رغم أنني قرأت للشاعر والأديب المعروف أحمد عبدالمجيد الكواملة كل إصداراته , وكررت قراءة بعضها بحكم قربي الشديد منه . فقد كان رئيساً لنادي الرواد الثقافي لدورتين كنت فيهما أحد أعضاء الهيئة الإدارية , إلا أنني لم أجرب الكتابة في مضامين إصداراته وأنا لست بناقد لأحيط بمكامن تجربته . وفي حين رد عليّ الأستاذ الباحث والأديب والناقد هاني علي الهندي صاحب القراءة النقدية في ديوان الشاعر أحمد الكواملة المشار إليه بأنه لم يحدد كم ديواناً كتب هذا الشاعر في محاولة مني لإيصال تجربة الشاعر للجمهور . إلا أنني أرى في صاحب ديوان أغنيات الحب والغضب ومسرحية الأسد والثيران الثلاثة الشعرية وديوان صعود الجسد ومسرحية حيلة ثعلوب الشعرية وغيرها أنه كتب قصائد عديدة في كل ديوان جسدت مراحل رحلته الإبداعية . فاللغة طواعية كانت تداهمه وهو يقول قصائده فابتعدت الرمزية الخانقة عنها وأتت جليّة واضحة في أغلبها . وأما الصورة في قصائده فهي من فضاءاتنا . والشاعر أحمد الكواملة إبن زكريا الخليل وقاطن مخيم حطين ثاني أكبر مخيمات اللاجئين في الأردن استطاع توظيف الصورة في قصائده التي قال الناقد هاني الهندي إبن القباب المهجرة أيضاً وقاطن مخيم المحطة إقرأوا قصائد ديوانه كثيرا . الشاعر أحمد الكواملة وبدون شك هو أحد الأسماء البارزة في انتفاضة الشعر منذ انتفاضة الشعب الفلسطيني البطل الأولى ولغاية اللحظة في انتفاضته الجديدة المستعرة . ولكن الناقد الدكتور زياد أبولبن لم ينصحني في مهرجان الزرقاء العربي الأول والذي انعقد في وقت سابق وكان الشاعر الكواملة أحد المشاركين فيه بأن أكتب عنوان " شعراء الأردن يفتحون النار على الصهاينة " ودعاني للتركيز على أن الإنتفاضات الفلسطينية أدت لانتفاضة في الشعر . وهو نفس الرأي الذي أجابني به الناقد الهندي فالشعر يواكب ما يحدث في فلسطيننا الحبيبة ولكنه يعجز في تأريخ حجم البطولات التي تحدث كل يوم . أدار الجلسة بروعة أدبية الأديب والقاص محمد عارف مشة إبن سلمة وقاطن مخيم حطين أيضاً مقدماً الناقد والشاعر والأسئلة والإجابات . وعقب الكثير باختزال ثمين فالشاعر الكواملة ترك للقاريء للمتلقي مشاركته في مفرداته من خلال الفراغات التي تجدها في قصائده . وأترككم تتمنعون في قراءة الناقد في ديوان الشاعر ... وتانكم هي : قراءة في ديوان (مزامير يهوه) للشاعر أحمد الكواملة هاني علي الهندي بدايةً أشكرُ نادي الرواد الذي أتاحَ فرصةَ اللقاءِ الجميلِ في هذا المساء الطيّبِ لنبحرَ معاً في رحلة قصيرة بحكمِ الوقتِ المتاحِ عبرَ ديوانِ الشاعرِ الصديقِ أحمد الكواملة، فبعضُ الشعراءِ يمرّونَ ولا نحسُ بهم، وبعضُهم نحس بهم وكأننا نعيشُ بدواخلهم، نحس بوجعهم، بأعصابهم وهي ترتجف شعراً، هؤلاءِ هم الذين يمتازون بالإحساس الذي ينعكسُ على شاعريّتهم، ولعل الشاعرَ أحمد الكواملة من هؤلاء الشعراء. لا أجافي الحقيقة إن قلتُ إنَّ ديوانَ (مزامير يهوه) يحتاج إلى دراسة موسّعة لما يتسمُ به من فنيّاتٍ عاليةٍ في بناء القصيدةِ والإيقاع واللغةِ الشعريّةِ والصورةِ، وما أقدمه اليومَ ما هو إلا نماذجُ مختصَرةٌ في بعض التقنيات الشعريّة. أولاً: التشكيلات البصريّة: التشكيلاتُ البصريّةُ ظاهرةُ فنيّةُ في شعر الحداثةِ تهتمُ بالعلامات غيرِ اللغويةِ كالبياضِ والسوادِ والخطوطِ والطباعةِ وعلاماتِ الترقيمِ وغيرها، لها أثرُها في بنية النصِّ الشعري وفهمِه بحيثُ تشتركُ في عملية تذوق الشعر حاستا السمعِ والبصر مع العقل. 1 العنوان الخارجي: يُعتبر عنوان الغلاف من أهم العناصر النصيّة التي تستدعي المتلقي إلى نار النصوص الداخليّة، وهو عتبةٌ أساسيّةٌ محفّزةٌ لاقتحامهِ والولوجِ فيه للكشف عما في داخل (مزامير يهوه) ليجدَ فيه مزامير وترانيمَ مشرّبةً بالوجع والهم الذاتي والعام، تشترك بعرضِ همومِ وقضايا الوطنِ بلغةٍ عميقةٍ واضحةٍ بعيدةٍ عن الإغراقِ والغموض. في هذه المزاميرِ يتنقّلُ الشاعر بين اليأسِ والأملِ، ومن الأملِ إلى اليأسِ ليعكسَ واقع الأمة العربيّة الحائرةِ فيقول: لا جهاتَ تشي إلى دربٍ عَرَفتَ أين الفِرارُ وأنت ملتَقَمٌ (ص6) ثم يقول في قصيدة أخرى: ويُشْرقُ يا محمدُ من ضيا عينيكَ فجرُ الأرضِ قِنديلُ الفداءْ (ص103) ليعود مرة أخرى إلى حالة اليأس وهكذا، فقد احتوى الديوانُ على اثنتي عشرةَ قصيدةَ تفوحُ في ثناياها حالةُ اليأس كما هو الحال في قصائد ( عتمة، تيه، مطر أسود، ... ) يقابلها ثلاثُ عشرةَ قصيدةً مفعمةً بالتفاؤل والأمل وهي ( مخيم، وشم، غيمة....) وكأن الشاعرَ يعيشُ في دوامةٍ قلقةٍ بين اليأس والأمل. هذه الروحُ القلقةُ الحائرةُ جاءت نتيجةَ تضافرَ العامليْن الذاتي والخارجي لما يجري للشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، وما يصيب الأمة العربيّة من حالة التشظي والضياع. 2 الخطّ الطباعي والبياض والسواد: جاء عنوانُ القصائد بالخط الأسودِ الغامقِ العريضِ، وعلى بُعد سطرين أو ثلاثةِ أسطرٍ جاءت كتلةُ النصِ الشعري بالخط الأسودِ الغامقِ، هذا التلاعب باللون والحيّز المكاني للطباعة لا يخلو من مغزى ودلالةٍ عند الشاعر خاصةً في هذا النص المنحني في شكل انحدار متموج: قلبي تَوزّعه الجهات الأربعُ لا ماءَ لا شَجَراً يُطاولُ راحتيَّ (ص16) فقد بعثر هذه الجملةَ الشعريّةَ القصيرةَ على بياض الصفحةِ في خمسة أسطرِ موزّعةً توزيعاً بصريّاً موحياً بالتيه، وهو عنوانُ القصيدة، فقد ترك قلبهَ وحيداً في السطر الأول، ثم تلاه بجملةِ ( تَوزّعه الجهات الأربعُ) تنحدر قليلاً عن قلبه لتبدأ رحلةُ الضياعِ والتيه، وفي السطر الثالث جملةُ (لا ماءَ) يتمددُ أمامها / فراغُ بياضِ الورقة، وفي السطر الرابع تنحدر جملة ( لا شجراً) من حولها فراغٌ .. فراغ، وفي السطر الخامس تنحدر جملة ( يُطاولُ راحتيَّ) عن جملة ( لا شجرا) ليزدادَ الانحدار. هذا الانحدار المتموّج يُعبِّر عن حالة التوهان التي أراد أن يعبّر عنها الشاعر تتناغمُ مع الحالة النفسيّة في لحظةٍ شعوريّةٍ. ثانياً: اللغة الشعريّة المقصود باللغة الشعرية هو تصادم الألفاظ مع المعاني، هذا التصادم يؤدي إلى تفجير اللغة وانحرافها عن المألوف، وضمن هذا العنوان يندرج المعجم الشعري والحقول الدلاليّة والتناص والظواهر الأسلوبية من تكرار وحذف ومزاوجة ... وغيرها، وبما أن الوقت لا يتسع لدراسة لغة الشاعر فقد اخترتُ أنموذجاً من المعجم الشعري وآخر من الحقول الدلاليّة 1 المعجم الشعري يختلفُ المعجمُ الشعريُّ من شاعر لآخرَ حسب ثقافته ومقدرته على توظيف ما في معجمه بلغة شاعريّة أنيقةٍ بهدف إيصال الفكرة إلى المتلقي بأقصر الطرق، وقد استفاد الكواملة من لغة الشارع ومن تركيبة الألفاظ الشعبيّة مبتعداً عن الألفاظ الوعرة التي تحتاج إلى معجم لتفسيرها، لذلك جاءت ألفاظُه قريبة إلى القلب محمّلة بالدلالة والإيحاءاتِ نحو قوله: السيدةُ البيضاءُ يسيلُ حليبُ أنوثتها يبذرُ دربَ التبّانةِ في طرُقاتِ العِشقِ فيتبعُها نَملُ الشَهواتْ (ص12) هذا المقطع الشعري من قصيدة أجيال استدعى فيها الشاعر أسطورة يونانيّة قديمة مفادها أن الطفلَ هرقل حاول أن يَرضعَ من الآلهة (هيرا) لكنه لم يستطع، فنثرَ الحليبَ من فمه في الفضاء مما شكّل الطريقَ اللبني، أما العربُ فقد سمَّتْه دربَ التبّانة يعرفهُ الفلاح خاصةً في ليالي الحصاد. تفاهم الكواملة مع هذه الأسطورة دون أن يشعرنا بذلك ( وهذا يسجّل له) فقام بتفكيكها وإعادة تركيبها بما يتلاءمُ مع رؤيته الشعريّة، هذه السيدة / الوطنُ / الأمُ يسيلُ حليبُها فيبذر درب التبّانة لينيرَ الدروب أمامَ الأجيالِ القادمة، هذه السيدةُ البيضاءُ/ الأنثى البيضاء صارت بلون الليل حزناً وألماً عندما رأت أن النمل يحث خطاه إلى المنفى. من الألفاظ الشعبيّة التي وردت في الديوان: خابية، قلبي ملعب، زواريب، أولياء الله. 2 الحقول الدلاليّة أما من الحقول الدلاليّةِ فقد لفت انتباهي / المتلقي في هذه المجموعةِ استخدامُ اللونِ الذي يمثلُ عنصراً مهماً من العناصر المعماريّة في بناء القصيدةِ ويحمل دلالةً ذاتَ علاقةٍ بالرؤية الفنيّة مع اتساع الإيحاءات للتأويل. فقد خصّب الكواملة نصوصه بعدد من الألوان هي، الأسودُ و الأبيضُ و الأخضرُ والأصفرُ والأزرقُ والأسمرُ، فقد تكرر الأبيضُ بمشتقاته ( أبيض، البياض، البيضاء) سبعَ مرات والأسودُ أربعَ مراتٍ و الأخضرُ أربعَ مرات، بينما جاء الأسمرُ والأزرقُ والأصفرُ مرةً واحدة، ولو جمعنا اللونينِ الأبيضً والأخضرً بدلالتهما الخصبِ والمحبةِ والسلامِ والصفاءِ لوجدنا غلبة التفاؤل على اليأس في هذه النصوص، كما نلاحظ تعدد الدلالةِ في اللونِ الواحدِ نحو قوله: الولدُ الأسمرُ جنّنهُ المريولُ الأخضرْ نَزَعَ العقلَ و وسْطَ الشارعِ بالقدمينِ فقاهْ ومضى يتبعُ في شبقٍ يتبع أنثاه (ص8) يقع اللونُ الأسمرُ مابين اللونينِ الأبيضِ والأسودِ، تمتاز به بشرةُ الإنسان العربي، وقد جاء في الجملة الشعريّة وصفيّاً يحملُ دلالة العربي الفلسطيني الذي جنّنه المريول الأخضر، واللون الأخضرُ له حضورٌ في موروثنا الشعبي إذ نقول ( دربك خضرا وقدمك خضرا) يحمل دلالةَ الخيرِ والربيعِ والسرورِ، ولكن السؤال الذي يطرحُ نفسَه من هي صاحبةُ المريول الأخضر؟ هل هي أرض فلسطين الخضراء،/ الحبيبة، التي جنّنت الولد الأسمر؟ وفي قصيدة ( قد عرفتَ) يدعو لمواصلة الدفاع عن الوطن فيقول: ها قدْ عرفتَ فلا تحدْ دمُك الآنَ سيفكَ فامتشقه قنبلةْ ويتابع قوله: كنْ قِبلَةَ الإرهابِ وانشرْ ناركَ الخضراءَ في وردِ الريّاح (ص93) أدخل الشاعرُ اللونَ الأخضرَ في سياقٍ بعيد عن معناه المعجمي خالقاً علاقةً لغويةً غريبةً بين النارِ واللونِ الأخضرِ، فمنحَ النارَ صفةَ الربيعِ والخيرِ، ليس هذا فحسب بل طلب نشر هذه النارِ/ الخضراءِ في ورد الرياح، رياح التغيير لينقلها إلى كل الجهات. هناك الكثير الكثير في مزامير يهوه، وهذا هو أحمد الكواملة.