نظمت اليونسكو في غرناطة في الفترة من الثامن الى العاشر من كانون الاول ديسمبر 1993، لقاء عالمياً بين عدد من المفكرين والكتاب والفنانين والعلماء، تحت شعار "السلام وما بعد السلام". المقصود بالسلام هنا هو الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي حول اعلان المبادئ والمعروف سياسياً باسم "غزة - أريحا اولاً"، والذي جرى التوقيع عليه في واشنطن في الثالث عشر من ايلول سبتمبر الماضي. وعلى الرغم من الاختلاف والتباين بين المدارس الفكرية للمشاركين في اللقاء وتقييمهم لهذا الحدث واثاره الراهنة والمستقبلية، فقد كان هناك شبه اجماع على ان الاتفاق الفلسطيني - الاسرائيلي يمثل بداية صعبة وهشة في آن واحد، لفك عقدة الصراع العربي - الاسرائيلي الدفينة. او على الاقل يفتح ثغرة في جدار العنف الدموي بمنطقتي الشرق الاوسط والبحر الابيض المتوسط الاستراتيجيتين نحو ما يمكن ان يسمى بتجربة التعايش السلمي بين العرب والاسرائيليين بعد ما يقرب من نصف قرن من الحروب والصدام اليومي المروع بين الشعب الفلسطيني وقوات الاحتلال الاسرائيلي. من هنا كان السلام الذي يعد به الاتفاق - في مفهوم اليونسكو الذي عبر عنه مديرها فريدريكو مايور يتجاوز اطراف الصراع المباشرين وشعوب المنطقة، الى العالم كله بحضاراته وثقافاته واديانه وواقعه المتغير، ويصبح، بالتالي، من مسؤولية المثقفين والمبدعين في هذا العالم، ان يتحاوروا حول دورهم في تأمين زراعة هذه الشتلة السلامية الصغيرة في التربة الغرقى بالدماء والشكوك والقلق، وتوفير المناخ الثقافي الصحي لها، في الحال والمستقبل. لم يكن لهذا اللقاء الدولي من معنى او مبرر، اذا جرى من دون مشاركة الفلسطينيين وبخاصة العرب عامة، وكذلك الاسرائيليين. واحسب، انه في هذه النقطة، كانت المشكلة، وبالذات من الجانب العربي - الفلسطيني. ذلك ان هناك تيارات عربية - فلسطينية ذات وزن تعارض الاتفاق. وتعتبر انه فعل "ضد" السلام لا "مع" السلام. وحتى بالنسبة لمن رحبوا بالاتفاق، على انه خطوة متواضعة، ولكن لها اهميتها غير المسبوقة في تاريخ الصراع نحو وضع سلامي للصراع، فانه يظل مجرد "كلام على الورق" لم يترجم بعد الى حقائق على الارض، وأن هذه الترجمة تلقى مقاومة متفاوتة، ليس فقط من المستوطنين والليكود وغيرهم من قوى المعارضة الاسرائيلية، ولكن ايضاً، وان بطرق اخرى، من حكومة اسحق رابين التي وقعت على الاتفاق. ولعل هذا ما وضع الذين وجهت اليهم اليونسكو، من العرب والفلسطينيين، الدعوة للمشاركة بلقاء غرناطة، في موقع صعب. وبخاصة ان لكل منهم قيوده ومحاذيره، الذاتية والموضوعية، الوطنية والقومية. لا املك هنا الحق في الحديث عن اسباب ودوافع غيري من الزملاء العرب والفلسطينيين الذين تجاوزوا هذا "الموقف الصعب" وشاركوا في اللقاء. ولهذا اقصر الحديث عن نفسي. كنت دائماً منتمياً الى التيار المصري الوطني بآفاقه العربية القومية، الذي يرفض الحوار، حتى على المستوى الثقافي، مع العدو، وحتى بعد ان أبرمت اتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة الصلح المصرية - الاسرائيلية اللتين عارضتهما منذ اواخر السبعينات، وكنا نرى ان مثل هذا الحوار يندرج في اطار التطبيع بين مصر واسرائيل. وهو ما التزمنا بمقاومته حتى تقوم اسرائيل بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطيني وتعترف بحق هذا الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره واقامة دولته المستقلة، وتجلو عن الارض العربية المحتلة. وأود ان اقرر اني لم اكن مرتاحاً عقلياً لهذا "الموقف المطلق" من الحوار مع العدو. وحاولت اكثر من مرة ان اقنع زملائي بضرورة التمييز بين الحوار السياسي لمؤسسات واحزاب سياسية عربية واسرائيلية وبين الحوار الثقافي بين المفكرين والكتاب والفنانين العرب والاسرائيليين، ولكني لم أوفق. وقد قادنا هذا الموقف المطلق ضد الحوار دون تمييز واعتباره نوعاً من تطبيع العلاقات مع العدو الى مآزق عبثية، نجد فيها انفسنا مشلولين حتى عن مجرد التواصل والحوار مع اشقائنا الفلسطينيين في الارض المحتلة. اضرب مثلاً، تلقيت بوصفي الامين العام للجنة المصرية الوطنية لدعم الانتفاضة التي تكونت في كانون الثاني يناير 1988 من جميع احزاب المعارضة والحزب الحاكم والنقابات المهنية والعمالية والهيئات الثقافية والاجتماعية، دعوة من القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، عن طريق هيئات علنية في الارض المحتلة، لقيام وفد يمثل فاعليات الشعب المصري بزيارة الارض المحتلة وعقد اجتماعات شعبية لدعم الانتفاضة والتعرف على واقعها ومشاكلها. حين طرحت الدعوة للمناقشة على مكتب امانة اللجنة، عارضها بشدة الزملاء الناصريون وبعض، لا كل، الممثلين للتيارات اليسارية والماركسية والاسلامية، وذلك على اساس ان تلبية الدعوة تعني التطبيع مع العدو، حيث انه لا مفر من الحصول على فيزا دخول من السفارة الاسرائيلية، والمرور الى الأراضي المحتلة من خلال بوابات العدو من مطار وطرق ونقاط تفتيش. وهددوا في حالة قبول اللجنة للدعوة حيث وضح من المناقشات ان الأغلبية تتجه الى تلبيتها بالانسحاب من عضوية اللجنة. واضطررنا حتى نحافظ على وحدة اللجنة التي باتت تمثل الوحدة الوطنية في دعم الانتفاضة، ان نعتذر عن قبول الدعوة. تكررت الدعوة، بالحاح، بعد ذلك ثلاث مرات أخرى. وكان الأخوة في الأرض المحتلة يحاولون صياغات مختلفة يمكن ان تكون مقبولة. مثل صياغة وفد من اساتذة الجامعات المصرية في مواجهة قيام سلطات الاحتلال باغلاق الجامعات والمدارس الفلسطينية، او وفد من الكتاب والصحافيين ورجال التلفزيون المصريين من اجل متابعة ميدانية لمعركة الانتفاضة مع القمع الاسرائيلي، او وفد من جمعيات المرأة المصرية. ولكن هذا الموقف المطلق الصمت الذي سجنا انفسنا فيه، منعنا من تلبية نداء الانتفاضة، وكان الأخوة في الداخل لا يفهمون هذا الموقف الشديد الوطنية واللامجدي في الوقت نفسه. وبخاصة ان السلطات الاسرائيلية لم يكن في مقدورها، بسبب علاقات السلام الرسمية بين مصر واسرائيل، ان تمنع المصريين بالذات من الاتصال بالفلسطينيين والتنديد بالاحتلال والقمع الاسرائيليين في الداخل والخارج. تلقيت علاوة على ذلك - بعد انعقاد مؤتمر مدريد - اقتراحاً من المناضل والكاتب الفلسطيني العتيد اميل حبيبي، بأن ينظم في القدس العربية او في نابلس او غزة او القاهرة لقاء بين المفكرين والكتاب المصريين والاسرائيليين على قاعدة حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، واقامة دولته الوطنية المستقلة جنباً الى جنب مع اسرائيل ومشروعية الانتفاضة ضد القمع الاسرائيلي وادانة احتلال الارض العربية. اصطدم هذا الاقتراح بموقف الرفض المطلق الذي تقوقعنا داخله، حتى من بعض من وافق او لم يعترض على خوض تجربة مؤتمر مدريد. كنت على يقين من ان تنفيذ هذا الاقتراح يدعم الشعب الفلسطيني في انتفاضته والمفاوض الفلسطيني سواء في مفاوضات واشنطن او في اوسلو التي كنت على علم ما بمجرياتها. وجاهرت، وقتها، ونحن نعتذر عن الاستجابة لاقتراح أميل حبيبي: ان هذا الموقف المطلق من الحوار مع العدو، كان وما يزال خاطئاً. لذلك انه يعزلنا ليس فقط عن القوى الديموقراطية والسلامية والمعادية للاحتلال النامية في الساحة الاسرائيلية وعن حاجات ومطالب شعبنا الفلسطيني، في الوقت نفسه. وأنه بمجرد الوصول الى اتفاق بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية على مبادئ للتسوية السياسية، فاني اعتبر ان البوابة المغلقة قد انفتحت للحوار مع المفكرين والكتاب والمثقفين الاسرائيليين، حيث يصبح هذا الحوار ضرورة للالتحام العضوي مع الشعب الفلسطيني ومثقفيه في سبيكة واحدة، ازاء اسرائيل، بوجهيها الاحتلالي الذي نرفضه ونقاومه، والسلامي الديموقراطي الذي علينا ان نتفهمه ويتهمنا في موقف مشترك. انطلاقاً من هذه الخلفية، قبلت دعوة اليونسكو للمشاركة في لقاء غرناطة، وولجت بذلك أول تجربة في الحوار المباشر مع المفكرين والكتاب والفنانين والعلماء الاسرائيليين، في ساحة تتميز بحضور مكثف وعالي المستوى من المثقفين الأوروبيين والاميركان والآسيويين. في تقديري، ان التجربة كانت مثيرة وايجابية معاً، ولعل الامانة تحتم علي ان أقرر، اني شعرت بالاسف لعدم قبولنا اجراء مثل هذا الحوار الثقافي، من قبل، حيث كان في قدرتنا - على ما أرجحه بقوة بناء رأي عام ثقافي عربي فلسطيني - يهودي اسرائيلي - عالمي، ضد كل أشكال العنصرية والاحتلال ومصادرة حقوق الشعوب وحقوق الانسان. تحت جلد العود وترسانته العسكرية وعدوانه واحتلاله، هناك ايضاً الانسان المثقف والمبدع والمتفتح على الآخر، الذي يصرخ ويقاوم فكرياً آليات القمع والظلم والقتل وتشريد شعب من أرضه، كان علينا، حتى من وجهة نظر قومية بحتة، ان نفتش عنه ونحاوره ونكون معه جبهة اقليمية دولية، ترشق ليل الفاشية والتعصب والعنصرية والاستبداد بسهام الابداع الفكري والادبي والفني. وتنتزع منه فجر الحرية والتعايش والدولة الفلسطينية. ليس من حقي كمواطن عربي ملتزم بالنضال من اجل حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وتحرير الأرض العربية من الاحتلال الاسرائيلي البشع، ان أساوي، في النظرة والتعامل، بين الجنرال ارييل شارون أو اسحق شامير وبين الشاعر يهودا اميكاي الذي يلعن "الاحتلال والعنف ضد الفلسطيني وحقه في الحياة الحرة، لأنه - ايضاً - يشوه ويعقد حياة الاسرائيلي بانتصاره المزيف". او السيدة بيكي فرستال المستشارة الثقافية بمكتب شمعون بيريز وزير الخارجية، التي تجاهر "بحق الفلسطينيين التاريخي والثقافي في القدسالشرقية"، وهما من المثقفين الاسرائيليين اللذين شاركا في لقاء غرناطة. كانت أحجام المشاركين تكاد تكون متوازنة بين العرب والاسرائيليين وبين الجنسيات الأخرى من اميركية وأوروبية وآسيوية وخاصة من تركيا وايران التي مثلها عالم الاجتماع البارز احسان نراغي مؤلف كتاب "من بلاط الشاه الى سجون الثورة". من العرب، ساهم في الحوار ادونيس والطاهر بن جلون وليلى شهيد وعمر مصالحة وعلي مزجاني وساري نصر وأحمد صالح الصياد وأميل حبيبي وعادل رفعت وبهجت النادي ومحمد سيد احمد وسعاد اميري وعزمي بشارة وكمال بلاطة والمتوكل نزال والياس صنبر ورجا شحاده وداود كتاب وسليم قماري، واخيراً اندريه ازولاي المفكر العربي المغربي اليهودي الديانة، الذي قدم مداخلة رائعة في عمقها وابعادها والتي مزج فيها بين تجربته الانسانية والوطنية والفكرية وبين عروبته الاصيلة ذات البعد اليهودي وبين رؤيته للتسوية السلمية للصراع العربي - الاسرائيلي على اساس الاعتراف المتبادل بشعبين ودولتين على قدم المساواة. لعل من غير المتاح في هذا الحيز التعرض الى كل القضايا التي طرحت من الاطراف الثلاثة، العربية والاسرائيلية والعالمية. ولكن يستطيع المرء باطمئنان القول بأن المناقشات بدأت متحفظة ثم ما لبثت ان غمرتها الصراحة وتوغلت في العمق بين العرب والاسرائيليين، في حين بدا كما لو كانت الاطراف الدولية، على "عكس ما كنت انتظر، نشوى بعواطف مثالية، تتصور أن ما حدث من اتفاق فلسطيني - اسرائيلي، هو غاية المراد من رب العباد من الاسرائيليين ايضاً. ولا يبقى الا ان يساعدهم العالم على التفاعل في اعمال مشتركة مثل انشاء شبكة تلفزيونية فلسطينية - اسرائيلية مشتركة لتلقين الاطفال والشباب من الجهتين "حب السلام والتعايش" كما اقترحت "هيلين ارويلر" عضو مجلس ادارة الجامعة الاوروبية بباريس. باختصار كان هناك نوع من السذاجة الثقافية المفرطة يصبغ تدخلات الاطراف العالمية بصفة عامة، وذلك باستثناء جان دانييل رئيس تحرير ال "نوفيل اوبسرفاتور" وكلود جوليان رئيس التحرير السابق ل "الموند ديبلوماتيك" وارنست جيلنز الاستاذ بجامعة كامبردج. وحين أقول السذاجة الثقافية، اعني اولئك الذين يحصرون الصراع في حدود العقد النفسية، متجاوزين قضايا الهوية الحضارية والقومية لشعب يعتصره القمع والظلم والفقر، السلم لديه يبدأ من الاعتراف بحقه في بناء كيانه ودولته المستقلة على ارضه. وقد فوجئ عدد من الكتاب الوافدين من قارات العالم، بوحدة الرؤية بتموجات مختلفة، حول هذا الموضوع من غالبية الكتاب العرب والاسرائيليين. بيد انه كانت هناك ايضاً خلافات في الرؤية، عربية - اسرائيلية، وحتى عربية - عربية، واسرائيلية - اسرائيلية، حول عدد من الافكار التي طرحت. اذكر منها، على سبيل المثال، هل تتمكن اسرائيل من ان تصبح، على الرغم من تميزها، جزءاً منصهراً بثقافاتها واتجاهاتها من الشرق الاوسط، كما هو الحال بالنسبة لبقية بلدانه العربية وغير العربية وتتجاوز اليهودية كدين مثلما حدث بالنسبة للمسيحية والاسلام ادونيس. ما هو معنى السلام ومضمونه بين اسرائيل القوية المحتلة وبين فلسطين موضوع الاحتلال والتي تولد سلطتها الوطنية بصعوبة من خلال قيود ثقيلة محمد سيد احمد ماذا عن العلاقة بين الانا والآخر وهي تخرج من بؤرة العنف الى ساحة السلام بالنسبة للاسرائيلي والفلسطيني مايكل سيلا هل يمكن تصور تعايش حقيقي دون ان يقدم الاحتلال اعتذاراً عما ارتكبه ضد المحتلين عزمي بشارة قد يكون من السهل ان نكافح ضد عدو محدد. وهذا قد مارسناه جميعاً، ولكن الاصعب ان نكافح من اجل اهداف مشتركة، وهذا ما علينا ان نمارسه. ما هي هذه الاهداف المشتركة داني كارفان الاحتلال الاسرائيلي ارتكب جرائم شاملة وعميقة ضد العرب والفلسطينيين. وهؤلاء خلال مقاومتهم المشروعة قد يكونوا ارتكبوا ايضاً نوعاً من الجرائم مثل قتل طفل او سيدة اسرائيلية. أليس المفتاح الثقافي للسلام هو ان يقوم كل منا بامانة وشجاعة في نقد الذات لطفي الخولي. اريد ان اختم هذا المقال بالقول ان في لقاء غرناطة لم يخسر أحد شيئاً او تنازل عن شيء، لكن كان هناك تفهم اعمق لكل طرف، ما يعتمل من افكار ورؤى في اعماق الطرف الآخر. وذلك في مناخ جديد، ناجم عن قرار تجربة التعايش مع الاخر. ولكنه مناخ ما زال معرضاً لرياح هوجاء، مثل اخلال حكومة رابين بالموعد المحدد بالاتفاق لبدء الانسحاب من غزة واريحا في الثالث عشر من كانون الأول ديسمبر 1993. تعرض لقاء غرناطة لهذا الاخلال. وكان هناك اتفاق على أن الحوار الثقافي يعني ضمن ما يعني، أن يدين المثقفون الاسرائيليون هذا الهروب من الالتزام ويضغطون من اجل التعجيل بالانسحاب، والا فان دوامة العنف سوف تلتهم بارقة السلام الضعيفة التي ماتزال سجينة ورق الاتفاق الذي لم يجف مداده بعد. * مفكر وسياسي مصري