جمعية أسر التوحد تطلق أعمال الملتقى الأول للخدمات المقدمة لذوي التوحد على مستوى الحدود الشمالية    سلمان بن سلطان: نشهد حراكاً يعكس رؤية السعودية لتعزيز القطاعات الواعدة    شركة المياه في ردها على «عكاظ»: تنفيذ المشاريع بناء على خطط إستراتيجية وزمنية    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع    "موسم الرياض" يعلن عن النزالات الكبرى ضمن "UFC"    رينارد يواجه الإعلام.. والدوسري يقود الأخضر أمام اليمن    وزير داخلية الكويت يطلع على أحدث تقنيات مركز عمليات 911 بالرياض    عمان تواجه قطر.. والإمارات تصطدم بالكويت    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان    الجيلي يحتفي بقدوم محمد    جسر النعمان في خميس مشيط بلا وسائل سلامة    تيسير النجار تروي حكاية نجع في «بثينة»    الصقارة.. من الهواية إلى التجارة    زينة.. أول ممثلة مصرية تشارك في إنتاج تركي !    "الصحي السعودي" يعتمد حوكمة البيانات الصحية    مستشفى إيراني يصيب 9 أشخاص بالعمى في يوم واحد    5 طرق لحماية أجسامنا من غزو البلاستيك    الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    26 مستوطنة إسرائيلية جديدة في عام 2024    استدامة الحياة الفطرية    قدرات عالية وخدمات إنسانية ناصعة.. "الداخلية".. أمن وارف وأعلى مؤشر ثقة    إعداد خريجي الثانوية للمرحلة الجامعية    "فُلك البحرية " تبني 5600 حاوية بحرية مزود بتقنية GPS    محمد بن سلمان... القائد الملهم    البرازيلي «فونسيكا» يتوج بلقب بطولة الجيل القادم للتنس 2024    برنامج الابتعاث يطور (صقور المستقبل).. 7 مواهب سعودية تبدأ رحلة الاحتراف الخارجي    العقيدي: فقدنا التركيز أمام البحرين    قطار الرياض.. قصة نجاح لا تزال تُروى    تعاون بين الصناعة وجامعة طيبة لتأسيس مصانع    5.5% تناقص عدد المسجلين بنظام الخدمة المدنية    وتقاعدت قائدة التعليم في أملج.. نوال سنيور    «بعثرة النفايات» تهدد طفلة بريطانية بالسجن    رشا مسعود.. طموح وصل القمة    فريق علمي لدراسة مشكلة البسر بالتمور    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    غارات الاحتلال تقتل وتصيب العشرات بقطاع غزة    تنمية مهارات الكتابه الابداعية لدى الطلاب    منصة لاستكشاف الرؤى الإبداعية.. «فنون العلا».. إبداعات محلية وعالمية    محافظ جدة يطلع على برامج "قمم الشبابية"    تشريعات وغرامات حمايةً وانتصاراً للغة العربية    سيكلوجية السماح    عبد المطلب    زاروا معرض ومتحف السيرة النبوية.. ضيوف «برنامج خادم الحرمين» يشكرون القيادة    آبل تطور جرس باب بتقنية تعرف الوجه    هجوم ألمانيا.. مشهد بشع وسقوط أبشع!    استراتيجية الردع الوقائي    التشريعات المناسبة توفر للجميع خيارات أفضل في الحياة    تجويد خدمات "المنافذ الحدودية" في الشرقية    خادم الحرمين يرعى منتدى الرياض الدولي الإنساني    سعود بن بندر يلتقي مجلس «خيرية عنك»    ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة يصلون مكة ويؤدون مناسك العمرة    القبض على شخص بمنطقة الحدود الشمالية لترويجه «الأمفيتامين»    كافي مخمل الشريك الأدبي يستضيف الإعلامي المهاب في الأمسية الأدبية بعنوان 'دور الإعلام بين المهنية والهواية    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    تجمع القصيم الصحي يعلن تمديد عمل عيادات الأسنان في الفترة المسائية    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    ولادة المها العربي ال15 في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوسف شاهين وسينما السيرة الذاتية
نشر في الحياة يوم 23 - 04 - 1999

أدب السيرة الذاتية من المحرمات المرفوضة في واقعنا العربي، حيث لا يسمح بالبوح والصراحة والاعتراف ومواجهة الذات، وهوجمت هذه السير واصحابها منذ "الأيام" لطه حسين، و"الخبز الحافي" و"الشطّار" لمحمد شكري وما بعدها.
وتمثل أفلام "السيرة الذاتية" نمطاً فريداً في التعبير السينمائي، خاضها بعض المخرجين العالميين القلائل أمثال أورسون ويلز في "تاء التزوير" ونيكولاس راي في "أضواء على المياه" وأحجم عنها آخرون.
وتمثل هذه الأفلام في مجملها، رؤية المخرج الى ذاته وعالمه، وتختلط فيها أطياف العام بالخاص، وتتجاور فيها الاحداث الذاتية شؤون الحياة داخل الاسرة أو العمل، مع بعض الاحداث السياسية الخاصة بوطنه او خارجه، وكانت السينما المصرية في طليعة السينما العربية في التعبير عن هذا التيار الفني، الذي يُعد امتداداًً لما عُرف ب"سينما المؤلف" أو "الكاميرا القلم".
وتجلت في أفلام يوسف شاهين في أفلام من تأليفه بالمشاركة بداية ب"الاختيار" 1971 مع نجيب محفوظ، و"العصفور" 1974 مع لطفي الخولي و"عودة الابن الضال" 1976 مع صلاح جاهين وحتى آخر أفلامه "المصير" 1997 مع خالد يوسف.
وتختلف افلام السيرة الذاتية تمام الاختلاف عن افلام سير العظماء أو بعض منها مثل "مصطفى كامل" 1952 أو "سيد درويش" 1966 لأحمد بدرخان أو "ناصر 56" 1996 لمحمد فاضل، او تلك التي تعتمد أعمالاً أدبية تسجل حياتهم، مثل ما فعله يوسف فرنسيس في "عصفور من الشرق" 1986 عن بعض سيرة توفيق الحكيم.
ثم أقدم يوسف شاهين - أكثر مخرجي السينما المصرية حباً في التجريب والمغامرة، على رغم تقدمه في السن، فإنه أكثر مغامرة وحيوية من الشباب أنفسهم - على خوض تجربة سينما السيرة الذاتية، التي تجعل الذات موضوعاً ومضموناً في الوقت نفسه لفيلم واحد أو عدد من الافلام، وبدأ شاهين ثلاثيته المعروفة بأول أجزائها "اسكندرية.. ليه؟" 1979 ثم "حدوتة مصرية" 1982 وأخيراً "اسكندرية كمان وكمان" 1989 واقتبس اشياء من سيرته الذاتية المبكرة والمتأخرة ونثرها في فيلميه الاخيرين "المهاجر" 1994 و"المصير" 1997.
وكانت مغامرة شاهين هذه سبباً في دفع عدد من المخرجين العرب الى انتاج تجارب مماثلة، ذات مستويات قرائية متعددة، مثل ما فعله السوري محمد ملص في فيلمه "أحلام المدينة" 1984 الذي رصد من خلاله ارهاصات فكرة الوحدة المصرية - السورية 1958 - 1961 في دمشق موطن الذكريات، ومثل ما فعل التونسي نوري بوزيد في "ريح السد" 1986 عن تونس تحت وطأة الاحتلال، وكذلك اندفع في هذا التيار الجديد أحد ابرز تلاميذ شاهين، المخرج يسري نصرالله، ليخرج أول أفلامه "سرقات صيفية" 1988 عن قوانين تموز يوليو الاشتراكية والدولة الناصرية.
وحاول شاهين في ثلاثيته هذه أن يقلد سيرة الادباء المصريين خصوصاً سيرة طه حسين "الأيام" بأجزائها الثلاثة، وأن يجعلها ثلاثية مثل ثلاثية نجيب محفوظ "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية" 56-1957 التي ارخ فيها محفوظ للمجتمع المصري من 1917 الى 1944، وتاريخه الروحي وقلقه الوجودي، وحاول شاهين وضع ثلاثية شبيهة، لكن هذه المرة ليست على الورق وإنما على فن الاطياف الساحر.
اسكندرية... ليه؟
"اسكندرية .. ليه؟" أول اجزاء الثلاثية الشاهينية، كتبه شاهين بالمشاركة مع محسن زايد، يختلط فيه حدثان احدهما عام والآخر خاص، الخاص هو الحلم بالسفر إلى الولايات المتحدة الاميركية لدراسة التمثيل، إذ كان البطل يحيى محسن محيي الدين مغرماً بأفلام هوليوود السينمائية واشهر نجومها مثل روجرز وفريد استير، ويحلم ان يصبح ممثلا مثلهما.
يعيش يحيى مع اسرته المنتمية الى الطبقة الوسطى في حي الابراهيمية في مدينة الاسكندرية حيث التحق في مدارس الصفوة في "سان مارك" و"فيكتوريا كولديج". تعيش مصر في هذه الفترة التي نشأ فيها شاهين ونما، ظروف الحرب العالمية الثانية، فقوات النازي على بعد قدم من الاسكندرية، وتبدأ السوق الاقتصادية في الاهتزاز، فتحدث المضاربات في الاسعار وتزدهر السوق السوداء، ونتيجة لهذه الظروف، تتأثر اسرة يحيى وتسقط في ازمة إقتصادية طاحنة، يعمل الآب محامياً مثالياً، وتضطر الام لبيع البيانو وبعض الاثاث المنزلي لعبور هذه الازمة، فيما يحلم كل اصدقائه بالهجرة إلى الخارج للدراسة، ويعمل هو في بنك تحت التدريب، ويصدف أن يحصل على منحة للدراسة في الولايات المتحدة، ومن أجل سفره تجمع اسرته كل ما لديها لتمكنه من تحقيق حلمه، ويسافر شاهين بالفعل عام 1946، وهو ابن العشرين، لدراسة التمثيل في معهد باسداينا PASADENA PLAYHOUSE في كاليفورنيا ثم يعدل رأيه ويتحول الى الاخراج.
وعلى المستوى العام، يرصد شاهين تأجج حلم المصريين بالثورة، من خلال تركيز بؤرة رؤيته، على ما يفعله الشباب الوطنيون - إشارة الى الضباط الاحرار - وتعاونهم مع الاصوليين الاسلاميين بهدف الاستقلال عبر التخطيط لاغتيال تشرشل والتفكير في إقامة صلات مع الاخوان المسلمين، وخطف الجنود البريطانيين وقتلهم.
وعن هذا الفيلم حصل شاهين على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان برلين عام 1979، الاكثر اهمية هنا، هو اسكندرية شاهين، اسكندرية التسامح والحب، التي تجمع كل الاجناس، فهي ليست اسكندرية الخواجات التي جسدها "لورانس درايل" في رباعيته عن تلك المدينة الخالدة، وإنما اسكندرية المصريين التي جسدها إدوار الخراط في "ترابها زعفران" وابراهيم عبدالمجيد في "لا أحد ينام في الاسكندرية" فهي حاضره كل الثقافات، الاسكندرية المتوسطية، التي تقدس التسامح الديني وتسمح بالتعايش بين الوافد والمقيم، الاسكندرية التي تختزل في كل رحاها الوطن.
حدوتة مصرية
ويجيء ثاني أجزاء الثلاثية "حدوتة مصرية" 1982، عن لحظة خاصة جداً في حياة يوسف شاهين المخرج وهي لحظة اجراء عملية جراحية له لتغيير شرايين في القلب، كتب شاهين سيناريو الفيلم عن فكرة ليوسف ادريس الذي مر بتجربة مشابهة واجريت له عملية تغيير أحد شرايين القلب، يبدأ شاهين فيلمه بقدوم يحيى نور الشريف إلى أميركا وتحليق روحه في معادل بصري يجعل جسده يطير في سماء نيويورك حين وصل إليها، للمرة الاولى في هذا الفيلم يستعرض عمله كمخرج، وحلمه بأن يقدم سينماه إلى العالم الاول، حينما شارك بفيلمه الثاني "ابن النيل" 1951 في مهرجان كان السينمائي، فصدم في تقويم الفيلم وتكررت صدمته مرة اخرى حينما فشل في السفر إلى برلين وضاعت منه جائزة التمثيل عن دور "قناوي" في فيلمه "باب الحديد" 1958 لاعتقاد لجنة التحكيم أن "قناوي" يوسف شاهين معوق في الاصل، منذ هذه اللحظات انتقد شاهين بجرأة تحسب له ازدواجية الغرب في النظر اليه باعتباره مخرجاً من العالم الثالث وليس منتمياً إلى عالمهم الاول، وفقد الأمل في أن يعرفه العالم سواء في كان أو غيره من المهرجانات العالمية، وتأكد أنها تريد أن تحصر سينمانا في اطار مواضيع الظلم الاجتماعي والجهل والفقر والمرض والتخلف، فهذه قضايا ومشكلات العالم الثالث في رأيهم.
في فيلمه "العصفور" 1974 الذي حاول فيه استجلاء أسباب الهزيمة في 1967، يصور أحد المشاهد التي تجري فيها الفنانة محسنة توفيق رافضة الهزيمة صائحة "هنحارب". ليؤكد شاهين تضامنه الكبير مع النظام الناصري الذي يكن له حباً خاصاً. ويبدأ شاهين في عرض وجهة نظره التي تتوق دوماً الى الحرية والديموقراطية، من خلال ما نشهده من محاكمة يجريها شاهين لكل من عاشرهم ابتداءً من أسرته، الأم التي تصغر الأب بفارق عمري كبير، وترى نفسها امرأة مرغوبة فقدت شبابها في صدر رجل كهل، والابنة أو الأخت التي تزوجت رجلاً لا تحبه لتضمن الأسرة الاستقرار نظراً الى ثرائه الفاحش المترتب على قيامه بعدد من الأعمال غير المشروعة والأب المتواري في الظل، والمدرس في المدرسة الذي قتل فيه الحلم والحرية وعوّده الخوف والجبن وزرع الخوف داخله. يقسو شاهين على الجميع ويدينهم في الوقت نفسه، ولا ينجو هو أيضاً من هذا اللوم، ويجسد فكرة الصراع عليه بين أمه وأخته وزوجته.
يدير شاهين محاكمته وعائلته أمام عينيه، ويحاول تفسير أسباب ما حاق به وبقلبه من آلام. الأم تزوجت صغيرة من رجل كبير، وتكرر ما حدث لها مع ابنتها. إذن فالفيلم في حد ذاته إدانة لبطريركية الأسرة بظروفها الاجتماعية والاقتصادية الضاغطة، وقهر المؤسسة التعليمية ممثلة في المدرسة واستاذه المتحجر الفكر. وكذلك هو أيضاً في إسرافه في إجهاد نفسه والتوتر والتدخين بشراهة مما أوصله الى ما هو فيه من ألم في القلب. وفي النهاية يعقد مصالحة مع ذاته يتعهد فيها بالمواصلة في الطريق التي اختطها لنفسه، وتكون هذه هي البداية الحقيقية وليست النهاية المتوقعة، فكأنما حدث له نوع من التطهير فهذه مهمة الفن الخالدة.
إسكندرية كمان وكمان
بإخراج يوسف شاهين "اسكندرية كمان وكمان" 1989 تكتمل الثلاثية الشاهينية لتصبح أول سيرة سينمائية عربية مكتملة.
يكتب سيناريو الفيلم شاهين بالاشتراك مع تلميذيه، يسري نصرالله وسمير نصري. ويرصد في هذا الفيلم لحظة من أروع لحظات وحدة الارادة الجمعية في مواجهة إرادة الفرد، فسجل شاهين لحظة إضراب الفنانين المصريين عام 1987 احتجاجاً على تغيير قانون النقابات الفنية الخاصة بهم من دون أخذ رأيهم. فحلق شاهين بهذا الفيلم في افاق من التعبير السينمائي وألح في المطالبة بالديموقراطية في مصر. وكم كانت سعادته وهو يصور اتحاد كل الفنانين المصريين واجتماعهم التاريخي في مسرح البالون من أجل المطالبة بممارسة حقهم الديموقراطي في المشاركة في صياغة قانون نقاباتهم المسؤولة عنهم، وأنهى الفيلم بلحظة تختفي فيها الفردية وتذوب في الذات الجماعية الكبرى: مصر، بالنشيد الوطني الذي شارك فيه أبرز وجوه الحركة الفنية المصرية، عادل إمام، علي بدرخان، توفيق صالح، تحية كاريوكا.
في هذا الفيلم يكتب شاهين ومساعداه فيلماً غير عادي مبنياً على سيناريو غير تقليدي يحفل بالصوت والصورة، ولا يعني كثيراً بالحبكة الدرامية، فهنا يحقق شاهين حلمه الكبير حينما تصبح الصورة هي الهدف ولا يهتم بالترابط الدرامي كثيراً. ويغامر بخوض تجربة التمثيل بنفسه هذه المرة ويطلق سراح الممثل الكامن في أعماقه منذ أن مثل "هاملت" على خشبة المسرح المدرسي وهو يعلم أن ممثلاً كبيراً يسكن أعماقه، فهاملت هو قدوة شاهين الكبرى، فجعل عمرو عبدالجليل يمثل دوره في رؤية مصرية لمسرحية وليم شكسبير، لكنه يفتقد في أدائه الى ما كان يحلم به، فطموح شاهين الفني ليس له حدود.
يركز الفيلم أيضاً على عدد من الأحداث في حياة شاهين الفنية، مثل فوزه بالجائزة في مهرجان برلين السينمائي عام 1979، عن أول أجزاء الثلاثية الشاهينية "إسكندرية.. ليه" 1979 وخروج بطله محسن محيي الدين من مهرجان كان من دون أي جائزة عن دوره في فيلمه "الوداع يابونابرت" 1985، ويدير شاهين حواراً غنائياً بينه وبين بطله مستغلاً فيه أغنية "فات الميعاد" للسيدة أم كلثوم، نافياً الذنب عن نفسه "تعتب عليا ليه؟ أنا بإيديا إيه؟". وينافس شاهين الشيخ ابن الستين بطله الشاب في الرقص متهماً إياه بأنه ابن النكسة. ويرقص شاهين هائماً على روحه في رقصات مبدعة لجين كيلي في "الغناء تحت المطر" وفريد استير، ليحطم بشبابه الدائم انهزامية الشباب المتسرع سريع اليأس.
وبعدما تتعرض زوجته لحادث سيارة ويذهب الى وداعها وهي مسافرة للعلاج في الخارج، يذهب الى النقابة للمشاركة مع زملائه الفنانين في الاضراب ويبقى مع توفيق صالح وتحية كاريوكا. ويظهر شاهين رأيه في بطله وبطلته وزوجته، وكذلك وجهات نظرهم تجاهه، فهو يحبهم وهم يحبونه.
ويخلط شاهين في هذا الفيلم بين الروائي والتسجيلي باستعانته بمشاهد اضراب الفنانين في البالون واعتصامهم في النقابة. وبين الواقعي والفانتازي حينما يذهب الى الاسكندرية القديمة، ويجسد غزو الاسكندر لها ويسخر من كليوباترا الخائنة، ففي هذا الفيلم مارس شاهين كل جنونه بمنتهى الحرية، ويرقص في المولد الشعبي مع الشاب رقصة التحطيب المصرية الشهيرة الممتدة من أيام الفراعنة، فيظهر مدى قدرة الشيخ ابن الستين على مصارعة الشباب، ويظهر كم هو شاباً أكثر من الشباب أنفسهم وأن إرادة الحياة والكفاح داخله أقوى من أية إرادة أخرى، فإنه لا ينكسر أبداً، رغم كثرة الهزائم المتتالية.
وحينما يذهب شاهين الى بيت بطلته يسرا يجد أمها هدى سلطان تتذكره في دور قناوي وتقول له: "إن أحسن أفلامك، الأرض"، مما يجعل شاهين متضايقاً من هذه العقدة التي تثار دائماً في وجهه ويكرهها بشدة.
ويظهر حسين فهمي في دور المغامر اليوناني الذي يبحث عن قبر الاسكندر الأكبر في مدينة الاسكندرية، وحينما يعثر عليه يجعله شاهين - أي الاسكندر - مشابهاً لبطله تماماً، ويُنفذ من السقف عموداً حديدياً يخترق الجسد الثاوي في التابوت الزجاجي، فتنبثق منه الدماء بغزارة، وكأن شاهين يحدث بهذا تماهياً بين نفسه يحيى الباحث عن هاملت طيلة حياته من دون أن يعثر عليه وبين المغامر اليوناني الباحث عن الاسكندر الأكبر، ويحاول تحرير نفسه من الأوهام، التي يعتنقها بالقسوة على نفسه وعلى الآخرين.
المهاجر
أنهى شاهين ثلاثيته ب"اسكندرية كمان وكمان" 1989 وحتى لا ىضيع أجزاء أخرى منها، وتخرج عن كونها ثلاثية، اقتطف بعضاً من سيرته وقدمها في فيلمه "المهاجر" 1994 عن هجرته الى اميركا لدراسة السينما، ويبدو هذا واضحاً في المشهد الذي سقط فيه "خالد النبوي" في حجرة التحنيط عندما كانت تطارده الكلاب ومثلما سقط شاهين نفسه في حجرة المحاضرات حينما كان في معهد باسدانيا في كاليفورنيا.
وكذلك يمتلئ بشذرات من سيرة شاهين المهاجر داخل الوطن وخارجه والسابح بحثاً عن الروح المصرية الصميمة فهو اللبناني المهاجر مع أبوية الى الاسكندرية وهو الذي يغضب عادة من نعته بلفظة "الخواجة" فيشير الى ذلك في ما قيل عن "رام"، رغم عمره الطويل الذي قضاه بين المصريين فإنهم يعتبرونه أجنبياً وليس من الاصول المصرية الأصيلة!
ثم يجيء فيلمه الأخير "المصير" مجسداً أزمته مع فيلمه "المهاجر" الذي رأى فيه بعض من المتطرفين مساساً بشخصية النبي "يوسف" عليه السلام، وأقاموا دعوى قضائية تطالب بعدم عرض الفيلم.
ويرفض القضاء الدعوى ثم يقبلها بعد الاستئناف، ويصاب شاهين بضيق حقيقي لما يحدث لحرية التعبير من اختناق وتضييق في مصر. فيخرج فيلمه التالي "المصير" عن زمن "ابن رشد" مرتحلاً هذه المرحلة الى الاندلس حيث تعيش ظروف الوضع المشابه. ويحذر شاهين في فيلمه من التعصب والتكفير في زمن التفكير على حد قول الفقيه المعذب نصر حامد أبو زيد. ويمزج شاهين كذلك بين ما تعرض له من اضطهاد ومصادرة وغيره وما حدث لنجيب محفوظ من طعن في رقبته اليمنى نتيجة لعدم قراءة روايته "أولاد حارتنا" 1959 قراءة صحيحة. فيمزج السيرة الشاهينية بالمحفوظية، ويرثى لحال الفكر في نهايات القرن العشرين والذي كان متسامحاً في بدايات القرن ووصل الى الضيق الفكري والتعصب في نهايته، مع أن المفروض أن يحدث العكس وتزداد مساحة الاستنارة والضوء والحرية، لا أن تزيد خفافيش الظلام والأفكار الظلامية وبؤر التطرف والإرهاب.
كذلك لم ينج شاهين من نقد فيلمه "المصير" قبل أن يعرض من الأساس، فهاجمه بعض اساتذة الجامعات الذين يدعون الاستنارة والتعددية الفكرية والتسامح ويرحبون بالنقد والرأي الآخر وحرية التعبير، في أن شاهين لم يستعن بهم أو ببعضهم عند تصديه لإخراج فيلمه عن ابن رشد الذي يعتبرونه ملكاً خاصاً لهم دون غيرهم وهاجموا الفيلم دون أن يشاهدوه ونسوا أن هناك مسافة كبيرة بين التاريخ كتأريخ والعمل الفني حينما يتناول التاريخ!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.