لم تستطع رئيسة المكتب الاعلامي لپ"مهرجان أدنبره العالمي" اخفاء دهشتها لوجود صحافي عربي أمام طاولتها، فتلك تجربة جديدة لم تألفها السيدة، التي يتدفق على مكتبها صحافيون قادمون من أطراف الدنيا لتغطية أضخم تظاهرة ثقافية من نوعها في العالم درجت مدينة أدنبره على استضافتها منذ 1947، وشارك فيها هذا العام حوالى 2000 فرقة أدت مختلف أنواع الفنون الاستعراضية والمسرحية والموسيقية. ولئن استدركت السيدة الموقف بلباقة وود معروفين عن أهل العاصمة الاسكتلندية الذين لم يُنسهم صخب المدينة شهامتهم "الريفية"، تتابعت اسئلة سائق التاكسي عن العرب فبدت الرحلة بين المطار والفندق سفراً لا ينتهي. أيام قليلة في المدينة الأنيقة المبنية، كروما، على هضاب سبع ترنو منها الى الجبال القريبة فيما يلامس البحر اقدامها ، وتبيّن ان السائق "الملحاح" كان استثناءً. فالأغلبية هنا لا تجهل الأصقاع البعيدة ولا يشغلها البحث عن اللقمة عن تعاطي "الهذر" السياسي. وهم يجدون بعض المتعة في تذكيرك ان زعيم حزب العمال الراحل وخلفه هما من أدنبره. وسائق التاكسي، كبائع الصحف، غالباً ما يعرف ان بلاده هامت بسحر الشرق وخشيت منه أيضاً، كما يشهد ابنها صاحب "الطلسم" الشاعر والروائي وولتر سكوت الذي أقامت له نصباً يتسامق على ارتفاع عشرات الأمتار. ليس غريباً ان يكون مواطن أدنبره العادي عارفاً بأحوال العالم الخارجي، فعرس مدينته الثقافي الذي تفرع الى مهرجانات خمسة: "عالمي" و"جانبي" و"جاز" و"سينما" و"موسيقى عسكرية" يأتيه سنوياً آلاف الأجانب من الفنانين والباحثين عن المتعة وتتسابق المهرجانات الخمسة خلال ثلاثة أسابيع على استقطاب المشاهدين المهددين بالتخمة الفنية أو الافلاس، اذ يحتاج المرء الى ثلاث سنوات ونصف السنة اضافة الى 5851.33 جنيهاً كي يشاهد العروض الجانبية وحدها. وهذه توزعت منابرها بين مدرسة وبيت ومسرح… ومسبح يواجه فيها الجمهور أي فنان راغب بخوض التجربة، بينما لا يظهر في برنامج المهرجان "العالمي" الا فرق معروفة تُدعى لتقديم أعمال مسرحية وأوبرالية وموسيقية تحتاج الى امكانات ضخمة. وعلى رغم ارتفاع أسعار بطاقات الدخول لهذه العروض "العالمية" لا يشيح البسطاء في أدنبره بوجوههم عنها. وبين هؤلاء العاديين من هو مدجج بملاحظات ناقدة عن المهرجان وقادر على الحديث عن كتابات الأديب والمؤرخ الاسكتلندي كارلايل المتعلقة بالشرق وعن وولتر سكوت الذي كان بعض أعماله وأعمال الشاعر الانكليزي اللورد بايرون مادة أولية لفنانين اسكتلنديين وأوروبيين عالجوا مواضيع شرقية في لوحات يعرض "ناشيونال بورتريت غاليري" الاسكتلندي مجموعة كبيرة منها في اطار مهرجان أدنبره العالمي. والمعرض الذي أُطلق عليه: "تخيل الامبراطورية العثمانية" يجمع عينات بارزة من الفن الاستشراقي المسؤول الى درجة ما عن تكريس التخيل الغربي للشرق ورواج الأفكار الرومانسية منذ أواخر القرن الثامن عشر. فهذا الفن كان تعبيراً تصويرياً عن الشرق الذي تخيله لورد بايرون وغوته، مثلاً، عالماً حسياً رهيباً ينضح باللذة المجبولة بالغرابة ومتبايناً تماماً عن ذلك الشرق الذي يجده الذهن الأوروبي في القرن الثامن عشر مثالاً للآخر المختلف. ولوحة الفرنسي انطوان واتو "حفلات في البندقية" التي تتصدر المعرض من النماذج السبّاقة الى استشراف معالم الشرق المتخيل قبل اللحظة الرومانسية بزمن طويل. اذ ان الرجل الشرقي في اللوحة، بردائه المميز وعمامته وابتعاده عن الأوروبيين، يجسد صفات الغريب الغامض الذي درج الفنانون الأوروبيون على نسبها الى الشرقي في نتاجهم الذي ظهر أيام الفورة الرومانسية. والغموض والغرابة تُرجما على يد الفرنسي ديلاكروا، الى قسوة تتبدى من خلال الفعل الذي يتجسد قتالاً عنيفاً بين شرقيين مولعين بالانتقام في لوحة "معركة بين جبور والباشا" التي لم تأخذ عنوانها وحسب من قصيدة للورد بايرون بل تمثلت أيضاً افتتانه الرومانسي بعناق القسوة الضارية والعواطف الجياشة الذي اعتبر الشرق ميداناً له. وزيارة بايرون للشرق لم تقنعه بنبذ هذه الصورة المسرفة في مجافاتها للواقع بل تشبث بالاسطورة التي رآها مفتاحاً لشعر عبقري لا يستلهم الواقع. واذا نجحت لوحات ديلاكروا المعروضة في الغاليري الاسكتلندي في التعبير عن الجانب المروع للحسية والعاطفة الصرفة بايقاعات لونية متواترة وخطوط وثابة ترسم تفاصيل حركية تضفي قسطاً كبيراً من الحياة على تشكيلاته، فأعمال مواطنه جان أوغست آنغر كانت أبرع الأمثلة على الجانب الآخر الهادئ للاسطورة الرومانسية المنسوجة أساساً من قماشة "ألف ليلة وليلة". فالأخير، أيضاً، رأى الشرق "واحة" الخروج فيها على المألوف الصارم قاعدة لا استثناء، ما يتيح للمرء ان يسعد بنعمة الحواس على نحو مطلق. وفي لوحتيه "الجارية والعبد" و"الجارية العظيمة" اللتين قد تكونان أبدع صور "الحريم" في الفن الاستشراقي يصعّد آنغر النبض الحسي في تفاصيل تطمح الى مزاوجة الأدوات الفنية الكلاسيكية والواقعية. والى جانب أعمال هؤلاء الرواد يضم المعرض رسوم فنانين اسكتلنديين رأوا الى الشرق، كمعظم أبناء جيلهم، عبر عيني اللورد بايرون. السير ويليام آلان، مثلاً، لم يكتف برسم بطله الشاعر الرومانسي بل استلهم منه أيضاً أعمالاً عدة وأعطى المشهدية والبهجة العربية والقسوة، التي ظنها بايرون ملازمة للشرق، تعبيرها الجذاب في لوحة "سوق العبيد في القسطنطينية". أما لوحات ديفيد روبرتس فلا تفتقر الى المشهدية وان كانت تجنح الى الدقة في اقتباس الواقع الأثري على الأقل. وكان سافر الى مصر وسورية ولبنان بقصد اضفاء الصدقية على رسومه. وهناك رسم "الطريق الى المعبد الكبير في بعلبك" متوخياً ابراز معالم الموقع بتفاصيلها الصغيرة المدهشة. الا ان الزيارة لم تجعل رسومه أصلية تماماً فأجواؤها وألوانها وبعض موضوعاتها تشي بتأثير الانكليزي تيرنر. ورسوم سير ديفيد ويلكي، الاسكتلندي الآخر الذي قصد الشرق وقضى على طريق العودة، تتميز بألوانها القوية. فالأحمر والأسود والأبيض تغطي "أمير فارسي" و"محمد علي"، وغيرهما من رسومه الاستشراقية، وفق تصميمات لونية جريئة على رغم البساطة التي تبدو فيها. ومن الانكليز الذين زينت بعض رسومهم صالات الغاليري جون فريدريك لويس الذي عاش في الشرق حياة الشرقيين، كصديقه المستشرق المعروف ادوار لين، وقبس من فنهم وأشكالهم الهندسية الأصلية فجاءت الحصيلة لوحات براقة، منها "الحريم" و"وجبة الظهر"، غريبة على الجمهور الانكليزي. أما فريدريك ليتون، الذي تحول منزله اللندني في حي "هولاند بارك" الى غاليري "ليتون هاوس" المخصص للفن "الشرقي"، فهو شغوف بالمناخات الأليفة كونها تمثل حالة انعتاق انساني تتناقض تماماً مع صرامة انكلترا الفيكتورية التي عاش فيها. حاول ليتون نقل حرية الشرق وزهده في لوحة "بيت دمشقي"، ولم تفته روعة الحضارة العربية التي طمح الى التمثيل عليها برسم أطلق عليه "جانب من الجامع الكبير في دمشق". صورة استشراقية وعدا الرسوم، أفرد المعرض حيزاً للصور الفوتوغرافية الاستشراقية التي تتعامل مع الموضوع الشرقي على نحو مختلف. ففي الصور، حيث تضيق فسحة الاجتهاد والدور الفردي عموماً لأن العمل الفني هنا يبدو "نقلاً حرفياً" للواقع، كان الخروج على القواعد الغربية واضحاً في حالات عدة. ومن أهم الأعمال المخالفة للمألوف حينذاك تلك المعروفة بپ"الصور الخالية" التي تكاد تلتقط جزءاً من الفراغ، مثل "الجزيرة" 1854 لجون غرين. وعدسة الأخير سجلت شبح واحة صحراوية صغيرة وسط مساحة بيضاء يلتقي فيها بحر الرمال بالفضاء لتوحي بدلالات لا تمنح نفسها للمشاهد بسهولة. واضافة الى شغبهم الفني، تميز أغلب المصورين أيضاً عن الرسامين بمقاربة الشرق بحب ومن دون أفكار مسبقة. ولا تدل على ذلك تصريحات غرين وفرانسيس فيرث فحسب، بل صورهما، مثل "هرم سقارة" 1858 للثاني. والصور التي وقعها فيلكس تينارد وجيمس روبيرتسون وفيليس بتيو أمثلة على محاولات الفنانين الغربيين للتعاطي مع المشهد "الغريب" ونقل تضاريسه كلها بأمانة. الا انه يتسرب شيء من الرومانسية الى بعض هذه الصور فكادت تبدو متاهات تتقاطع فيها شرائح الضوء والظل. ومع ان معادلة النور والظلمة تبرز بعض معالم المشهد وتفاصيله من أعمدة ماردة أو تزيينات معقدة، فهي تحجب أجزاءً اخرى وتجعل الحيز المضاء جزراً وسط مساحات من الظلمة. حضور عربي محدود وخارج منابر الفن "الراقي"، أطل العرب في ثلاثة من العروض "الجانبية". ويمثل أحد هذه العروض: "رجل من فوق" حدثاً "مميزاً لأنه الانتاج البريطاني - المصري المشترك الأول في تاريخ المهرجان الجانبي" على حد تعبير رئيسة المكتب الاعلامي، التي أقرت بضآلة الحضور العربي محملة "الفرق العربية مسؤولية هذا الغياب، فلو شاؤوا القدوم لرحبنا بهم". والمسرحية اقتبست عن قصة قصيرة لعاطف الغمري بعدما اتفق المؤلف مع المخرج الانكليزي توميك بورك على حشد مواهب مصرية وانكليزية وبولندية لتقديم المسرحية في انتاج مشترك لفرقتي "آب أوفو" و"الاهرام". غاية العمل، في عبارات المؤلف والمخرج، هي معالجة "القضية البسيطة لحقوق الانسان: رفض القمع" من خلال أحداث ترتكز على شخصية كاظم اليتيم الذي يعيش طفولة معدمة قبل ان تدور الأيام فيتسلم ادارة الأمن ويتحول الى ديكتاتور يبطش حتى بالمقربين منه متنكراً للشخص السمح الذي كان في الماضي. ويتصور نفسه تحت وهج السلطة وقد "أصبحتُ بطلاً واسطورة". حكاية الرجل الذي يرتقي السلم الوظيفي الى القمة التي تشوهه ببريقها حكاية قديمة متجددة تجعل المسرحية ضرباً من المغامرة كان من الممكن ان ينقذها أداء قادر على الادهاش. ومع ان اداء علي الرفاعي كاظم كان معقولاً اجمالاً فهو والانكليزية شيري بنيز التي قاسمته البطولة لم يستطيعا تصعيد النبض الدرامي للعمل. وقدمت فرقة المدرسة الانكليزية في الكويت عرضاً تحت عنوان "عتمة عند الفجر" كان سلسلة من المشاهد المسرحية التي تسرد احداث الغزو العراقي منذ اليوم الأول وحتى التحرير في 27 شباط فبراير 1991، عبر نتف من ذكريات وشهادات مجموعة من ضحاياها. والماضي الذي ترتسم صورته واضحة بتفاصيلها المؤلمة التي بدأت مع تحليق الطائرات الغازية "كأسراب الجراد في السماء" يلقي بظلاله على الحاضر والمستقبل في عرض هو بمثابة سؤال صارخ واشارة تعجب كبيرة. فمن "يصدق" ان شعباً صغيراً مسالماً واجه كل تلك القسوة، وان عدداً من أبنائه لا يزالون رهن الاعتقال في سجون الغزاة. السرد يلامس قضايا وجودية حدودها أوسع من الوقائع المباشرة للغزو كالمساءلة عن امكان استيعاب مأساة لم تنته ذيولها بعد. ومثل المسرحية الكويتية، جاء عرض "فتيات راقصات" كولاجاً مؤلفاً من فقرات عدة تقارب فيها ويندي بونافينتورا، التي صممت العمل وأدته مع جاكلين جمال، شخصية الراقصة الشرقية وصورتها في بلادها وفي الغرب. والمشاهد فسحات تتجاور فيها أنماط مختلفة وتتداخل فيغدو العرض حواراً لجوقة من الأصوات والحركات. وفيما الموسيقى والغناء يواكبان الرقص بأنواعه المصرية والشمال افريقية، تتقمص الحركة شخصية الكلمة التي ينطق بها رواة غائبون .والرقص، الذي يثريه اتصاله بمفردات فنية شتى، يرقى الى مستوى لغة تعبيرية تطمح الى التواصل مع المشاهد. لكنها بقيت لغة تابعة تجسد شهادات وملاحظات رحالة غربيين وراقصات تتخلل أصواتهم العرض الذي يتعرض، بتعاطف مع الضحية الى الاجحاف الذي لقيته الراقصة الشرقية. والرقص الشرقي كان خاتمة العرض الاسرائيلي "الآن"، كتعبير عن الفرح اتسم بركاكة فنية واضحة وجاء على هامش المعنى الذي يستخلص من الحوار. والعمل الذي أدته مؤلفتاه يتناول موضوع السعادة والطريق اليها المزدحم بالأسئلة التي تتركز على معرفة الذات و"مراجعة الماضي واستكشاف معالمه بتفاصيلها كلها". وفي سياق هذا السعي "كي أعرف نفسي" - تقول احدى الفتاتين - يعود السرد الى الطفولة والمراهقة ليسجل لحظات توق أو هروب من الواقع وملاحظات منها ما يبدو مألوفاً للغاية مثل "العمل هو القوة" والجمال يضمن لصاحبته نيل الوظيفة بيسر. والرحلة الى الماضي لا بد ان تقود القناة الاسرائيلية الى العلاقة مع الجيران و"الحرب التي تمقتها بقدر ما تضيق بمعادلة "نحن وهم"، وفي النهاية تقرر ان ترمي "الألم وخيبات الأمل ومعها الماضي" وتصبح صديقة لنفسها تحلم وتأمل، ثم تبدأ الوصلة الشرقية على أنغام "يا بنت السلطان حني عالغلبان". هكذا ينتهي العرض نهاية سهلة بعدما يلامس قضايا شتة تتنوع تنوع الوسائل الفنية، التي تلجأ اليها الممثلتان الراقصتان وسط خليط من الموسيقى والرقص المتعدد - القوميات. شواهد من البوسنة ومن حيث بدأ زمن السلام الى البوسنة التي أقام ستة من فنانيها معرضاً بعنوان "شاهد وجود" ضمن فعاليات "المهرجان الجانبي" في مركز "ديماكرو" على "رغم كل شيء". والمعرض الذي سنعود اليه في عدد مقبل، استقطب اهتمام الجمهور والصحافة ليس بسبب أهمية المؤسسة التي ينتمي اليها الفنانون: "غاليري اوبالا" في ساراييفو، بل لأن ممثلي البوسنة احتجوا على وجود فرقتين مسرحيتين من صربيا في "ديماكرو". وهددوا بالانسحاب اذا لم يُنقل جيرانهم - الأعداء الى مكان آخر "يروجون فيه لشوفينيتهم القومية التي يعتبر ليوبومير متشيك، مؤلف احدى المسرحيتين، احد روادها الأوائل"، على حد تعبير منسقة الوفد البوسني. وبينما أكدت مسؤولة الاعلام في المهرجان "الجانبي" لپ"الوسط" ان "سبب المشكلة كان خطأً غير متعمد تم تلافيه بالسرعة الممكنة" استغربت الفنانة البوسنية ان يُسمح لممثلين صرب "رفضوا التنديد بالعدوان" "الاشتراك بالمهرجان وربما على نفقة "مجلس الفنون" البريطاني! وتساءلت: "لماذا لا تطبق بحقهم مقاطعة ثقافية على غرار فناني جنوب افريقيا العنصريين أيام الحكم الأبيض؟". وبعيداً عن الضجة الاعلامية التي أثارها هذا "الخطأ"، قدم المعرض البوسني لرواده لوحات وتماثيل ضمت مادتها الأولية نتفاً من جسد البلاد المحروقة. في "آثار الحرب" وضعت أشياء الحرب والفن وجهاً لوجه في حوار صامت لا يقلل من بلاغته غياب التعليق على لقاء هذين الضدين. أما "ساراييفو 91، 92، 93، 94" و"ذاكرة الشعب" فتؤرخان للمأساة بزجاج مهشم وتراب محروق وصور ضحايا سقطوا في مسلسل الموت اليومي. المسرح المعاصر والبوسنة لم تشغل ابناءها فحسب. فهي كانت حاضرة دوماً في بال مشاهدي عدد من الأعمال المسرحية التي قدمها المهرجانان الجانبي والعالمي. وعدا فرقة مارك موريس الأميركية للرقص التي قدمت عرضاً أخاذاً حظي باقبال شديد اعتاده "المدهش" موريس في زيارتيه السابقتين للمهرجان ضمت عروض المهرجان "العالمي" البارزة أعمالاً أوبرالية وقاد بيار بوليز الاوركسترا التي عزفت آخر نتاجه. وتصدر العروض المسرحية انتاج المخرج الألماني بيتر شتاين لثلاثية ايسخيلوس "اورستيا" التي استغرق ممثلو وممثلات "مسرح الجيش الروسي في موسكو" 8 ساعات في ادائها بالروسية. ومحور العمل الماراثوني، الذي زادته اللغة الغربية وحشة وجعلت أحداثه الدامية أشد قسوة، هما التاريخ والعصيان. تبدأ القصة مع عودة الملك آغا ممنون الظافرة من حروب طروادة الى مدينته، التي انتشر فيها الفساد والتذمر، كي يموت مقتولاً عقاباً له على تقديمه ابنته ايفجيني قرباناً للآلهة لتهبه النصر. والثأر من ملك في مجتمع لا يحترم القانون ينذر بعواقب خطيرة، فقد يحلو الانتقام لاتباعه وتكر سبحة القتل خصوصاً وان أوريستيس عاد بعد 12 عاماً ليقتص من أمه ملكة أراغوس وزوجها اللذين غدرا بوالده. وقبل ان تقع ضحايا جديدة يمثل اوريستيس، الذي لاحقه طالبو الانتقام سنوات عدة، أمام محكمة "ديموقراطية" برئاسة "أثينا" تبرئه بعد طول جدال فيرفض أنصار الملك القتيل قبول الحكم. وتنجح أثينا في تهدئة ثورتهم بفضل حنكتها فتجنب المدينة مجزرة مخيفة. تصرف شتاين بالنص الأصلي ليجعله قريباً في بعض جوانبه، من الواقع المعيش. ولعل ثورة الموالين للملكة القتيل على الهيئة الديموقراطية تذكر بما حصل في بلد الممثلين ذاتهم حيث شهد البرلمان معركة الرئيس يلتسن ومعارضيه. وتوقف العرض في غير محطة عند قضايا تندرج ضمن الاهتمامات النسوية، مثل التساؤل عن الأبشع بين جريمتي قتل الأم والزوج. والدماء التي انبثقت بغزارة على المسرح في الحرب الأهلية هي الأخرى بمثابة تشديد على عرض شتاين ينتمي الى هذا الزمان، الى ذلك وُفق بالمحافظة على شخصية النص التاريخية بواسطة الديكور والكورس والسرد… وتجنب السقوط في مطب المباشرة. العمل الثاني اللافت في برنامج المهرجان الدولي السخي كان "الساعة التي لم نعرف فيها شيئاً بعضنا عن بعض" التي كتبها الألماني بيتر هانديك وأخرجها السويسري لوك بوندي. وجاءت ثمرة التعاون بينهما على مستوى السمعة الواسعة التي حققاها كاثنين من أبرز المسرحيين المعروفين بالجرأة والشغب الفني. فالعمل متفرد في كيفية مخالفته مألوف هذا النمط الفني الى درجة تجعله عصياً على تعريف دقيق. و"المرونة الفنية" تقترن ب "ديموقراطية" يلمسها المشاهد القادر على استخلاص المعاني التي يراها مناسبة بصورة لا توفرها مسرحية اخرى. والسر يكمن في غياب الكلام نهائياً. ثلاثون ممثلاً وممثلة يغذون الخطى مسرعين على الخشبة وقد يتوقف احدهم قليلاً منفرداً او مع آخرين، الا ان أياً منهم لا ينبس بكلمة على مدى ساعتين ونصف تقريباً. وهؤلاء يتقمصون حوالى 400 شخص مختلف ليس بينهم شخصية مسرحية واحدة ذات معالم ثابتة. لا شخصيات اذن في العمل والممثل لا يمهّد للمشهد ولا يؤديه بصورة تتطابق تماماً مع الواقع. لهذا كله "ليس العمل ايمائياً" في رأي مخرجه. الجميع موقتون سواء كانوا حيوانات - وهذه تظهر غير مرة على المسرح - او رجالاً نبشهم هانديك من كتب التاريخ والميثولوجيا القديمة او اناساً عاديين. وحده الديكور البسيط حاضر على الدوام، فيما تتحرك الشخصيات في لحظات، هي عادة سابقة على بدء المسرحية، حيث تقطع الصمت جلبة الممثلين والموسيقى بينما المتفرج يتساءل الى اين يمضي المسرح المعاصر؟