بعد "أغنية خارج السرب"، تسجّل مجموعة محيي الدين اللاذقاني الاخيرة "من كان حزيناً فليتبعني" ""الهيئة المصرية العامة للكتاب"/ القاهرة 94، انتقالاً الى مرحلة جديدة في تجربته الشعرية. فهو يخرج من أجواء الأغنية والنشيد والترتيل، ويتجاوزها الى عالم الجدل والحوار مع الأشياء والموضوعات والبشر. ويقدم لنا الشاعر السوري عشرين من قصائد الدلالة القائمة على ايقاع التراكيب اللغوية، والتصوير الشعري المحسوب غير المجنح، والمرتبط - باستمرار - بمادة الموضوع والتجربة والفكرة. وهذا ما يجعل الجملة الشعرية في هذا الديوان قائمة على الملاحظة الدقيقة للعلاقات بين اطرافها المكونة، وبين السياق الشعري المطلوب. أما الدلالة فتكمن في التصوير والايقاع اللذين يشحن بهما اللاذقاني تراكيبه الشعرية. فيما تقف الذات بين هذه العناصر المتجادلة كلها، واضحة الانحياز الى قيم الكرامة والعدالة والصدق - وهي قيم منتشرة عبر الديوان كله. وكما يحدد العالم موقفاً من الشاعر، فإن الشاعر ينبري بنتاجه لمواجهة العالم، عبر كشف تناقضاته وعيوبه وسلبياته. ولهذا نلمح محيي الدين اللاذقاني، في قصائد الدلالة هذه، يفيض ألماً ووجعاً، بحيث يظهر الشاعر في هيئة الحزين الأول، عبر صحراء ممتدة، مناشداً غيره من الحزانى الحقيقيين أن يتبعوه عبر صحراء الدهشة الى طريق الخلاص. وتتنوع القصائد العشرون، بتنوّع الحزن، بين الجملة الشعرية، والمقطوعة القصيرة والقصيدة الممتدة الطويلة. فسحات متلاحقة للبوح، تعرى في ربوعها النفس البشرية مما تخجل منه. والشاعر يعرّي ذاته، مثلما يعرّي الواقع بابراز ما يحويه من تناقض غير عقلاني. وتنمو التناقضات بين الواقع المحيط بالشاعر وما يصبو اليه، فتنعكس بأشكال مختلفة، بدءاً بتكوين الجملة الشعرية القصيرة ووصولاً الى التصوير الشعري نفسه. حتى يتجسد التناقض في بنية القصيدة كلها، فيخلق جواً من الدهشة ويلفت النظر الى تفاصيل لم نعتد على ملاحظتها في الواقع المعيش أو في ذواتنا. يمزج اللاذقاني بين تضاد الاشياء وعدم تصالحها، بالسخرية والمرارة والحديث عن المرفوض بصيغة المقبول، وعن البعيد في صورة المتحقق. يكتب مثلاً مستخدماً ضمير الأنا السارد: "أنا الرجل الطويل، شرابة الخرج/ أقود معركتكم في سبيل اللاشيء./ وأضمن هزيمتكم بلا مقابل./ من كان حزيناً فليتبعني". ونراه يكوّن الصورة الشعرية البسيطة من لفظين متناقضين، كما نجده في هذا السياق يكسر التوقعات الدلالية، ليصيب المتلقي بالدهشة. فيأتي بتناص عكسي مع التراث المتمثل بقول مأثور تارةً، وببيت لبشار بن برد ص 15. ولهذا يحرص الشاعر في السياقات كلها على غرابة الصور الشعرية لأنها تؤكد على الدلالة المدهشة : "بأحذيتكم المسروقة/ وجيوبكم المليئة بالسعال/ عبّدوا درب عذاباتكم بالمودة/ واغرسوا بيارقكم عند انحناءات حنيني". وهكذا تظهر الصور الشعرية معكوسة باستمرار، لا يلتقي طرفاها في الواقع، كمثل قوله في سياق الوصايا "اسمعوا واعصوا". وهذه التكوينات اللغوية ترصد التضاد والتقابل والتناقض بين مكونات العالم التي نعيشها او نعيش عليها. ما يجعل الوضع الانساني قابلاً للانفجار والنكوص في أية لحظة. وتجيء التراكيب والصيغ لتساعد على خلق ايقاع خاص بالشاعر. يتمثل في الصيغ المتماثلة والمتشابهة من الناحية الصوتية والصرفية. وكل ذلك يخلق للنص خصائص موسيقية تساعد الدلالة على جذب سمع المتلقي: "عششت مئات الخفافيش والعناكب؟/صعد الفالحون، والفاتحون…/ اترعوا من لبني، وامرعوا في عسلي…/ طوبى للراكضين نحو حتوفهم بأنوفهم" ص 17. فمنذ كرر العين والشين والفاء في الجملة الاولى. ونحن نسمع وشوشات صوتية ذات رنين عال، تتضاعف مع استخدام عبارتي "اترعوا" و"امرعوا" اللتين يفرّق بينهما حرف واحد. ويكرر اللعبة نفسها مع "حتوفهم" و"أنوفهم"، وفي أماكن عدّة من الديوان بحيث تبدو عنصراً أساسياً في الايقاع الداخلي لقصيدته: "لك البحر والنحر/ الخيل والليل... الخل والذل" ص 53. والصورة الاخيرة بديعية تجنيسية، درستها البلاغة العربية القديمة على انها محسنات لغوية في النص الادبي. ولكنها هنا تعود الى جوهرها الموسيقي حيث يقوم التكرار والتوازي بتفجير طاقات هذه المماثلات الصوتية التي تتناقض مع بنية التضاد والتقابل التي اشرنا اليها أعلاه. وهذه التقنيات الشعرية، اذا جاز التعبير، تعكس وعي الكاتب بالكتابة وايمانه بدور الجرس والموسيقى اللغوية في تحقيق التوازن السمعي لدى المتلقي، وتذويب حدّ التقابل بالمتشابه والمؤتلف من الاصوات والتراكيب اللغوية. أما التصادم مع الواقع، فيدفع الشاعر الى "وحشيّة" لافتة، اذ يفضحه ميله في قصيدة "حنين" مثلاً، الى البدائية السابقة على الخبرة الانسانية المكتسبة: "... أعيديني الى غابتي/ الى عصر البكورة ومجد الانسان./ الى زمن تقفز أشجاره كالقردة/ وشحاذه يحاكم امبراطور الغابة". ص 101 وتتوالى هذه الثيمة في قصائد أخرى متمثلة في "الكابوس" ص 93، و"الارادة" ص 107، و"رسالة الى العالم الآخر" ص 148، و"خواطر تشرينية" ص 155.... حيث يحل الشاعر تناقضه مع الواقع، بالهروب الحلمي الى الصورة البدائية لأنها تحقق له التوازن النفسي والاجتماعي وتعيد لكل ذي حق حقه. وهذا ما نجده يتحول الى أمل استثنائي في قصيدته "رقصة فرح": "لا تبتئس يا صاحبي/ كلما أوغل هذا العمر في الدوران./ يحلو/ نصف الحقيقة أن موتك سوف يأتي/ ونصفك الأحلى بقاؤك في نعيم الوعد تحيا..." ص 187. وهنا تكتمل دورة الدلالة لدى محيي الدين اللاذقاني: ذات منفية - واقع مؤلم ومتناقض - ذات متأملة - عالم يتداعى ويخسر - كآبة - أمل - طبيعة بكر - الأمل بالحب والالتحام بالحياة... ففي مجموعته الثالثة، يحقق محيي الدين اللاذقاني نقلة نوعية ناجحاً في تلافي مشكلات كثيرة نجدها في قصيدة النثر المعاصرة. ولعلّ خير تعبير عن الاضافة التي يحملها ديوان "من كان حزيناً فليتبعني"، يختزلها مصطلح "قصائد الدلالة"، ويعبّر عنها خير تعبير...