جمعية أسر التوحد تطلق أعمال الملتقى الأول للخدمات المقدمة لذوي التوحد على مستوى الحدود الشمالية    سلمان بن سلطان: نشهد حراكاً يعكس رؤية السعودية لتعزيز القطاعات الواعدة    شركة المياه في ردها على «عكاظ»: تنفيذ المشاريع بناء على خطط إستراتيجية وزمنية    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع    "موسم الرياض" يعلن عن النزالات الكبرى ضمن "UFC"    رينارد يواجه الإعلام.. والدوسري يقود الأخضر أمام اليمن    وزير داخلية الكويت يطلع على أحدث تقنيات مركز عمليات 911 بالرياض    عمان تواجه قطر.. والإمارات تصطدم بالكويت    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان    الجيلي يحتفي بقدوم محمد    جسر النعمان في خميس مشيط بلا وسائل سلامة    تيسير النجار تروي حكاية نجع في «بثينة»    الصقارة.. من الهواية إلى التجارة    زينة.. أول ممثلة مصرية تشارك في إنتاج تركي !    "الصحي السعودي" يعتمد حوكمة البيانات الصحية    مستشفى إيراني يصيب 9 أشخاص بالعمى في يوم واحد    5 طرق لحماية أجسامنا من غزو البلاستيك    الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    26 مستوطنة إسرائيلية جديدة في عام 2024    استدامة الحياة الفطرية    قدرات عالية وخدمات إنسانية ناصعة.. "الداخلية".. أمن وارف وأعلى مؤشر ثقة    إعداد خريجي الثانوية للمرحلة الجامعية    "فُلك البحرية " تبني 5600 حاوية بحرية مزود بتقنية GPS    محمد بن سلمان... القائد الملهم    البرازيلي «فونسيكا» يتوج بلقب بطولة الجيل القادم للتنس 2024    برنامج الابتعاث يطور (صقور المستقبل).. 7 مواهب سعودية تبدأ رحلة الاحتراف الخارجي    العقيدي: فقدنا التركيز أمام البحرين    قطار الرياض.. قصة نجاح لا تزال تُروى    تعاون بين الصناعة وجامعة طيبة لتأسيس مصانع    5.5% تناقص عدد المسجلين بنظام الخدمة المدنية    وتقاعدت قائدة التعليم في أملج.. نوال سنيور    «بعثرة النفايات» تهدد طفلة بريطانية بالسجن    رشا مسعود.. طموح وصل القمة    فريق علمي لدراسة مشكلة البسر بالتمور    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    غارات الاحتلال تقتل وتصيب العشرات بقطاع غزة    تنمية مهارات الكتابه الابداعية لدى الطلاب    منصة لاستكشاف الرؤى الإبداعية.. «فنون العلا».. إبداعات محلية وعالمية    محافظ جدة يطلع على برامج "قمم الشبابية"    تشريعات وغرامات حمايةً وانتصاراً للغة العربية    سيكلوجية السماح    عبد المطلب    زاروا معرض ومتحف السيرة النبوية.. ضيوف «برنامج خادم الحرمين» يشكرون القيادة    آبل تطور جرس باب بتقنية تعرف الوجه    هجوم ألمانيا.. مشهد بشع وسقوط أبشع!    استراتيجية الردع الوقائي    التشريعات المناسبة توفر للجميع خيارات أفضل في الحياة    تجويد خدمات "المنافذ الحدودية" في الشرقية    خادم الحرمين يرعى منتدى الرياض الدولي الإنساني    سعود بن بندر يلتقي مجلس «خيرية عنك»    ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة يصلون مكة ويؤدون مناسك العمرة    القبض على شخص بمنطقة الحدود الشمالية لترويجه «الأمفيتامين»    كافي مخمل الشريك الأدبي يستضيف الإعلامي المهاب في الأمسية الأدبية بعنوان 'دور الإعلام بين المهنية والهواية    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    تجمع القصيم الصحي يعلن تمديد عمل عيادات الأسنان في الفترة المسائية    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    ولادة المها العربي ال15 في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"يوم الأرض" ... يوم الانسان الذي يعطي الأرض قيمة انسانية . وحدة الشعب الفلسطيني قوة تفوق قوة السلاح
نشر في الحياة يوم 30 - 04 - 2001

انه "يوم الأرض"، لكنه أيضاً يوم الإنسان الذي يعطي الأرض قيمة انسانية.
عندما كان محمد الدرة يحضن والده في زاوية ذلك الشارع من الأرض الفلسطينية حيث فاجأهما رصاص العدو، قال الطفل، مهدّئاً من روع والده، كما أفاد الوالد لاحقاً:
"لا تخف يا أبي!"
لم يكن مستغرباً قوله، فالصغار أكثر شجاعة من الكبار. ولو ان استشهاد محمد الدرة تأخر أياماً، الى حين اتخذت الانتفاضة المسار الذي صارت اليه، لكنّا رأيناه ينزل الى الشارع، أسوة بأترابه، يواجه دبابات المحتلين بالحجارة، كما فعل جيل سابق من الأطفال.
منذ قرابة القرن والفلسطينيون يقاومون المشروع الصهيوني دفاعاً عن أرضهم، عن وطنهم، بشتى الأساليب. وكلما ترهّل جيل طلع آخر أكثر حماسة. وعندما تسنى للجيش الإسرائيلي اجتياح لبنان العام 1982، وتشتيت المقاومة الفلسطينية في الخارج، ظن العدو انه حسم الأمر لصالح استقرار الكيان الصهيوني، ففوجئ بالمقاومة الفلسطينية تنفجر في الداخل. ولعل الشاعر بابلو نيرودا عندما تحدث عن العين التي، إذ يفقأها المخرز، ينبت لها ظفر وناب، انما كان يقصد الأكثر هذه العين الفلسطينية التي لم تفتأ تستولد اجيالاً من الأنياب والأظافر.
في مذكرات الجنرال الصهيوني موشي دايان، انه، غداة انتصاره العام 1967، كان يتجول في سيارته المكشوفة، فالتقت عيناه بعيني فلاح فلسطيني عجوز، فكتب في مذكراته: "لقد هزمتين نظرتُه المطمئنة". وكأن الفلاح العجوز كان يقول له: ان هذه الأرض شهدت الكثير من الغزاة، وكلّهم اضطر لاحقاً الى الرحيل.
كانت "انتفاضة اطفال الحجارة" العام 1987 شكلاً جديداً في تاريخ المقاومة الفلسطينية، وفي تاريخ كل مقاومة: طوال ست سنوات ولم يكفّ الأطفال عن رشق جنود الاحتلال بالحجارة، على رغم استشهاد المئات الذين كان يقابل العدو حجارتهم بالرصاص.
ظلت الانتفاضة تهز الكيان الإسرائيلي كل يوم طوال ست سنوات حتى لجمتها القيادة التاريخية للثورة الفلسطينية بعد توقيع اتفاق أوسلو مع العدو الصهيوني العام 1993.
لا يمكن الكلام عن مصير الانتفاضة الراهنة من دون الكلام عن مصير الانتفاضة السابقة، طالما ان القيادة التي تحكمت بالأولى هي التي تتحكم بالثانية، على رغم اختلاف الظروف.
لدى توقيع "اتفاق أوسلو" وصفه عاموس عوز، كبير ادباء الكيان الإسرائيلي، بأنه "ثاني أكبر نصر في تاريخ الصهيونية"، بعد قيام الدولة العبرية طبعاً، وفي الوقت نفسه كان محمود درويش ، كبير الشعراء الفلسطينيين، يدعو المثقفين الفلسطينيين والعرب الى تأييد الاتفاق باعتباره نصراً فلسطينياً. ولأن أي نصر صهيوني يُفترض ان يكون على حساب الشعب الفلسطيني، تساءل البعض آنذاك: أيهما الخادع وأيهما المخدوع؟ لم يعد الجواب خافياً اليوم على أحد، كما لم يكن خافياً على بعضنا منذ البداية، فالطرف الإسرائيلي الخادع الذي استعجل الاتفاق ليقطع الطريق على آخر تضامن عربي في مفاوضات الحل السلمي في مدريد، هو الذي اسقط الاتفاق بعد ان حقق منه أهدافه، وأهمّها: تمزيق "الميثاق الوطني الفلسطيني" والاعتراف بشرعية الاحتلال، ورفع الحظر عن الصلح الأردني - الإسرائيلي، وتسهيل "الهرولة" العربية الى الاحضان الإسرائيلية، واضعاف الموقف التفاوضي العربي المطالب بتطبيق قرارات الشرعية الدولية، ومن ثمّ التفرغ، بعد لجم الانتفاضة، الى التنكيل بالمقاومة اللبنانية في الجنوب المحتل. وكل ذلك مقابل وعد باستمرار التفاوض على "دويلة فلسطينية"، وعد، مجرد وعد من كيان لم يلتزم أبداً بوعوده، ولا بأي من القرارات الدولية المُلزمة.
كان "اتفاق أوسلو" لنا صدمة تفوق صدمة "اتفاق كامب ديفيد" الذي من اجله اتهمنا الرئيس المصري بالخيانة، علماً انه استعاد بواسطة الاتفاق كامل الأراضي المصرية. وقد لا تكون ثمة مغالاة في اعتبار "اتفاق أوسلو" اهانة لنضال الشعب الفلسطيني وشهدائه، وأىضاً للأمة العربية بأسرها لولا ان الجرح لا يؤلم ميّتاً.
إذا صح ما اتصفت به القيادة الفلسطينية من شطارة سياسية، علماً ان نتائج هذه الشطارة كانت كارثية طوال ثلاثة عقود، فإنها، في اتفاق أوسلو، تكون بلغت أدنى درجاتها، بتفويتها اللحظة الاستثنائية في تاريخ العلاقة بين الولايات المتحدة وحليفتها الدولة العبرية، عندما قررت أميركا تغليب مصالحها في المنطقة على مصالح إسرائيل، للمرة الأولى، من دون التخلي عن حمايتها، وكانت قادرة وجدّية، في تلك اللحظة الاستثنائية من تاريخ العالم، عندما تحولت أميركا الى أول امبراطورية كونية في العصور الحديثة، وهو الحلم الذي نغّصه السوفيات على ترومان، في نهاية الحرب العالمية الثانية، طوال نصف قرن، كانت فيه أميركا ترفض كل مبادرات الاتحاد السوفياتي لعقد مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط منذ العام 1968. لذلك كان أول قرار اتخذه الامبراطور الأول، جورج بوش، العام 1991، بعد هيمنته على السياسة الدولية، دعوة طرفي النزاع في الشرق الأوسط، المنطقة الأكثر حساسية للمصالح العالمية، وتحديداً للمصلحة الأميركية، لتسوية نهائية، استعداداً للمشاريع الجديدة، من دون خشية من المنافسة السوفياتية على مغانم السلام، ولم يكن ينقصه لتحقيق ذلك سوى رفع التغطية الأميركية عن تمرد اسرائيل على تطبيق قرارات الشرعية الدولية، التي كان قبل بها العرب، خصوصاً وانه كان دشّن "نظامه العالمي الجديد" بحرب جرّ العالم كله وراء أميركا ضد العراق المتمرد على الشرعية الدولية.
واذا كانت إسرائيل انجرّت، على كرهٍ منها، الى مفاوضات مدريد بالشرط الأميركي، فلأنها كانت في حاجة لكسب الوقت، كما أفاد لاحقاً اسحق شامير، رئيس أول وفد اسرائيلي الى المؤتمر.
كان الوقت ضرورياً لإسرائيل بانتظار عودة النفوذ الصهيوني الى "البيت الأبيض"، بعد زوال نشوة تأسيس الأمبراطورية الكونية. وكان الوقت ضرورياً أيضاً بانتظار ايجاد حلّ لمأزق الانتفاضة الفلسطينية التي كانت لا تزال مستمرة وقد اشتدت خطورتها، بعد استشهاد أبو جهاد الوزير، وتولي قيادتها الحركات الاسلامية التي كانت تتنافس ايران والمملكة العربية السعودية معاً على دعمها.
واذا شامير استطاع كسب الوقت فإن شمعون بيريز استطاع كسب المعركة، عبر دغدغة الأنانية السلطوية لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية، الذي كادت ان تفلت منه الانتفاضة، ظناً انه، بالتفافه على مفاوضات مدريد، سيكسب من عدوّه ما يخسره، اشقاؤه.
كان بامكاننا تبرير الاتفاق لو ان الرئيس الفلسطيني استطاع حقاً ان ينتزع من عدوه اكثر من الحد الأدنى، المفترح أميركياً والمقبول عربياً، بل كان بامكاننا تبريره، أيضاً لو انه استطاع ان ينتزع هذا الحد الأدنى لنفسه فقط، من دون اشقائه الذين ضحوا بأبنائهم وخسروا أراضيهم دفاعاً عن القضية.
لكن كيف كان يمكن تبرير تلك الشطارة التي كل انجازاتها، بعد لجم الانتفاضة، تحويل الشعار الأميركي "الأرض مقابل السلام" الى الشعار الإسرائيلي "الأمن مقابل السلام"، وتحرير الادارة الأميركية من التزامها بما سمته "السلام العادل والشامل"؟
قد تكون التسمية الأميركية فضفاضة على واقع الحال، لأن "السلام العادل والشامل" يقتضي، بعد اعادة الأراضي المحتلة، اعتذار الإسرائيليين عن تورطهم في آثام آبائهم، وتقديم تعويضات معنوية ومادية بحجم الأذى الذي ألحقوه بضحاياهم، ومن ثمّ التعايش، بعد عودة اللاجئين طبعاً، في دولة فلسطينية واحدة يتمثل في حكومتها الجميع. أو في حال عدم الرغبة بالتعايش، السماح "بحكم ذاتي" للإسرائيليين، ضمن الدولة الفلسطينية، بضمانة عربية ودولية.
أما وقد تخطت الشرعية الدولية هذه الشروط منذ الاعتراف بالدولة العبرية قبل نصف قرن، فإن تطبيق القرارات الدولية اللاحقة كان مكسباً عربياً في ظل اختلال موازين القوى، وفي اطار شرعية منحازة أصلاً، هذا اذا كانت الراعية الأميركية، كانت جادة في تطبيقها آنذاك، وفي اعتقادي انما كانت كذلك. وفي حال لم تكن فإن انتظار التحقق من ذلك ما كان ليزيد شروط أوسلو سوءاً، هذا اذا اعتبرنا ان ثمة حسنة وحيدة في ذلك الاتفاق، كما يقول فيصل الحسيني، وهي عودة الفصيل الفتحاوي الى الأراضي المحتلة، لولا ان توظيف العودة كان لصالح الإسرائيليين وليس لصالح الفلسطينيين: ثم نقل الفصيل الفتحاوي، وهو أكبر فصائل المقاومة الفلسطينية، من الخارج، حيث كان يشكل عبئاً ضاغطاً على الأنظمة العربية، الى داخل الأسوار الفلسطينية، ليقوم بمهمة "جيش رديف" للجيش الإسرائيلي في حماية أمن إسرائيل وأمن مستوطناتها. ولو لم يكن الأمر كذلك، بل كان كما يقول فيصل الحسيني "حصان طروادة"، لنزل الجنود الفلسطينيون من "بطن الحصان" في الوقت المناسب، أي لدى أول تراجع إسرائيلي عن وعود الاتفاق، فينضم الى المعارضة الفلسطينية، لحماية الاتفاق نفسه، بدلاً من الاستمرار في التنسيق الأمني مع الأجهزة الإسرائيلية لتدمير ما تبقى من كوادر المعارضة الفلسطينية، اغتيالاً أو اعتقالاً، ما سمح بانتتشار المستوطنات الموعودة، حيث أصبح الشعب الفلسطيني محاصراً بين مطرقة الجيش الإسرائيلي وسندان المستوطنين، كما يحصل اليوم. والمؤلم ان هذا المأخذ على السلطة الفلسطينية لم يصدر عن المعارضة الفلسطينية، بل عن اسرائيليين صدّقوا "سلام الشجعان" فاستغربوا تخاذل السلطة الفلسطينية عن القيام بواجبها في حماية الاتفاق.
أما نحن فلم نستغرب الأمر منذ ان اتخذت القيادة الفلسطينية خيارها بتفضيل الشراكة الاسرائيلية على الشراكة العربية في تقرير مصير شعبها، واضعةً كل أوراقها التفاوضية في يد عدوها بحيث اذا جازفت بسحبها فهي تجازف أيضاً بسحب كرسي السلطة من تحتها، التي لم أكن أبالغ، في تعليقي الفوري على اتفاق أوسلو بأنها "من كرتون، ملطخة بدم الاطفال".
واليوم، اذ تعود السلطة الفلسطينية، تحت ضغط الأمر الواقع الإسرائيلي، الى المطالبة بمرجعية مدريد، وربط المسار الفلسطيني بالمسارين السوري واللبناني، وهو اعتراف غير مباشر بالخطأ التاريخي الذي ارتكبته في أوسلو، فمن يضمن جدية السلطة في هذا الأمر، فلا تساوم على الانتفاضة، لدى أول فرصة سانحة، في سبيل اتفاق شبيه باتفاق أوسلو، يسمح باستمرار هذه السلطة الوهمية على الدويلة الفلسطينية الوهمية؟ خصوصاً وأن الانتفاضة لم تكن من عمل السلطة التي، اذ تبنتها، بعد ان بلغ الاستهتار الصهيوني، بالمفاوض الفلسطيني الأبدي حدّة الأقصى في الجامع الأقصى، فلأنما لو لم تفعل ذلك لكانت الانتفاضة تحولت ضدها.
الحق ان الوعي بضرورة الانتفاضة وُلد خارج السلطة، عندما انتفض طلاب جامعة بيرزيت ضد رئيس وزراء فرنسا لدى اتهامه "حزب الله" بالارهاب. كان الطلاب الفلسطينيون آنذاك لا ينتصرون فقط ل"حزب الله" بل كانوا يدينون السلطة الفلسطينية ونهجها المناقض لنهج "حزب الله". ويذكر ان المقاومة اللبنانية كانت ترفض كل أغراء بالتفاوض، حتى انها رفضت هدنة ستة أشهر فقط طلبها العدو الصهيوني مقابل الانسحاب الكامل، لأنها كانت تعرف ان الوعود الصهيونية مناورات لكسب الوقت، وان الهدنة كانت ستكلفها لاحقاً تضحيات مضاعفة.
كان نهج المقاومة اللبنانية يربك السلطة الفلسطينية التي جهدت، خشية انتقال عدوى ذلك النهج الى داخل حدودها، في التهوين من انجازات المقاومة اللبنانية حتى بعد تحرير الجنوب، علماً انها للمرة الأولى يضطر الجيش الإسرائيلي الى الانسحاب من ارض عربية من دون شروط، منذ بدء الصراع العربي- الصهيوني.
عندما انفجرت الانتفاضة الفلسطينية أخيراً وصُدعت بها السلطة فتبنتها، كنا نظن انها لن تتراجع عن مطالبها، التي هي مطالب السلطة أيضاً، مهما بلغت التضحيات، ومهما عنفت شراسة العدو، لأن أي تراجع يعني خنق آخر أنفاس الحماسة الثورية لهذا الجيل، وهدراً رخيصاً للدم الذي أريق، وتنفيساً للاحتقان الذي تراكم. وكان يبدو ان السلطة الفلسطينية استعادت صلابة ايامها الثورية الأولى عبر تصريحاتها العلنية، وازددنا ثقة بموقفها الشجاع عندما اشترطت، تلبية لنداء الرئيس الأميركي بلقاء سفاح الانتفاضة في شرم الشيخ، اشترطت سحب الجيش الإسرائيلي من الحي العربي الذي اقتحمه، لكنها سرعان ما تراجعت عن هذا الشرط، بل ذهبت أبعد من ذلك عندما حاولت، والدم الفلسطيني يملأ الشوارع، اعادة اعتقال المعارضين الفلسطينيين الذين كانت الانتفاضة حررتهم من سجون السلطة.
هل نلوم الشارع العربي بعد ذلك، الذي كان انتفض من أقصى الأرض العربية الى أقصاها مع المنتفضين الفلسطينيين، ان تفتر حماسته، وقد أدرك استحالة المراهنة على الانتفاضة في ظل القيادة الراهنة؟ بعض المثقفين الفلسطينيين، مثل هشام شرابي وادوار سعيد وغيرهما، طالب بتنحي القائد الذي يتصرف كأن سلطته هي الغاية.
ومع موافقتي بأن القائد التاريخي للثورة الفلسطينية فقد رمزه الثور، لكنه كان أصبح لعامة الشعب الفلسطيني رمزاً أبوياً، ونحن نعرف حاجة الشعوب الشرقية الى أب، والتسامح معه، على رغم ان التاريخ يحفل باخطاء الآباء التي يدفع ثمنها الابناء. عدا انه هو وحده اليوم القادر على حفظ وحدة الصف الوطني الفلسطيني التي تجلت في الانتفاضة. ويذكر ان أشدّ التيارات الفلسطينية تطرفاً في معارضته لم يرفع السلاح في وجهه أبداً، على رغم اضطهاد ناشطيه على يديه طوال سنوات أوسلو. ولأن وحدة الشعب الفلسطيني هي قوة تفوق قوة السلاح، ولأن الفلسطينيين اذا كانوا اختلفوا حول أسلوب التحرير، أو حول الهدف النهائي من المقاومة، فإنهم يُجمعون اليوم على الهدف المرحلي، فإن المطلوب هو تغيير النهج القيادي، وليس تغيير القائد التاريخي، وجعل الانتفاضة هي المرجعية السياسية، شرط احاطته بفريق قيادي شاب من الصف الثاني الذي عاش الانتفاضة الأولى ومن أنقياء الحرس القديم ممن لم يتلوثوا بتهمة الفساد.
والفساد ليس عاملاً ثانوياً في مسيرة الانتفاضة، فالدول العربية، التي اضطرت للتبرع تحت ضغط الشارع العربي، تعلّلت، لعدم ارسال التبرعات، بفساد السلطة، مما يحرم الانتفاضة من عنصر حيوي في صمودها. ولعل جو الفساد هو الذي شجع بعض الفلسطينيين على التعاون مع أجهزة الأمن الإسرائيلية في اغتيال بعض قادة الانتفاضة، مقابل أجر، وكانوا يفعلون ذلك، في زمن أوسلو، من دون أجر. ان صدقية ثورية لفريق قيادي جديد، يتمثل فيه الجميع، ملتزم بروح الانتفاضة، وقادر على إلزام القائد التاريخي بها، ستجعل الشعب أكثر اطمئناناً الى تضحياته، والعدو أكثر قلقاً على مستقبله، والشارع العربي أعظم ثقة بالانتفاضة، فيستعيد حماسته الأولى للضغط على أنظمته التي صارت تتهيب الشارع وتعرف ان قدراتها على القمع لن تكون أفضل من قدرة النظام الشاهاني، المدعوم بالقوة الأميركية، الذي انهار لافتقاده الشرعية الشعبية. عدا ان الأنظمة العربية التي جازفت بشرعيتها الشعبية في الاستسلام للشروط الإسرائيلية، معتمدة على الدعم الأميركي، هي اليوم الأكثر احباطاً، بسبب السياسة الأميركية، والأشد خوفاً من العنصرية الصهيونية التي كلما ازداد الاستضعاف إزاءها ازدادت غطرسة. وفي اعتقادي ان هذا الخوف الجامع للعرب ازاء هيمنة إسرائيلية تحاول ان تجعل العالم العربي "مداها الحيوي"، هو الذي جعل مصطلح "التضامن العربي" قيد التداول الرسمي، بعد ان كان مطلباً شعبياً، ويكاد يكون الرئيس اللبناني الحالي هو الناطق الرسمي باسم "التضامن العربي"، لقناعة عزّزتها تجارب الآخرين وخصوصاً تجربة السلطة الفلسطينية. ان مرجعية مدريد، اذا كانت بقيت حية، نظرياً، بفضل صمود الموقف السوري وبطولة المقاومة اللبنانية، إلا انها ماتت عملياً مع زوال الظرف الذي جعل اميركا ترعاها.
ولإحياء مرجعية مدريد لا يكتفي مطالبة الراعي الأميركي بها، بل يجب خلق الظرف الموازي للظرف الذي أوجدها، وهكذا يتوقف اليوم على مدى صدقية التضامن العربي في دعم الانتفاضة، وهذا الدعم يتوقف على صدقية السلطة الفلسطينية في دعم انتفاضتها الراهنة التي يجب ان تكون المرجعية الأولى للسياسة العربية، في تغيير قواعد هذه "اللعبة الدموية". للصالح العربي. فهل تكون الانتفاضة الفلسطينية أيضاً المرجعية الثقافية الأولى؟ ان الانتفاضة هي اليوم كذلك للمثقفين العقائديين، ولا اظنها كذلك للمثقفين الليبراليين، المشغولين بمواجهة "التخلف" و"التطرف" العربيين، عن المشروع الصهيوني الذي، ان لم يكن انتجهما فهو الذي عززهما، علماً ان الانتفاضة الفلسطينية ليست فقط حركة تحرير وطني تصب في حركة التحرر القومي، بل هي أيضاً، في مواجهتها لأخطر عنصرية معاصرة، تصب في حركة التحرر الانساني.
وتزداد أهمية مواجهة هذه العنصرية، التي سبق ان أدانتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في شبه اجماع باستثناء أميركا في ظل "النظام العالمي السابق"، في زمن محاولة تغليب مبدأ "القوة للحق" على مبدأ "الحق للقوة"، عندما نعلم ان أميركا، بعد هيمنتها على السياسة الدولية، استطاعت ان تصدر قراراً عن المنظمة العالمية يلغي القرار السابق، على رغم ان ممارسات إسرائيل العنصرية لم تتوقف بل ازدادت شراسة، وهذا ما يجعلها تتغلغل في نسيج "النظام العالمي الجديد"، مغذية كل انواع العنصرية، أثنية أو دينية أو حتى مذهبية، برعاية أميركية لا رادع لها.
ولا تتناقض استراتيجية الصهيونية مع استراتيجية الأمبراطورية الكونية، الحاملة شعار "العولمة"، لأن حروب التفتيت من تحت تخدم هيمنة التوحيد من فوق، طالما ان الطاقة الاستهلاكية العالمية، التي لاقتصاد أميركا حصته الكبرى منها، لا تتأثر. بل ان الأمبراطورية الكونية، انسجاماً مع استراتيجية الصهيونية، استصدرت من "كونغرسها" قراراً يسمح لها بالتدخل العسكري لدعم أي اقلية تطالب بالانفصال عن دولتها القومية لأي سبب، أو باختراع السبب اذا وافق مصالحها. هذا التحالف الجهنمي بين استراتيجيتين كان أول من نبه اليه كارل ماركس ذو الأصول اليهودية الذي كتب في "المسألة اليهودية" يقول: "ان السيادة اليهودية الفعلية على الغرب المسيحي اتخذت في اميركا الشمالية تعبيرها الطبيعي".
فإذا صح هذا القول قبل قرن ونصف القرن، فكيف اليوم وقد أصبحت أميركا الشمالية امبراطورية كونية؟ هنا أهمية الانتفاضة الفلسطينية، التي، وقد لا يكون بوعي منها، تسلط الضوء بدمها على خطورة هذه العنصرية المدعومة أميركياً، فتساهم في خدمة العدالة الانسانية ليس لمصلحة الشعب الفلسطيني فقط، بل أيضاً لمصلحة كل الشعوب، بما في ذلك الشعب اليهودي نفسه، الذي كانت نخبته طوال التاريخ السابق للمشروع الصهيوني، تشارك في كل الثورات الأممية المنادية "بالاخاء والحرية والمساواة"، لتطمس بذور هذه العنصرية المتمثلة في العقيدة اليهودية التي تختلف عن كل العقائد الدينية بانغلاقها على الآخر.
ولعل النخبة الصهيونية التي استغلت العقيدة اليهودية لمآرب سياسية ومادية، أكثر منها دينية أو قومية، هي اليوم أسيرة هذه العنصرية التي اطلقتها، والمتجسدة أفضل تجسيد في اسرائيل التي يصفها نعوم تشومسكي، بأنها "ثاني اكبر دولة ارهابية في العالم، بعد اميركا مباشرة".
ان المثقف العربي، الليبرالي بتركيزه على هذا الهدف الأشمل الذي تجسده الانتفاضة، يستطيع، اذا كانت "العولمة" اضعفت شعوره، الوطني أو القومي، ان يمارس انسانيته التي لا تقدّم ثقافياً خارجها، فيخلق تعاطفاً مماثلاً لدى المثقف الغربي الشديد الحساسية للعنصرية بعامة، وقد عاش أهوالها وشارك في مواجهتها بالسلاح، لدعم الانتفاضة الفلسطينية كمرجعية ثقافية تعني الانسانية كلها.
فإلى اي حد نستطيع نحن كمثقفين ليبراليين عرب، ان نقوم بهذا الدور متجاوزين كل احباطاتنا، واختلافات توجهاتنا، مصححين أولويات مواجهاتنا، معتمدين الانتفاضة كمرجعيتنا الثقافية الانسانية، الأولى؟
* كاتب وناقد لبناني، والمقال محاضرة ألقاها في "النادي الثقافي العربي" في بيروت، بدعوة من "المنتدى العربي"، لمناسبة "يوم الأرض".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.