كان يوسف شاهين صادقاً عندما تحدث عن نفسه في ثلاثيته "حدوتة مصرية" و"اسكندرية ليه" و"اسكندرية كمان وكمان"، وعندما تحدث عن القاهرة في "القاهرة منورة بأهلها". كشف انصاف الوطنيين عندما حلل علاقتنا بالوطن في "الارض"، وكشف ازمتنا السياسية والاجتماعية بتفصيل فاضح في "الاختيار". وكان الفنان الوحيد الذي جمع العرب عندما قدم "الناصر صلاح الدين". وكان ممثلاً من قماشة مختلفة في "باب الحديد". وقبل كل هذا كان المخرج الوحيد الذي جعل سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة ترقص وتغني في اول افلامه "بابا أمين". وبسبب هذا الكم من الاختلاف المغلف بموضوعية والمتفجر منذ اول أفلامه بابا امين - 1950 كان على رأس قائمة المطاردين. يترقب الوسط الثقافي في مصر بروز شخص مغمور او نصف مشهور برفع دعوى قضائية ضد فيلم يوسف الجديد "الآخر"، خصوصا ان نجومية شاهين تغري بمهاجمة اعماله طمعا في جانب من الشهرة، وان كان الوسط الثقافي المصري لا يعرف بالضبط من الذي سيقوم بمهاجمة شاهين، ومن اي جانب، ولكن الامر الاكيد ان ثمة سيناريو مشابه للسيناريوهات التي حدثت معه طوال مشواره الفني، خصوصا ان فيلمه "الآخر" يهاجم الارهاب ورجال الاعمال واميركا وبعض أنماط الصحافيين، والفيلم يصور سيدة اعمال نبيلة عبيد تستأجر عن طريق الانترنت ارهابياً احمد وفيق لإرتكاب جريمة قتل لخدمة طموحاتها وفسادها. هذا الترقب لم يأت من فراغ، إذ حوصر شاهين كثيراً في مثلث الاتهامات والإشاعات والدعاوى القضائية حصاراً يتجدد مع كل نجاح يحرزه. بعد حصول شاهين على جائزته في مهرجان كان 1997 فوجىء بأستاذ الجامعة المعروف الطاهر مكي يتهمه بالوقوع في اخطاء تاريخية فادحة في فيلمه "المصير"، اول هذه الاخطاء ان ابن رشد لم يقم في أسبانيا كما هو مذكور في الفيلم، بل عاش في المغرب ولم يغادره. الخطأ الثاني ان "مانويلا" الغجرية التي كانت في خدمة ابن رشد وساعدته كثيراً لم تكن اسبانية بل عربية وهي الشخصية التي جسدتها ليلي علوي. الخطأ الثالث ان كتب ابن رشد لم يتم حرقها، كما هو معروف، وكما يظهر من خلال احداث الفيلم، ويستدل الدكتور مكي على هذا بأن ما كتبه ابن رشد وصل الينا وعرفناه وما كان ليصل لو انه تم حرقه. الاطرف انه اثناء تصوير الفيلم قرأ الدكتور عاطف العراقي - اكاديمي مصري - خبراً عن قصة الفيلم فرفع دعوى قضائية على شاهين يتهمه فيها بتشويه ابن رشد، على رغم ان الفيلم لم يكن تم الانتهاء من تصويره وقتها، واخذت هذه الدعوى نصيبها من الضجة الاعلامية ثم انتهت. اما فيلم "المهاجر" فعرض في ساحات القضاء اكثر من عرضه في دور السينما. ونال هذا الفيلم اكبر كم ممكن من الاتهامات. في البداية عرض شاهين سيناريو فيلم اسمه "يوسف واخوته" على الرقابة التي احالته الى لجنة من الازهر - في الوقت نفسه عرض السيناريو على شيخ الازهر، شخصياً، للحصول على موافقته بالبدء في تصوير الفيلم - ولكن تم الاعتراض عليه في المرتين الرسمية، والشخصية لرفضه مبدأ تجسيد الانبياء او الصحابة على شاشة السينما، فقام شاهين بتغير السيناريو المكتوب بشكل جذري واضفى على القصة بعداً ذاتياً يعكس جانباً من حياته الشخصية، وعرض السيناريو على الرقابة وتمت اجازته ثم تم تصويره وعرض ليلقى اقبالاً جماهيرياً ازعج الكثيرين، ووقع شاهين في ورطة المجتمع من جديد، فاتهم بأن فيلمه يدعو الى التطبيع، ويلوح بأهمية اسرائيل بالنسبة إلينا والى العالم لأن "رام" بطل الفيلم الذي انقذ مصر من الجوع اتى لها مهاجراً من الشرق - يعني من الارض المحتلة - وبهذا وُضع شاهين في خانة الدعاة للتطبيع مع اسرائيل في الخانة نفسها مع حسام الدين مصطفى وعلي سالم. وعندما اكتشف المغرضون ان هذه الإشاعة لم تجد قبولا في سوق المجتمع، اتهموه بتجسيد صورة سيدنا يوسف على الشاشة وقدم بعضهم قراءة للفيلم مخالفة لما قدمه شاهين، وتبرع احد المحامين المنتمين الى التيار الديني برفع دعوى ضد شاهين يطالب فيها بوقف عرض الفيلم ومصادرة جميع النسخ، وحصل المحامي على حكم بالمصادرة من المحكمة الابتدائية، وفي الاستئناف حصل الفيلم على حكم البراءة من المحكمة فعاد هذا المحامي لمواصلة حملته القضائية حتى حصل على حكم نهائي بوقف عرض الفيلم ومنع تصديره!. واذا رجعنا الى الوراء قليلا سنصطدم بأوجاع شاهين الخاصة بعرض فيلمه "القاهرة منورة بأهلها" في مهرجان كان 1991 في قسم اسبوع المخرجين، حيث وُضع شاهين عقب عودته الى القاهرة على مقصلة تشويه الوطن واهانته وكشف عيوبه امام العالم، وكانت الفرصة مناسبة ليزايد الجميع على وطنية شاهين!. وفور عودته نشرت الكاتبة ماري غضبان في مجلة "الكواكب" موضوعاً عنوانه "فضيحة مصرية في مهرجان كان اسمها يوسف شاهين"، بعدها بثلاثة ايام كتب الناقد احمد صالح في الاخبار مقالاً تبنى من خلاله حملة لطرد يوسف شاهين من مصر واتهمه بتقديم التنازلات لإخراج نوعية من الافلام تحقق له الكسب المادي عن طريق التعاون المشترك، وقال لشاهين "غادر مصر اذا لم تكن تعجبك"!. قبلها اُتهم شاهين ايضا بالعمالة لفرنسا عندما قدم انتاجاً مشتركاً اسمه "وداعاً بونابرت" كان الخط الرئيسي للفيلم هو غزو بونابرت لمصر. واتهم شاهين بأنه يشوه التاريخ ويعظم دور الحملة الفرنسية ويهلل لها. واتهم ايضاً بأنه كان السبب الرئيسي وراء انتحار المطربة العالمية "داليدا" بسبب الفشل الجماهيري الذريع الذي واجه فيلم "اليوم السادس" الذي لعبت داليدا بطولته على اعتبار انها قررت اعتزال السينما منذ عشرين عاما قبل هذا الفيلم واقنعها شاهين بالعودة وعندما سقط الفيلم انتحرت!. بعدها انتج شاهين فيلمه "اسكندرية كمان وكمان" وقيل بعد عرض الفيلم ان هناك نسخة فرنسية مختلفة عن النسخة المصرية، وفي النسخة الفرنسية تظهر يسرا عارية! بل هناك ايضا حوار مبتذل بين شاهين ويسرا. وبعد عرض فيلمه "اسكندرية ليه" - 1978- اتهمه النقاد - قبل المشاهدين - بالتعاطف مع اليهود والشيوعيين وانه يعلن تأييده المطلق من خلال هذا الفيلم للنظام الحاكم الذي وقع معاهدة "كامب ديفيد". ودلل النقاد على صدق كلامهم بحصول الفيلم على جائزة الدب الفضي في مهرجان برلين 1979، على رغم ان الفيلم نفسه عرض في لبنان لمدة عام ورحب به النقاد والجمهور هناك. اما فيلم "العصفور" 1971.. فكان يحمل ابعاداً سياسية تعالج حال الناس بعد 1967 وتقدم كيف ان روح الهزيمة باتت تطارد كل ما نملكه وكل ما نشعر به. طبيعي جدا ان يتم منع عرض الفيلم ولم يسمح بعرضه الا عام 1975!. قبلها كان شاهين في بيروت، واتهم بأنه مخرج يبحث عن النقود بأي شكل - على رغم انه لم يصور في لبنان سوى فيلم واحد لفيروز "بياع الخواتم" - هرب شاهين من مصر بعد تفشي البيروقراطية وفشل القطاع العام في ادارة السينما، وبعد ان اصبحت قيادة الفن في يد مجموعة من الضباط. ترك شاهين مصر بعد فيلمه "الناصر صلاح الدين"، وهذا الفيلم تحديدا جعل الجميع يحاولون تحطيم شاهين الذي بدا كأنه في طريقه لأن يصبح أسطورة سينمائية. في البداية كانت ثمة أخبار قد نشرت عن التجهيز لفيلم عن "صلاح الدين الأيوبي" انتاج "السيدة آسيا" واخراج عزالدين ذو الفقار. ثم خرج الفيلم للنور وهو من اخراج يوسف شاهين فكانت اول إشاعة هي ان شاهين طارد آسيا في كل مكان، ووسّط رجال السلطة لإقصاء عزالدين ذو الفقار عن الفيلم وإسناده الى شاهين شخصياً، ولأن عزالدين ذو الفقار كان محبوباً جماهيرياًً ومشهوراً بشكل اكبر من شاهين وقتها سرت الشائعة سريان النار في الهشيم وانخفضت اسهم شاهين بعض الشيء. لكن الحقيقة التي ذكرها المؤرخ الفني عبدالله احمد عبدالله هي ان عزالدين ذو الفقار عندما بدأ الاستعداد للفيلم سقط صريع مرض الكبد الذي اودى بحياته في ما بعد، واعتذر صراحة للسيدة آسيا عن عدم اخراج هذا الفيلم - وعندما اقتنعت بموقفه طلبت منه ان يرشح لها مخرجاً اخر فقال لها - وهو على فراش المرض - "يوسف شاهين احسن واحد يعمل الفيلم ده"!. بعد نجاح الفيلم توجه يوسف شاهين الى وزارة الثقافة عارضاً سيناريو فيلم جديد فقابله وكيل الوزارة وقتها وقال له "مش عايزينك تعمل الافلام دي وحنقولك على الافلام التي تعملها بعدين" فقال له شاهين: "انا مش خدام ومش حاشتغل معاكم" فقام هذا الموظف بشن الحرب ضد شاهين ونقل الى جمال عبدالناصر صورة مفادها ان يوسف شاهين "بتاع فلوس".. وازاء هذا المناخ السيء قرر شاهين الهجرة الى لبنان حتى تستقيم شؤون السينما في مصر. وعندما قدم فيلمه "باب الحديد" فاجأ الجمهور بأن فريد شوقي ليس شجاعاً ولا فتوة ولا ملك الترسو كما هو معروف عنه، فكانت النتيجة اتهامه الى محاولة تحطيم صورة فريد شوقي عند جمهوره، وان حقده دفعه لوضع فريد شوقي في هذا الدور البائس، وكما قال شاهين شخصياً في حوار له مع الناقد سمير فريد نشر في مجلة الهلال "الجمهور هاجمني الى درجة ان احد المشاهدين بصق في وجهي بعد انتهاء الفيلم"!. بعد نجاحه في تقديم عمر الشريف للمرة الاولى في "صراع في الوادي"، وبعد زواج عمر الشريف وفاتن حمامة عقب نهاية الفيلم اشيع ان شاهين قرر الانتحار ثم عاد وقرر ان يقتل الشريف وفاتن حمامة بعد وقوعه في غرام. هذه الإشاعة كانت كفيلة بعدم تعامل الاثنين فنياً حتى الآن. وعندما قدم شاهين افلام سيرته الذاتية اتهم بأنه يقلد فيلليني بشكل أعمى ومفضوح. ورد شاهين على هذا الاتهام قائلا:ً "هناك فرق بسيط بيني وبين فيلليني لكنه جوهري، هو يقدم سيرته الذاتية ويقول هذا شخص آخر، وأنا أقدم سيرتي الذاتية وأقول هذا هو انا يوسف شاهين"!. والآن على شاهين ان يجهز نفسه لإشاعة او دعوى قضائية او اتهام بالعمالة او الإلحاد عندما يعرض فيلمه الجديد "الآخر".