تؤكد التعارضات والتوازيات والتقابلات التي ينطوي عليها شعر أمل دنقل الأدوار التي يلعبها مبدأ الثنائية في هذا الشعر بوصفه العنصر التكويني الحاسم، لا في الأقنعة فحسب بل في الشعر كله، حيث الثنائية مهيمنة في القصائد على كل المستويات، سواء من منظور التضاد أو منظور التماثل أو حتى المجاورة، ابتداءً من المستوى الأشمل لرؤية العالم التي تنبني على مركز ثابت تستعيده أو تصوغه بعلاقاتها المتوازية أو المتقابلة أو المتجاورة أو المتماثلة، وانتهاء بمستويات التقنية في أصغر مكوناتها التي تصل الإيقاع بالدلالة والقوافي بثنائيات المعاني المزدوجة أو توازيات التراكيب المتقابلة. وأيا كانت الزاوية التي ننظر بها إلى تجليات الثنائية الغالبة على شعر أمل، والحاكمة لقصائده تقنيا في الوقت نفسه، فإنها تبين في كل تحليل لها عن دوافعها التي هي سبب تولّدها ومنطلق صياغتها، وذلك من منظور سياق الثنائيات الأشمل التي تنبني بها رؤية الشاعر للعالم، والتي تعود لتتجسّد بهذه الثنائيات في ما يشبه مناقلة العلة والمعلول، أو تبادل السبب والنتيجة، حيث التفاعل المتصل بين التقنية والرؤية، الدال والمدلول، الوعي والصياغة. وهو تفاعل يجاوز بأطرافه ثنائية التعاقب التقليدية بين الرؤية والأداة، حيث تتشكل الرؤية أولا لتنقلها الدلالة ثانيا، إلى ثنائية مغايرة لا تخلو من التفاعل الذي تتغير به وفيه الأطراف المتقابلة أو المتناظرة. وبالطبع، تختلف تجليات مبدأ الثنائية التشكيلي من شاعر إلى شاعر، ومن مرحلة إلى مرحلة، ومن مدرسة شعرية إلى مدرسة مغايرة. ولكن في حال أمل دنقل تظل هيمنة هذا المبدأ موصولة برؤية السقوط التي لا يخلو منها شعره، والتي تؤسس لدوائر الثنائيات التي لا يفارقها هذا الشعر، خصوصاً في علاقات الدلالة التي تطغى فيها علاقات التعارض أو التضاد على علاقات المشابهة أو المماثلة. ولا يعني ذلك نفي علاقات المشابهة أو غيرها عن قصائد أمل في المستويات المتعددة للرؤية. وإنما النظر إلى العلاقات كلها من منظور الإطار السياقي الأشمل الذي يضع موضع الصدارة علاقات التضاد من دون غيرها، ويبرزها إلى الدرجة التي تبدو فيها الرؤية التي تؤديها القصائد ممزقة بين نقائض متعادية، تمايز خصوصية الشعر وخصوصية الشاعر على السواء. وتتميز الرؤية الشعرية التي تؤديها قصائد أمل من هذا المنظور بأنها رؤية ثنائيات ضدية ابتداء، ثنائيات هي دلالات تنطقها حركة الدوال التي تومئ إلى مدلولات سرعان ما تغدو دوالا بدورها في توتر الأداء الشعري للرؤية الغالبة. ويبدو ذلك واضحا عندما نلحظ أربع دوائر دلالية تتركب من اتصالها علاقات هذه الرؤية، سواء في مدى التجاوب بين العناصر التأسيسية أو المناقلة بين المكونات المتباينة التي تؤدي الوظيفة نفسها في البناء. والتضاد المتكرر بين هذه الدوائر، دالا على الرؤية التي تتجسد بالدوائر أو تجسدها الدوائر، هو الوجه الآخر من التجاوب العلائقي الذي يعطف كل نظير على نظيره في الصلة بالمبدأ المتكرر، ويرد كل ثنائية متضادة على غيرها في العلاقات التكوينية للرؤية التي لا تتخلى عن تقابلاتها الثنائية قط. ويتحقق التضاد المتكرر في هذه الدوائر جزئيا بواسطة المقطع أو الجملة أو الصورة، كما يتحقق كليا في القصيدة التي تنبني على تقابل أساسي بين نقيضين ينتسبان إلى هذه الدائرة أو تلك من الدوائر الأربع. والدائرة الأولى هي دائرة التضاد بين الماضي والحاضر في العلاقة التي تضع السقوط القومي بهزائمه في الحاضر موضع نقيض الصعود القومي بانتصاراته الباهرة في الماضي. وينقسم التاريخ القومي قسمة متدابرة الطرفين في هذه الدائرة: ماض موجب وحاضر سالب يحلم باستعادة ماضيه، ابتداء من قصيدة "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" التي أبرزت التقابل، في علاقات القناع، بين "قرطاجة" التي كانت ضمير الشمس و"قرطاجة" التي تعلمت معنى الركوع. وذلك هو التقابل الدلالي الذي تتصاعد به قصيدة "في انتظار السيف" التي تفتتح ديوان "تعليق على ما حدث" خصوصا حين نقرأ فيها: انظري أمتك الأولى العظيمه أصبحت: شرذمة من جثث القتلى، وشحاذين يستجدون عَطْفَ السيف، والمالَ الذي ينثره الغازي فيهوى ما تبقى من رجالٍ وأرومه. ويمضي التقابل الدلالي نفسه في التصاعد واصلا بين القصائد المتتابعة والدواوين المتعاقبة، مؤكدا على سبيل المثال التضاد الذي تبرزه قصيدة "سفر ألف دال" على مستويات كثيرة، أولها المستوى الذي يتصدره دال "العلم" الذي كان في هبة الريح، والآن يفرك كفيه في رقعة ضيقة كالزنزانة، إلى أن يصدأ الحنين فيه للماضي الذي كان. ودال "العلم" هو الوجه الآخر من دوال "رسوم في بهو عربي" حيث تتقابل مفردات اللوحات، صانعة بتكرار تقابلاتها أساس التعارض الذي تنبني به القصيدة كلها، في حركة دلالاتها المتوترة ما بين الإشارة إلى علامات المجد الذي كان في الماضي وعلامات الحاضر الذي أهال على الرسوم القديمة طبقات الصمت والغبار. وما يصل بين دال "العلم" ودوال هذه "الرسوم" في هذا السياق هو ما يصل بينها جميعا ودال "الخيول" التي كانت علامة الفتوح القديمة، حين كانت المماليك العربية ترسمها السنابك، والركابان ميزان عدل يميل مع السيف حيث يميل. الآن، بعد أن استدارت مزولة الوقت، واختارت الخيول العربية أن تذهب حيث تنحدر الشمس، ما الذي بقي لها؟ لا شيء: سوى عرق يتصبب من تعب يستحيل دنانير من ذهب في جيوب هواة سلالاتك العربية في حلبات المراهنة الدائرية، في نزهة المركبات السياحية المشتهاة، وفي المتعة المشتراة، وفي المرأة الأجنبية تعلوك تحت ظلال أبي الهول هذا الذي كسرت أنفه لعنة الانتظار الطويل. ولعل في الإشارة إلى "المرأة الأجنبية" التي تعتلي الخيول العربية، وهي إشارة لا تخلو من معنى الاستفزاز العرقي للإشارة الجنسية التي تستثير نخوة العرض بمعناها القبلي، ما يؤكد الصلة بين الثنائية المتعارضة لماضي الأنا المنتصر مقابل حاضرها المنهزم والثنائية الموازية للأنا والآخر، خصوصا حين يغدو "الآخر" الأجنبى سببا أساسيا من أسباب الهزيمة التي تصل الداخل بالخارج، في معنى الانحناء للآخر الذي يعتلي رموز الأنا القومية كما تعتلي "المرأة الأجنبية" الخيول العربية تحت أنف أبي الهول المكسور. هكذا، نواجه تجليات الدائرة الثانية من التضاد، حيث الأنا القومية في مواجهة الآخر الأجنبي الذي يتراوح ما بين صورتي الغازي والمستغل. وكلتاهما صورة لا تخلو من دلالة الدمار. وتصل هذه الدلالة الأخيرة ما بين قصيدة "الخيول" التي تنبنى كلها على التضاد بين ما كان وما هو كائن وقصيدة "بكائية لصقر قريش" التي تناوش في أجزائها الأخيرة المصاحبات الدلالية لدال "الخيل" نفسه، لكن في علاقته بالآخر المستغل الذي يمتهن معنى أصيلا من معاني "الجواد العربي". هو المعنى الذي يتصل بإحدى مفارقات السقوط القوي، ومن ثم تخاذل "الأنا" القومية في مواجهة "الآخر". ونقرأ في هذه الأجزاء: وقف "الأغراب" في بوابة الصمت المملحْ يشهرون الصلف الأسودَ في الوجه سلاحا ينقلون الأرض: أكياسا من الرمل، وأكداسا من الظلِّ، على ظهر الجواد العربي المُتَرَنَّحْ! ينقلون الأرضَ نحو الناقلات الراسيات -الآنَ- في البحرِ التي تنوي الرواحا دون أن تطلق في رأس الحصانْ طلقة الرحمةِ، أو تمنحه بعضَ امتنانْ! وكما ترتد دلالة "الجواد العربي" في هذا الجزء إلى دائرة التضاد التي يتقابل فيها الماضي والحاضر، من منظور تعارض الصعود/الهبوط، فإن الإشارة إلى "ظهر الجواد العربي المترنح" تنطوي على معنى الانتهاك الذي لا يبعدنا كثيرا عن معنى الانحناء الجنسي للآخر الأجنبي تحت أنف أبي الهول - رمز الماضي المكسور. وهو معنى تؤكده مفارقة السخرية المنسربة في الأسطر. وهي مفارقة تتجاوب مع ما يكملها في السياقات المتواصلة لقصائد أمل، خصوصا قصيدة المزمور الأول من مزامير "العهد الآتي". أعني المزمور الذي تتحول به مدينة الإسكندرية إلى امرأة معشوقة على مستوى الموازاة الرمزية، امرأة ترتمي في عشق الضفة البعيدة الواقعة في الشمال، بدل أن تستجيب إلى الحبيب الذي يصلها بالجنوب، فتظل معلقة في شراك البحر، مبحرة إلى الضفة الأخرى التي ترنو إليها، غير منصتة إلى تحذير الحبيب: خاسرة، خاسرة إن تنظري في عيني الغريمة الساحرة أو ترفعي عينيك نحو الماسة التي تزيّن التاج والغريمة الساخرة هي أوربا بلاد "الأغراب" التي تغوى الإسكندرية بالانضمام إليها، مخايلة إياها بالبريق المخادع الذي يزين تاجها. وتكاد الغواية تودي بالإسكندرية التي لا تقبض من تخييلات الغريمة الساحرة إلا على خصلة ذهبية. وعندما ينقذها الحبيب من الغرق، ويردها إلى الشاطئ الذي تتأبى عليه، تظل ممدودة كالنداء إلى الضفة الأخرى، مشدودة كالوتر الذي يمزقها ما بين الطرف الآخر من البحر حيث الآخر المغوي والصحراء حيث ما يحقق الهوية التي لا ينتسب إليها الغريم الذي لا يكف عن مخايلتها بما يفضي بها إلى الدمار. وإذا تركنا دائرة تضاد الأنا/الآخر إلى الدائرة الثالثة من ثنائيات التعارض المتكررة، في قصائد أمل، وصلنا إلى التضاد بين القامع والمقموع في الحاضر الذي يذكر بتجليات التضاد نفسه في الماضي، لكن من المنظور الذي يبقى على علاقات الدائرة الأولى للتضاد ماض متقدم/ حاضر متخلف في موضع الصدارة التي تحدد المجال الدلالي لتضاد القامع/ المقموع. والواقع أن ثنائية القامع/ المقموع هي المحور الرأسي للتعارضات التي تنبسط أفقيا على نحو متعاقب تجسّده الأقنعة والرموز المتتابعة في شعر أمل، تلك التي تسترجع القمع في تجلياته المتنوعة، أو تعرضه في مظاهره المختلفة. وسواء كنا نتحدث عن قصائد من مثل "البكاء بين يدى زرقاء اليمامة" أو "حديث خاص مع أبي موسى الأشعري" أو "من مذكرات المتنبي في مصر" أو "الهجرة إلى الداخل" أو "صلاة"، أو حتى التكرار الملح لدال "الشرطي" و"الجندي" الذي يغتصب الكرسي ويعلن الثورة في الجرنال والجريدة، فإن حضور القمع يبقى طاغيا كحضور القامع في علاقته بالمقموع الذي يسلبه القامع حقه في الوجود الحر المتوثب بحياة الأمل. ومهما تتعدد صور القمع، من حيث تجلياته ومجالاته ووسائطه المتباينة، فإن صور القمع السياسي في علاقتها بالعنف العاري بسلطة الدولة تظل الصور الغالبة على دائرة تضاد المقموع/ القامع، سواء في إلحاحها أو تكرار مغزاها. وأتصور أن التكرار غير بعيد عن التمثيل المجازي في هذه الدائرة، خصوصا من حيث ما يقصد إليه من استفزاز القارئ وإيقاظه من سبات الاستسلام للقامع. ويعني ذلك نقض علاقة القامع/ المقموع بما يقضي على شوكة القامع، ويحرر المقموع من سطوته، ومن ثم يحرر الزمن العربي من هوة سقوطه، كي يعود به إلى "ذلك الزمن الذهبي النبيل" الذي كانت فيه الناس، كالخيل، تتنفس حرية. والفاعل المركزي في ذلك هو صوت الذات المبدعة التي تنقل سرها إلى المتلقين، كي تُعدِّيَ بهم إلى فعل أو انفعال يسهم في تغيير واقعهم. مبدأ حركتها الذي لا يتغير، من وراء الأقنعة والموازيات الرمزية، هو التمرد على الضرورة بكل معانيها، ورفض القمع بكل أشكاله، ومناوشة السلطة بما يقضي على الخوف منها. والعلاقة وثيقة بين هذه الدائرة والدائرة الرابعة والأخيرة التي يتقابل فيها من يقولون "لا" ومن يقولون "نعم". ولا فارق في النظر إلى تضاد هذه الدائرة من منظور تعاقب التاريخ أو المنظور الآني للحاضر، فالمناقلة بين المنظورين متصله، وذات اتجاهين في الوصل بين الخاص والعام، الفردي والجمعي، المعيار الأخلاقي والمعرفي لسلوك الفرد أو فعله الاجتماعي في الواقع والمعيار القوي لحركة الفرد نفسه، ضمن حركة الطليعة التي تسعى إلى أن تنقل معيارها إلى مجموع الأمة في علاقتها بالتاريخ الذي يتراجع. ولافتة قصيدة "الطيور" في علاقات المجال الدلالي لهذه الدائرة، خصوصا من حيث صلتها بقصائد من مثل "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" و"قالت امرأة في المدينة" و"ديسمبر" و"مقابلة خاصة مع ابن نوح". وهي قصائد تنطوي على ما يبرز التضاد الذي يتحول به الرفض السياسي إلى رفض وجودي، ويدفع بالمقموع إلى مواجهة القمع في داخله قبل مواجهته في الخارج الذي يسّيجه العسس. والمغزى المتكرر من التجليات المتنوعة والرموز المتباينة تقوية روح التمرد على كل ما يحول بين الإنسان وحريته في ممارسة الفعل الذي يتحقق به حضوره الخلاّق في الوجود. هكذا، تتقابل "الطيور" كما تتقابل "الخيول". لكن ليس على مستوى الزمن المتعاقب وإنما على مستوى الزمن الآني الذي يجعل من الجناح حياة وردية في الآن نفسه. كلاهما رمز يتحول إلى مرآة من عالمي الحيوان والطير، يرى فيها الناس تناقضاتهم الداخلية في التعامل مع الوجود. الخيول التي كانت تتنفس - كالناس - حرية أصبحت - كالناس - تتنفس استسلاماً وخضوعا. والطيور - كالناس في الحاضر - نوعان: الأول مَرَّت طمأنينة العيش فوق مناسره فانتخت، وبعينيه فارتخت، فلم يعد باق له غير سكينة الذبح في انتظار النهاية. والنوع الثاني تظل أفراده معلقة في السموات، مرشوقة في امتداد السهام المضيئة للشمس: ليس لها أن تحط على الأرض، ليس لها غير أن تتقاذفها فلوات الرياح! هذه الطيور الأخيرة هي الوجه الثاني من الخيول البرية التي كانت تتنفس حرية، مثلما كان يتنفسها الناس في ذلك الزمن الذهبي الجميل: ظهرها لم يوطأ لكي يركب الأمراء، ولم يلن الجسد الحر تحت سياط المروّض، والفم لم يمتثل للجام فيصمت، والساق لم تكن مشكولة فتتأبى عليها الحركة، والأقدام لم يثقلها القيد الذي يمنعها من الانطلاق. وهي التمثيل المجازي للبشر الذين لا بد أن يتمردوا على كل ما يحول بينهم وبين الحضور في الوجود. ولذلك يصل تجاوب الدلالة ما بين "الخيول" و"الطيور" المعنى الوجودي للحرية بمعناها السياسي والاجتماعي والفكري في آن، ويدني بالمفرد والجمع إلى حال من الاتحاد، والخاص والعام إلى علاقة اللزوم، تأكيدا لانفساح مدى الرغبة المنطلقة للكائن في ممارسة حضوره الذي يتمرد على قيوده، لكن في الأفق القوى الذي يردنا إلى ثنائيات الحاضر السالب مقابل الماضي الموجب، والأنا التي تبدو مستسلمة لسكين الذبح مقابل "الآخر" الذي يبدو صورة متجاوبة وقوى القمع في الداخل. وتبدأ المواجهة بأن تستعيد "الطيور" وشبيهها الإنسان العربي المعنى البريّ للخيول، فترفض كل قيد، ولا ترتضي لواحد منها أن يتقاقئ حول الطعام المتاح: رفرِفْ فليس أمامك والبشر المستبيحون والمستباحون: صاحون ليس أمامك غيرُ الفرارْ.. الفرارُ الذي يتجدد.. كلَّ صباح