد كما كانت قبله. بل أراد أن يغير الانسان العربي، أن يجعله أكثر قدرة على التفاعل مع العالم". اما الآراء المعارضة فتراوحت بين اعتبار "المهاجر" "سياحة سينمائية مبهرة" والنظر إليه "مجموعة من الافتراءات أبدعها خيال مخرج وكاتب خطر لا يصلح لتناول المواضيع التاريخية لأنه يمتلىء بالبطل الذي يختاره ويمتلىء البطل بيوسف شاهين ويصبح الخروج على كل شيء مباحاً". بين بين في غضون ذلك برزت قلة من الكتاب والنقاد حاولت قدر طاقتها التزام الجانب الحياد عند الحديث عن الفيلم، اذ أشادوا بتقنيته المتقدمة وسيطرة المخرج على أدواته، واعتبروا "المهاجر" "عودة الى روح يوسف شاهين" التي تجلت في مجموعة أفلامه القديمة: "الارض" و"باب الحديد" و"الناصر صلاح الدين" وغيرها، ما يعد "علامة فارقة في تطور السينما العربية". في الوقت نفسه انتقد هؤلاء الكتاب والنقاد موقف شاهين من الحضارة المصرية القديمة وتعمده الاخلال بالتسلسل التاريخي لوقائع الفيلم. وربط الناقد السينمائي مصطفى درويش بين هذا الموقف ودأب اليهود على تشويه هذه الحضارة والعبث في الوقت نفسه بالوقائع التاريخية. وقال درويش ل "الوسط": "ان رسالة الفيلم تتفق ومناخ التطبيع الحالي، كما أنها تأكيد جديد لدعوة يوسف شاهين الى الانفتاح على الآخر"، مشيرا الى ان ذلك "يفسر اهتمام شاهين أكثر من اي وقت بضرورة ان يصل الفيلم الى الجمهور المصري". واكد الناقد السينمائي الذي عمل في الستينات مديراً للرقابة على المصنفات الفنية ان ثمة "خلطاً" حدث لدى كل من شاهد الفيلم وكتب عنه، وهو انه يروي جانباً من سيرة يوسف الصديق عليه السلام، او هو مستوحى من هذه السيرة، واضاف: "الشائعة التي روج لها شاهين كاذبة وخبيثة في آن فقد رجعتُ الى التوراة واتضح لي أن رام بطل "المهاجر" شخصية حقيقية وموجودة ،وأنه جد الملك داود، ملك اليهود. أي انه ليس بالشخصية العادية. كما أنه لا يمت إلى يوسف الصديق بأية صلة. الامر الذي فسّر لي جانباً مهماً من رسالة الفيلم". وتساءل درويش: "هل سألت نفسك لماذا يتحرك رام في بلاط آلهة الفراعنة وكهنتهم بهذه الحرية؟ اعتقد بأن السبب يكمن في أنه من عائلة مالكة". وعن الايرادات الكبيرة التي حققها "المهاجر" بخلاف كل افلام شاهين الاخيرة، قال درويش: "انه الفضول"، مشيراً الى أن الجمهور تأثر كثيراً بالدعاية الضخمة التي سبقت الفيلم، وكانت من بينها شائعات تؤكد ان الفيلم مأخوذ عن قصة سيدنا يوسف. واضاف: "معظم الجمهور الذي ذهب لمشاهدة الفيلم كان مدفوعاً بالرغبة في مشاهدة أحد أنبياء الله على الشاشة، وهذا لم يحدث من قبل"... لكنه أكد أنه يعارض مقاضاة شاهين والقائمين على الفيلم "أياً كان الخلاف معهم لان من شأن ذلك حدوث انتكاسة لحرية التعبير نحن في غنى عنها". تنويهان مختلفان! وعاب كثيرون على يوسف شاهين كتابة تنويهين مختلفين في مقدمة الفيلم أحدهما بالعربية يؤكد فيه أن الفيلم رؤية فنية مستوحاة من التراث الانساني. والآخر بالفرنسية، ويشير صراحة إلى أن الفيلم معالجة درامية لقصة يوسف الصديق. غير ان المخرج نفى ل "الوسط" ان تكون هناك "أية شبهة للاستهانة بمشاعر الجماهير العادية أو الضحك عليها"، وقال: "إن الترجمة الحرفية للتنويه بالفرنسية هي: مثل يوسف بن يعقوب في الكتب السماوية، يواجه الشاب رام ضراوة الطبيعة وقسوة أهل قبيلته فيسافر إلى مصر الفرعونية بحثاً عن العلم وعن النور". واضاف شاهين: "ان الفيلم يحكي قصة هذا الصراع. أي أن ما يقوله النص بوضوح هو أنه ليس قصة سيدنا يوسف، بل قصة شاب يدعى رام. وقد استلهمت التراث الديني والانساني لأعطي الشباب المصري الآن أملاً في ان المثابرة وقوة الارادة والعفة والوفاء والايمان تؤدي إلى النجاح والحكمة". وتساءل: "هل يمكن اعتبار ذلك ماساً بالقيم التي تنادي بها الاديان؟ ألا يبرهن الاقبال الجماهيري الشديد على الفيلم على أن هذه المعاني وصلت الى الناس"؟