الملف المصري – الإيراني من الملفات المهمة بالغة التعقيد والحساسية، نظرا للبعد الإقليمي والدولي الذي يحيط به –من جهة- كونه يساهم بشكل مباشر في رسم شكل العلاقات الخارجية لمصر مع دول الخليج وأمريكا، إضافة إلى المخاوف الأخرى المتعلقة بالأجندة الإيرانية الساعية للتمدد في دول الجوار السنية على أسس أيدلوجية ودينية لخدمة المصالح الإستراتيجية لنظام الملالي. وتزداد هذه المخاوف مع وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى رأس السلطة في مصر بعد فوز مرشحها الدكتور محمد مرسي بمنصب رئيس جمهورية مصر العربية، لعدة أسباب سنتعرض لها لاحقا. لكن من المهم أولا إلقاء نظرة سريعة على العلاقات المصرية الإيرانية منذ بداياتها في العصر الحديث مرورا بثور الخميني وحتى سقوط نظام مبارك. ما قبل الخميني اتسمت العلاقات المصرية الإيرانية في فترة ما قبل الثورة الخمينية بالقوة والمتانة برغم التوترات البسيطة التي شابتها وتعود بداية التمثيل الدبلوماسي بين البلدين في العصر الحديث إلى سنة 1847 حين وقعت يعود تاريخ العلاقات المصرية الإيرانية في العصر الحديث إلى معاهدة أرضروم الثانية بين الدولة القاجارية الإيرانية والدولة العثمانية والتي جاء فيها أن الدولة الإيرانية تستطيع تأسيس قنصليات لها في الولايات العثمانية فتم افتتاح قنصلية لرعاية المصالح الإيرانية في القاهرة وقد أعقب ذلك توقيع اتفاقات صداقة بين البلدين في العام 1928 . وفي عام 1948م توطدت العلاقة عن طريق المصاهرة بين الأسرتين الحاكمتين في مصر وإيران حيث تزوج الشاه محمد رضا بهلوى من أخت الملك فاروق "الأميرة فوزية"، وتم الطلاق سنة 1949م، ومن ثم بدأ الفتور فى العلاقة بين البلدين. وزاد التراجع بين البلدين مع ثورة 23 يوليو في مصر عام 1952م فقطعت العلاقات في أول مرة في عهد الرئيس جمال عبد الناصر عام 1963م بسبب علاقة الشاة بإسرائيل وفى يونيو سنة 1963م اتهم الشاه محمد رضا بهلوى مصر بالوقوف وراء ثورة "خرداد" التى قام بها رئيس الوزراء محمد مصدق والتى سميت بالثورة البيضاء ، ونجحت أمريكا فى اعادته إلى الحكم مرة أخرى . وبعد وفاة عبد الناصر وبداية عصر السادات بدأت العلاقات تعود تدريجيا، سيما مع قيام الشاة بتزويد مصر بالبترول أثناء حرب 1973 مع الكيان الصهيوني رغم علاقات الشاة بإسرائيل وهو ما جعل السادات يكافؤه على موقفه ذلك بعدم التخلي عنه واستضافته بعد سقوط نظامه. 3 عقود من التوتر مع قدوم الخميني لرأس السلطة بعد ثورة شعبية، استقبلت مصر الشاه محمد رضا بهلوي بعد رفض أمريكا له خوفاً على مصالحها، وهو ما أدى بدوره إلى توتر العلاقات بين البلدين، قبل أن تنقطع نهائيا بعد إعلان مصر عن عقدها معاهدة سلام مع إسرائيل في مارس 1979م، كرد من طهران على هذه الخطوة بحسب ما أعلنت. عقب مقتل الرئيس الراحل أنور السادات في أكتوبر 1981م، أطلق النظام الإيراني اسم قاتله خالد الإسلامبولي على أحد شوارع طهران -تغير اسمه عقب ثورة 25 يناير إلى اسم شارع شهداء مصر-، وهو ما رسخ التوتر بطبيعة الحال، ولم تستجب طهران لطلب السلطات المصرية النظام الإيراني بإزالة هذا الاسم، فكان رد القاهرة هو إطلاق اسم الشاه محمد رضا بهلوي على أحد شوارع العاصمة . ظلت العلاقات الإيرانية تعاني من هذا الفتور طيلة 3 عقود كاملة في ظل حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك وإن كانت قد شهدت على فترات متباعدة بعد البوادر الإيجابية التي لم ترتقي لإقامة علاقة كاملة وطبيعية، وكانت البداية عقب نهاية الحرب العراقية الإيرانية، حيث تم إرسال وفود متبادلة بين الدولتين على مستوى الفرق الرياضية والفنية ومن ثم على مستوى الوزراء في مناسبات دولية وأستمر العلاقات في تصاعد حتى عام 1990 وغزو العراق للكويت فبدأت العلاقات تأخذ منحنى آخر. واتهم مبارك النظام الإيراني بدعم جماعات اسلامية متشددة بمصر والمعروفة "بالجماعات الإسلامية" كما اتهمها بالمشاركة في محاولة اغتياله عام 1995. فى أواخر عام 2003 م بعد انقطاع دام حوالى ربع قرن من الزمن التقى الرئيسان المصرى و الإيرانى في جنيف على هامش اجتماع القمة العالمية الأولى لمجتمع المعلومات مما اعتبره البعض ايذانا ببدء تطبيع العلاقة بين البلدين، والذى تبعه زيارة الوفد المصرى برئاسة وزير الخارجية أحمد ماهر إلى طهران فى شهر فبراير على هامش اجتماعات مؤتمر قمة الدول الثمانية إلا أن لم يطرأ تغيرا ملحوظا على العلاقات التي شهدت موجة جديدة من التوتر في عام 2008 عندما أنتجت إيران فيلما بعنوان (إعداد فرعون) تناولت فيه حادثة اغتيال محمد أنور السادات رئيس مصر الأسبق الذي استقبل شاه إيران بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران، ووصفته بالخائن و وصفت من قتلوه بالشهداء . ومن خلال الاستقراء السريع لمسيرة العلاقات الإيرانية المصرية يمكن القول إن السبب الرئيس لتوتر العلاقات طيلة هذه الفترة الطويلة يكمن في مخاوف النظام من تصدير الثورة الخمينية أو (الإسلامية) كما تطلق عليها طهران، في حين كانت علاقة طبيعية في ظل حكم الشاة الذي كان ميالا نحو العلمنة والتغريب، وتأتي هذه الاستماتة في الرفض من النظام المصري السابق بالرغم من أن الدول العربية التي دخلت في حروب مباشرة مع إيران أو تعرضت لاحتلال أجزاء منها كالإمارات أو تعرضت لمؤامرات إيرانية على أراضيها كالسعودية وتفجيرات الحج قامت بإقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية كاملة مع إيران، غير النظام المصري استمر في حالة القطيعة والخصام مع طهران ولعل منشأ الخوف هو الترحيب الذي لاقه وصول الخميني للسلطة من تيارات الإسلام السياسي التي رأت بصيص أمل للتغيير الأصولي، ثم ترحيب طهران بمقتل السادات ووصفها قاتلوه بالشهداء. وعلى الرغم من الخلاف العقدي الذي لا يمكن تجاهله بين النظام الخميني الشيعي والحركات الإسلامية السنية، إلا أن النظام المصري كان ينظر إليها جميعا من منظور رفضه لكل الحركات الأصولية فهو يخشى استنساخ النظام الخميني في عباءة سنية، ويتوجس خيفة من شعارات المقاومة والتنديد بإسرائيل التي ترفعها إيران وتلاقي قبولا في أوساط بعض الإسلاميين والإخوان خصوصا والذي يجدون فيها جانبا مشتركا مضيئا معهم. الإخوان وإيران لا تحمل جماعة الإخوان المسلمون أية مشاعر سلبية أو عدائية من منطلقي أيدلولجي أو عقدي تجاه الشيعة الإثنى عشرية مثلما هو الحال عند نظرائهم في التيار السلفي، فطالما كان الإخوان دعاة تقريب بين السنة والشيعة منذ عهد الشيخ المؤسس حسن البنا، واستقبلوا الثورة الإيرانية بترحاب كبير ارتقى في بعض المواقف إلى مرتبة تصدير الثورة الإيرانية والترويج لها وتسويقها، بل والتبشير بها. ويحاول الإخوان دائما عدم التعاطي مع الخلافات المذهبية وجعل القضية الفلسطينية وتحرير القدس محورا للالتقاء وتسليط الضوء على العدو المشترك وهو أمريكا وإسرائيل. وبرغم ما أبداه الإخوان من مودة وحسن نية تجاه الشيعة وإيران وثورتها، إلاّ أن عقيدة الشيعة الخاصة بالإمامة والحكومة، وهي الركن الأساسي، اتخذت فيصلاً وحكماً في علاقة الشيعة بالإخوان، فالفكر الشيعي، وإيران على وجه الخصوص، لا يقبلان أي فكر أو تنظيم يخالفهم في قضية الإمامة، ودولة المهدي المنتظر، وهو ما لم ينتبه له الإخوان في مصر لعدم اكتراثهم سوى بالجوانب السياسية في العلاقة مع نظام الملالي، وهو ما شجع النظام الإيراني في استخدام الإخوان كجزء من خطتهم الطائفية في ضرب الصف السني وإحداث الفتنة بين التيارات والقوى الإسلامية في الوطن العربي ولا أدل على ذلك من الحوار الذي نشرته وكالة أنباء فارس شبه الرسمية بعد ساعات من أول خطاب رسمي للرئيس المصري المنتخب محمد مرسي زعمت انه أدلى أليها به داعيا إلى "استعادة العلاقات الطبيعية" مع طهران وهو ما أثار لغطا كبيرا في الشارع المصري وجعل جماعة الإخوان ومرشحها في حرج بالغ حيث أنه لم يثير التساؤلات في الأوساط الداخلية بقدر ما أثار العدي من المخاوف لدى دول الجوار العربية والتي تخشى من الإخوان أصلا وعلاقاتها متوترة مع طهران. مرسي .. ومستقبل العلاقات المصرية الإيرانية في ظل الزخم الثوري الذي خلفه الربيع العربي وما نتج عنه من تبوأ الحركة الإسلامية موقع الصدارة لم يعد من المنطقي الإعجاب بنموذج الثورة الإيرانية الذي كان سببه القدرة على تغيير الأوضاع الداخلية، في ظرف إقليمي وعالمي معقد ، والاستقلال في التبعية عن المشروع الصهيو – أمريكي، وهو المنظار الذي كانت تنظر منه الإخوان بإعجاب تجاه إيران طيلة العقود الثلاثة الماضية مع استمرار فشل كل الجماعات والتيارات السنية في التاريخ المعاصر في تحقيق ما تحقق في إيران، بل إن الحالة الراهنة في مصر باتت تحتم على الإخوان ابعاد الشكوك عن أنفسهم بتكرار النموذج الإيراني المتمثل في ولاية الفقيه والمرفوض جملة وتفصيلا لدى الشارع المصري والقوى السياسية، التي يصيبها الهلع من فكرة استنساخ ولاية الفقيه في رداء سني تحت حكم المرشد. إن العلاقات المصرية الإيرانية لن تنفصل عن الأوضاع الإقليمية والعربية الراهنة والتطورات السياسية التي تعصف بالمنطقة، فلن تستطيع إيران بأي حال من الأحوال تجاوز موقفها من الأزمة السورية التي تقف فيها موقفا منحازا ضد الإرادة الشعبية وداعما رئيسيا لنظام السفاح بشار الأسد، واعتقد أن هذه القضية ستكون محورا رئيسيا لرسم العلاقة بين طهرانوالقاهرة في الوقت والراهن على الأقل، وقد سبق أن قال الرئيس مرسي في مؤتمر له قبل وصوله للسلطة إن القائم بالأعمال الإيراني في القاهرة يحاول لقاؤه بصفته رئيس حزب الحرية والعدالة وهو ما رفضه مرسي بشكل قاطع حتى يقدم توضيحا عن موقف بلاده مما يحدث في سوريا، ومن الواضح أن هذه القضية تشكل أهمية على الأجندة الخارجية لدى الرئيس فتطرق إليها باقتضاب في أول خطاب له بعد تنصيبه رسميا رئيسا لجمهورية مصر العربية خلال الاحتفالية التي تمت بقاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة حيث أكد على سعيه في القريب العاجل للعمل مع كافة الأطراف على وقف نزيف الدم سوريا. إقامة علاقات طبيعية وكاملة مع إيران هو أيضا أمر غير مستبعد ومن المتوقع حدوثه سواء طالت المدة أو قصرت وهو في النهاية لا يشكل تهديدا على مصر كما يظن البعض فحتى دول الخليج التي تشكل إيران لها تهديدا مباشرا تتمتع بعلاقات دبلوماسية واقتصادية كاملة مع طهران رغم التوترات. ويمكن القول إن المخاوف التي في أذهان البعض ليست حقيقية بالشكل الكافي فمصر ليست دولة جوار جغرافي لإيران ولا يوجد بها طائفة شيعية تشكل تهديدا مباشرا للأمن القومي مثل السعودية والبحرين والكويت وهو ما يجعلها ورقة استيراتيجية إن ما احسن استثمارها بذكاء في الوصول إلى شكل مرض من العلاقات بدول الخليج التي تتخوف من الإخوان. إن التحالف الإخواني الإيراني أمر غير وارد وطرحه لا يعدوا قصورا في النظر وقياسا مع الفارق لا يمكن الاعتداد به، حيث أن منشأ هذه المخاوف مرجعه العلاقات الإيرانية بحركة حماس (الفرع الإخواني في فلسطين)، وكلنا يعلم أن الغريق لن يسأل إذا كانت اليد الممدودة له مسلمة أو يهودية، ولسنا هنا بصدد الاسترسال في هذه القضية، كما أن مصر وشعبها وتركيبتها السياسية تختلف عن غيرها ولا يمكن التنبؤ بحدوث مثل هذا التحول. ويتبقى أخيرا قضية المد الشيعي والتي حسمها شيخ الأزهر الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب عندما أعلن عن تصدي الأزهر بكل قوة لأي محاولة إيرانية لنشر المذهب الشيعي في مصر، إثر قيام بعض المتشيعة بافتتاح حسينية في مصر منذ أسابيع لأول مرة. واعتقد أيضا أنه لا حاجة لهذه المخاوف في ظل حكم الإخوان فالجماعة في النهاية جماعة سنية لا تربطها أية صلة أيدلوجية بالنظام الإيراني الشيعي الإثنى عشري ومنشأ الإعجاب سياسي بحت من جهة ومن جهة أخرى ينطلق من مبدأ السعي للتقريب الذي أثبت عدم جدواه عبر تجارب طويلة خلصت. خلاصة القول: أن مصر اليوم دولة جديدة تشهد مخاض ديمقراطي حقيقي، لن تكون الإرادة فيه لأهواء الرئيس أو الجماعة الحاكمة، فالشعب اليوم بات فاعلا حقيقيا في رسم الخريطة السياسية الخارجية والداخلية كما أن القوى السياسية المعارضة والأحزاب سيكون لها دور مؤثر أيضا في العملية السياسية فزمن تكميم الأفواه لن يعود. المصدر: مركز الدين والسياسة للدراسات www.rpcst.com