فوجئت بدعوة من الصديق الدكتور علي الدين هلال، عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، إلى المشاركة في حلقة حوار محدودة العدد مع عباس مالكي. سألت ومن هو عباس مالكي؟ أجابني علي الدين: هو نائب وزير الخارجية الايراني، ورئيس معهد الدراسات السياسية الدولية التابع لوزارة الخارجية. ضبطت نفسي تصيح بعفوية: ايراني في القاهرة! ألح علي الدين بصوته الودود: هل تأتي؟ أجبت: بالطبع. هذا أمر يستحق الحوار والجدل.. وربما الفرجة أيضاً... وذهبت. كان اللقاء في قاعة مركز البحوث والدراسات السياسية التابع لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، والذي ترأسه أخيراً الأستاذة الدكتورة نازلي معوض خلفاً للدكتور علي الدين هلال بعد انتخابه عميداً للكلية مطلع هذا العام. كان العدد محدوداً بالفعل: المصريون لا يتجاوز عددهم تسعة أفراد بين أكاديميين ومفكرين وكتاب، والايرانيون ايضاً في حدود سبعة افراد، بعضهم سفراء يتولون مسؤولية المكاتب العربية والافريقية في وزارة الخارجية، وبينهم علي محمدي رئيس قسم رعاية المصالح الايرانية في القاهرة، وبعضهم الآخر باحثون في معهد الدراسات السياسية والدولية، متخصصون في الشؤون المصرية والعربية. وكان واسطة العقد بينهم عباس مالكي، رجل طويل ملتح، باسم الوجه، أنيق الملبس يتكلم بصوت خفيض لبق، يميل الى الدعابة، تحس معه بالألفة بعد عشر دقائق من لقائك إياه والتحدث معه. تحلقنا حول طاولة الحوار وشرع علي الدين هلال وعباس مالكي يطرحان مشروعاً لجدول اعمال النقاش. وكان الحديث يدور بالانكليزية. تدخلت مداعباً: ألا يرى الاخوة الايرانيون انه يبدو غريباً ان نستخدم في الحوار بيننا لغة اجنبية، غربية على وجه الخصوص. ونتجاهل العربية لغة القرآن الكريم؟ أجاب عباس مالكي برحابة وود: سجلت علينا منذ البداية نقطة. معك حق. دعنا نتكلم بالعربية والفارسية ومعنا أخوة في الوفد الايراني يجيدون الترجمة. وحتى عندما طالبنا نحن، بعد ساعة من الحوار، بأن نعود الى الإتكليزية اختصاراً للوقت الذي تستهلكه الترجمة، اعتذر عباس مالكي وأصر على الحوار بالعربية والفارسية وإن طال الوقت. وظهر لنا ان الاخوة الايرانيين يتفهمون بقدر معقول العربية، وان كانت تتفاوت القدرات بينهم عند الحديث بها. وقبل ان ندخل في صلب الحوار، أثرت ما يمكن ان يسمى في ادبيات الاجتماعات "نقطة نظام". تساءلت من خلالها: كيف حدث أننا نجلس مع الإيرانيين اليوم حول طاولة واحدة للحوار في القاهرة وان يكون على رأس الجانب الايراني مسؤول كبير في الجمهورية الاسلامية بدرجة نائب وزير. ونحن نعلم ان هناك محاولات جرت للحوار الايراني - المصري بين وزيري الخارجية في البلدين وغيرهما من المسؤولين. لكن كل هذه المحاولات لم تكن تقطع خطوة واحدة حتى تنتكس وتعود النبرة العدائية الى الخطاب السياسي بين البلدين، بدرجات متفاوتة. بتعبير آخر كيف أمكن ان تحدث هذه المفاجأة ويأتي الايرانيون الى القاهرة، وتعقد حلقة مفتوحة للنقاش تحت بصر الحكومتين وسمعهما؟ فسر علي الدين هلال وعباس مالكي وقوع هذه المفاجأة، بأنهما- بصفة كون كل منهما مديراً لمركز دراسات سياسية في بلده - ظلا يتراسلان ويتبادلان المطبوعات والدوريات منذ حوالي اربع سنوات أنشىء مركز الدراسات الايراني عام 1983، وانهما اتفقا على ضرورة الحوار بين المثقفين في البلدين من باحثين واكاديميين ومفكرين وكتاب، على رغم مواقف الحكومتين المتعارضة او حتى المتصارعة. وحدث اكثر من مرة تحديد موعد للقاء المثقفين في القاهرة او طهران، لكن العواصف السياسية التي تهب بين وقت وآخر بين البلدين، أطاحت كل موعد حدد لهذا الغرض. وفي الشهور الثلاثة الماضية تموز/ يوليو - ايلول/ سبتمبر تمكن الطرفان من أن يقنعا حكومتيهما بأن ترفعا الحواجز من أمام لقاء المثقفين وإن على سبيل التجربة. وعلى هذا الاساس وجه علي الدين هلال بصفته رئيساً لمركز القاهرة الدعوة إلى عباس مالكي وعدد من زملائه في مركز طهران، للحضور الى مصر وعقد طاولة الحوار. وإذا صح هذا التفسير لواقعة "ايراني في القاهرة"، وأظنه كذلك، فانه قد يعني، وأظنه كذلك ايضا، انه بعدما تعذر الحوار بين البلدين من خلال الباب الحكومي، فإن الحكومتين قبلتا بأن يبدأ هذا الحوار من خلال المثقفين. وبالتالي فالحكومة في القاهرة أو في طهران مع هذا الحوار، لكن اياً منهما ليست طرفاً فيه حتى وإن كان رئيس وفد المثقفين الايرانيين، هو "بالصدفة" نائب وزير الخارجية. اتفقنا على اهمية ان تدور المناقشات بيننا صراحة من دون حساسية، وان يوجه كل طرف الى الطرف الآخر ما يشاء من نقد. وحبذا لو تسلح الطرفان بالشجاعة الادبية ومارس النقد الذاتي حول مسؤوليته في تعكير، وربما تسميم بحيرة العلاقات بين البلدين والشعبين. ولاحظت ان الطرف الايراني، كان على رأي واحد، في حين كان الطرف المصري، نتيجة واقع التعددية الفكرية والسياسية في بلاده، يختلف في طروحاته ومواقفه، ولكن في اطار عام وهو ان ايران اقرب ما تكون الى سؤال غامض، ومرهق للواقع المعاصر. لو يسمح المجال، هنا بعرض تفصيلي للمناقشات التي استهلكت حوالي ثلاث ساعات حول طاولة الحوار، وامتدت ساعتين اخريتين حول مائدة طعام العشاء، بعد ذلك. ويمكن القول، بدرجة أو بأخرى، أن المناقشات كشفت بعض نقاط اتفاق مشتركة بين الطرفين. وذلك بجانب نقاط الخلاف المتعددة. وربما أمكن وصفها بالعميقة أيضاً. وبرز في مقدمة نقاط الاتفاق، التقويم المتبادل للوزن التاريخي والواقعي لحقيقة ودور كل من البلدين المؤثر اقليمياً وسياسياً وفكرياً. وأيضاً بالنسبة إلى الاسلام ديناً وحضارة، سواء في الماضي أو في الحال أو في المستقبل. وذلك انطلاقاً من القدرات والامكانات والمواقع الجغرافية - السياسية المتميزة التي يتمتع بها كل بلد في المنطقة، وانه بقدر ما يكون هناك توافق في الحركة على الاساسيات الموضوعية، على رغم ما يكون هناك من خلافات قائمة او تنشأ في المستقبل نتيجة سياسات النظم، فانه يمكن - على الاقل - الحفاظ معاً على استقلال المنطقة من الاطماع الخارجية، وتحقيق قدر من معقول من التعاون الاقتصادي لمصالح ابناء المنطقة. من نقاط الاتفاق - أيضاً - ان لا تعارض بين العروبة والاسلام. وان ايران اذ تتفهم وتقدر دور مصر العربي في بناء علاقات حميمة بين البلدان العربية على النحو الذي ترتضيه، فان مصر أيضاً تقدر وتتفهم دور ايران في العالم الاسلامي الذي تشاركها مصر والبلاد العربية في عضويته، والعمل المشترك من اجل قيام علاقات قوية بين البلدان الاسلامية بعضها مع بعض على أساس الندية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. يندرج ضمن نقاط الاتفاق كذلك، ان العرب هم الذين جاؤوا بالاسلام الى ايران، وانه على رغم الاختلافات الفقهية بين السنة والشيعة او المذاهب المختلفة، فان كتاب الله الحكيم يظل هو مصدر القيم الاساسية والحاكم لها بين جميع المسلمين. وان ايران تقدر لمصر - من خلال الشيخ شلتوت شيخ الجامع الازهر - مواجهتها لمن هاجموا - بغير علم - في العالم العربي المذهب الجعفري والاعتراف بمشروعيته الاسلامية. وقبل ذلك تقدر إيران الدور المستنير للشيخ محمد عبده في جهده لتوحيد كلمة المسلمين واصلاح حالهم ومدهم باسباب القوة والمعرفة الانسانية المتجددة. وصداقته النضالية - الفكرية لجمال الدين الافغاني. حسناً! وماذا عن نقاط الاختلاف؟ انها كثيرة ومتفجرة. نبدأ ببعض النقاط التي أثارها الطرف المصري. أثار أول ما اثار الاعتناق الايراني بعد الثورة الاسلامية لنظرية "تصدير الثورة" وممارستها عملياً وانشاء التنظيمات المخصصة لذلك داخل ايران وخارجها، وتكوين آلية مالية وتسليحية ودعائية في هذا المجال. وهذا امر يعني التدخل في الشؤون الداخلية للنظم والشعوب، والعصف بارادة عباد الله في اختيار نظمها، وتهديد استقرار المنطقة والدفع بها نحو الفوضى ومزيد من التخلف. وان تجربة تصدير الثورة قد فشلت، سواء على المستوى الفكري او العملي، من جميع الثورات العقائدية السابقة، سواء أكانت دينية او دنيوية. وطرح الطرف المصري أيضاً، قضية الدعم الايراني، سواء بطريق مباشر او غير مباشر، لجماعات الارهاب وممارسة العنف باسم الاسلام في المنطقة. كذلك وضع الطرف المصري على طاولة الحوار ما يمكن ان يسمى السياسة الايرانية المعادية للعرب والتي تجلت على سبيل المثال في ثلاث قضايا: الأولى، المعارضة لدور مصر مع اشقائها من دول الخليج العربية في بناء ما يسمى أمن الخليج من دون افتئات او انتقاص من دور ايران الاقليمي في هذا المجال، كدولة خليجية. الثانية، احتلال جزيرة ابو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى التي هي جزء لا يتجزأ من دولة الامارات العربية. الثالثة، العمل المضاد ضد مشروعات التسوية السياسية السلمية للصراع العربي - الاسرائيلي التي ارتضتها الغالبية العظمى من الشعوب العربية بما فيها الشعب الفلسطيني. وهناك فرق بين حق الاختلاف واعلانه من جهة والعمل المضاد التخريبي من جهة ثانية. الجانب الايراني - بدوره - أثار كثيراً من النقاط. وقدم في النقطة الأولى عرضاً لما تواجهه بلاده من حصار غربي عموماً واميركي خصوصاً، او ما تسميه الاستراتيجية الاميركية سياسة الاحتواء، وانه يبدو من مواقف مصر كما لو انها تؤيد هذه السياسة وتشجعها أو على الاقل تسكت عنها. وبالتالي تقف مع اميركا والغرب - عمليا ضد ايران، البلد الاسلامي الشقيق. في نقطة ثانية، طرح الجانب الايراني، الدور المصري الواضع والداعم - بوزنه - لما يسمى التسوية السياسية السلمية بين العرب واسرائيل، وان ايران تقف من الناحية المبدئية، ضد الوجود الصهيوني الاسرائيلي في المنطقة بصورة جذرية، لانه وجود دخيل عنصري استعماري لا شرعية له. ومن الناحية التكتيكية فان ما اسفرت عنه هذه التسوية، لا يزيد على الحرية النسبية للشعب الفلسطيني المسلم المغتصبة حقوقه، للتحرك المقيد في ما لا يزيد على 3 في المئة من ارض وطنه. وفي نقطة ثالثة، اثار الجانب الايراني، ما سماه الحملة الصحافية الضارية ضد الجمهورية الاسلامية وقياداتها، في كل صغيرة وكبيرة. والترويج لسياسة ان ايران هي مركز انتاج العنف والقلاقل والارهاب في المنطقة. وتصل الحملة الى حد إثارة الشكوك في اسلام ايران وشعبها. هذه نوعية من نقاط الخلاف المتبادلة التي أثيرت. ولا اظن ان احداً من الجانبين استطاع ان يغير قناعة الجانب الآخر في شأن نقطة ما. ولعل ذلك لم يكن المقصود في اول لقاء للحوار وانما كان المراد ان يتعرف كل طرف صراحة ووجها لوجه، إلى رؤية الطرف الآخر. واعتقد بأن الحوار حقق نجاحاً بهذا المعنى. بقي ان يستمر الحوار. وأخال ان ذلك رغبة الطرفين. ومن المقرر - اذا لم تستجد عقبات - ان تنعقد الدورة الثانية للحوار في طهران قبل نهاية 1994. المهم ان عجلة الحوار دارت. واذا كان الحوار بين اميركا والصين قد مورس من خلال ما سمي ديبلوماسية رياضة الكرة الطائرة، فانه في حالة مصر - ايران يبدأ بديبلوماسية موائد المثقفين. وهكذا سجلت واقعة "ايراني في القاهرة"! * كاتب ومفكر مصري.