بدأت حكاية سمير حصني هواية صبا في طرابلسلبنان ثم نقلها معه الى بيروت، مع تخصصه في الاعلام، زادها تطوراً. ومع انتقاله للدراسة العليا في اميركا اصبحت الهواية مهنة، حملته الى ان يكون خبيرها في شؤون المجلات، ومؤرخاً في الصحافة الاميركية. "الوسط" التقته، وتابعت رحلة قصته من لبنان الى الميسيسيبي. لو لم يتصل الدكتور احمد مكي عميد معهد الاعلام بالطالب سمير عفيف حصني مستفسراً عن سبب رفضه المنحة، لكان سمير حصني بقي محرراً في مجلة، ومخرجاً فنياً لجريدة، ولما درى أن منحة باسمه جاءته من اميركا لتفتح امامه فرصة عمر غيّرت مجرى حياته من هاوي صحافة الى رئيس قسم الصحافة في جامعة ميسيسيبي. مكتبه في الجامعة كرنفال مجلات، ورنين هاتفه لا ينقطع. وهو بين هذا وتلك، سعيد بأن يتسلل الى الماضي، يستعيد تلك الأيام الخوالي في لبنان. - دروسي الابتدائية والثانوية لدى مدرسة الاميركان في طرابلس المدرسة الانجيلية في ما بعد. انتقلت بعدها الى كلية الاعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية. كان ذلك غريباً على عائلة تنتظرني طبيباً. سوى انني اتبعت هوايتي، ولا ادري حتى اليوم لماذا جاءتني تلك الرغبة فبدأت اجمع المجلات. كيف تكوّنت هذه الهواية؟ - كنت في مطلع صباي حين صدرت مجلة "سوبرمان" وأعجبتني فأخذت اجمعها عدداً عدداً. ثم توسّعت رغبتي الى جمع اعداد من مجلات اخرى. وتدريجاً راحت تتجمع لديّ اعداد "الدستور"، "البلاغ"، "الديار"، "ياسمين"، "طبيب العائلة". وحين ازداد شرائي وانفاقي، اخذ ضغط العائلة عليّ يشتد بسبب غرابة هواية ملكت عليّ وقتي ونقودي، مما جعل مصروف جيبي يشحُّ وتضعف قدرتي على شراء المجلات. وكان ذلك نافعاً لأنني اقتصرتُ على شراء العدد الأول من كل مجلة جديدة. وهنا تحددت هوايتي تماماً: جمع الاعداد الأولى. هل كان لك اتصال مباشر بالمجلات؟ - احياناً. مرة اتصلت بأدونيس وكان في "لسان الحال" عند صدور "مواقف". ومرة اخرى اتصلت بغسان كنفاني عند صدور "الهدف" مبدياً رأيي في العدد الأول، وفوجئت في العدد الثاني بنشر "رسالة الى المحرر" موقعة باسمي تثني على المجلة. هل اقتصر تجميعك على الصحافة اللبنانية؟ - لا. جمعت اعداداً أولى عربية وأجنبية كانت تتوافر لديّ في مكتبة انطوان. منها "طبيبك الخاص" المصرية وسواها. وكانت عندي بضعة اعداد من "شعر"، ثم اشتريت المجموعة الكاملة بعد اعادة طبعها. وقبل ان اترك لبنان كان تجمع لديّ نحو 700 مجلة. وهذا ما حملك الى الاختصاص... - تلقائياً. التحقت بكلية الاعلام والتوثيق، وكان بين اساتذتي: الشاعر جوزف صايغ، انيس مسلّم، باسم الجسر، النقيب وفيق الطيبي، باسمة عيد، وليد عوض، والعميدان احمد مكي وحسن صعب. تخرجت طليع دورة 1977، وانصرفت الى عملي الصحافي: محرر ريبورتاجات وأخبار المشاهير ومخرجاً في "المجالس المصورة"، محرر مواضيع علمية في "الكفاح العربي"، ومخرجاً في مجلة "آراب ايكونوميست". لم اكن اعلم ان مؤسسة "أميديست" قدّمت لي منحة للتخصص في اميركا. حتى اتصل بي العميد احمد مكي ذات صباح من 1978 وسألني "لماذا ترفض منحة كهذه"؟ استفسرت منه فاذا على طلب المنحة جواب مني بالرفض، ففهمنا ان ثمة من اراد ان يلغيني من المنحة ليعطيها الى شخص آخر. وأسرع العميد مكي لن انسى له هذا الفضل ما حييت فأبرق الى المؤسسة وجاء الجواب: ضرورة التحاقي بواشنطن فوراً. وفي اقل من اسبوعين، كنت حازماً حقائبي ومتأبطاً عروسي ولم يكن مضى على زواجنا سوى احد عشر شهراً، ومستعداً للرحيل خارج لبنان للمرة الأولى. في واشنطن، قيل لي ان التي قبلتني للتخصص فيها هي جامعة "نورث تكساس". وهكذا كان، وأمضيت فيها ثلاث سنوات 1978 - 1980 لأتخرج منها حاملاً الماجستير في الصحافة على اطروحة بموضوع: "تحليل مضموني لتغطية حرب السنتين في لبنان 1975 - 1976 في الپ"نيويورك تايمز" و"التايمز" اللندنية". "التايمز" محايدة ما الخلاصة التي بلغتها في اطروحتك؟ - وجدتُ "التايمز" اللندنية معتدلة وحيادية في تغطيتها، بينما الپ"نيويورك تايمز" كانت ميالة اكثر الى اليسار اللبناني والحركة الوطنية، ربما بسبب موقع مراسلها في بيروت احسان حجازي. كيف استثمرت هوايتك في اختصاصك؟ - حين جئت الى اميركا حملت معي بعض المجلات. ولم اكن سمعتُ في لبنان ولا حتى في العالم العربي بمن يمارس هوايتي. واذا بي افاجأ هنا ايضاً ان لا زميل لي في هذه الهواية ولا هذا الاختصاص. لذا حين انتقلت الى جامعة ميسوري لأتابع الدكتواره، وعرضت على المشرف ان اضع اطروحتي عن الاعداد الأولى من المجلات الاميركية اسوة بهوايتي في لبنان، استغرب الطرح وأعجبه واعترف بأنه جديد وأن ليس لديه في الجامعة، وربما ليس في جامعات اميركا ملفات ووثائق حول هذا الموضوع. فأخذت اجمع اعداداً أولى لمجلات اميركية ووضعت اطروحة الدكتوراه عام 1983 في موضوع "ظواهر النجاح والفشل لدى المجلات الاميركية الجديدة في الولاياتالمتحدة بين 1979 و1983 "، ونلت عليها درجة ممتاز مع تنويه اللجنة في كلية الصحافة لدى جامعة ميسوري في كولومبيا. ومن هوايتي الى اطروحتي، رحت اواصل جمع الاعداد الأولى من كل مجلة اميركية جديدة تصدر. ما الطريقة الفضلى لحصولك على هذه الاعداد الأولى؟ - انا أمضي ساعات طويلة كل اسبوع في المكتبات باحثاً عن المجلات الجديدة اختصاص هوايتي المجلات لا الصحف. ومع الوقت، تجمعت لديّ صداقات في صفوف رؤساء تحرير باتوا يرشدونني الى الاصدارات الجديدة او يرسلونها اليّ. منهم مثلاً من اشترى العدد الأول من مجلة "لايف" 1936 في مزاد علني وأرسله هدية اليّ. سيدة في نيويورك قرأت عني في "يو.إس.آي.توداي" فأعجبتها هوايتي وأرسلت إليّ الأعداد الثلاثة الأولى من مجلة "نيويورك برايم تايم" النادرة. صديق في فلوريدا ارسل الي العدد الأول من مجلة "سبورت" المصورة 1954. استاذي في ميسوري تقاعد فأهداني الاعداد الأولى من اربعين مجلة صدرت في الثلاثينات والأربعينات. وكنت، قبل ان اجيء الى اميركا، قرأت في لبنان ان مجلة "لايف" ستعود الى الصدور، فترقبتها، وما أتيت الى اميركا حتى صدر العدد الأول من السلسلة الجديدة تشرين الأول/اكتوبر 1978 فاشتريته وما زلت مواظباً على شراء كل عدد منها، حتى بات عندي اليوم نحو 30 مجلة كاملة الاعداد، ونحو 7000 عدد أول من مجلات اميركية مختلفة. كيف تطورت الهواية الى مهنة؟ - بعد نيلي الدكتوراه اتصلت بالعميد حسن صعب ناقلاً اليه الخبر فنصحني بالبقاء في اميركا. عندها بدأت املأ قسائم طلبات العمل في الجامعات. طلبوني الى مقابلة في جامعة دي موين آيوا وكانوا يفاوضون مؤسسة ميريديت ناشرة مجلة "بتر هوم اند غاردن" أي "افضل بيت وحديقة" كي يحصلوا على التمويل لانشاء فرع الصحافة في الجامعة. فوجئ مدير العلاقات العامة في المؤسسة - من خلال المقابلة وملاحظاتي - انني اعرف عن مجلته ومؤسسته اكثر مما يعرف. مرّت فترة، ولم يردني اي رد من المؤسسة ولا من اية جامعة اخرى قدمت اليها طلباً، فأيقنت انني، كلبناني وصحافي، لا مكان لي في بحر الجامعيين والصحافيين الاميركيين على رغم اختصاصي الفريد. اتصلت بالأهل وأعلنت انني وزوجتي عائدان الى لبنان لعدم توافر العمل. وذات صباح، اتصل بي في كولومبيا ميسوري عميد كلية الصحافة في جامعة ميسيسيبي قائلاً ان مؤسسة ميريديت قدّمت للجامعة منحة مالية لانشاء قسم خاص في الكلية للمجلات الجديدة، وأن مدير العلاقات العامة في المؤسسة اقترح ان اكون انا رئيس هذا القسم. وهكذا كان. جئت الى ميسيسيبي وأنشأت برنامجاً جديداً من خدمات الصحافة: الصحافة العملية الوظيفية لا الصحافة الاخبارية يعني كيف تحسن وضعك المعيشي او المهني او الشخصي من خلال قراءة مقال. وماذا عن "دليل سمير حصني"، وهو صار شهيراً في الولاياتالمتحدة اليوم؟ - توظيفاً لهوايتي في جمع الاعداد الأولى، قررت عام 1986 ان اصدر دليلاً سنوياً للمجلات الاميركية الجديدة. مع ثبت بكامل المعلومات عن كل مجلة. فانتشر الدليل بسرعة عجيبة، وأخذ يشتهر عاماً بعد عام هو اليوم في عدده السابع وهو الذي حمل اليّ الصفة الاستشارية الحالية. كيف تختصر هذه الصفة؟ - أنا اليوم عضو في لجنة تحكيم رباعية تجتمع سنوياً في نيويورك لتقويم المجلات الصادرة كل عام، وتوقعات فشلها ونجاحها وأسبابهما. اللجنة مؤلفة من ثلاثة خبراء ومني بصفتي مؤرخاً للصحافة الاميركية. وهذا ما حمل اليّ صداقات ناشري المجلات ورؤساء التحرير في اميركا، يدعونني لالقاء محاضرات في كيفية تحسين اصداراتهم، وأدعوهم ليحاضروا في طلابي. وغالباً ما يرشدونني، لهوايتي ولاثراء دليلي، الى الاعداد الأولى او الاعداد الصفر من كل مجلة جديدة. * * * يرن الهاتف، يعتذر سمير حصني ايضاً وأيضاً، ويجيب. انها زوجته، هذه المرة، لتقول ان العشاء جاهز وأولاده ينتظرونه ليذهبوا الى النوم. في الطريق الى البيت، حدثني سمير عن المدينة الاميركية الصغيرة اكسفورد ذات العشرة آلاف نسمة، والشهيرة بعلامتين: جامعتها التي تأسست عام 1844 وتضم اليوم احد عشر الف طالب، وابنها وليم فولكنر 1897 - 1963 حامل نوبل للآداب عام 1949. في البيت، يهرع اليه اطفاله الثلاثة، ويقدمني الى زوجته ابنة عكار كذلك: ماري مخايل من "الحاكور"، جارة ضيعته "رحبة" حيث ولد عام 1953. وفي البيت، تلال اخرى من صناديق تحوي المجلات: في الصالون، في غرفة الطعام، في غرفة النوم، وحتى في غرف الأولاد وبين ثيابهم وخلف العابهم... يبتسم معلقاً: - أخاف ان يكون مصيري معها كمصير الجاحظ مع الكتب. لا اعرف اين اذهب بها. رئيس تحرير احدى المجلات، سألني اذا كنت اوقع له عقداً باعطائه حصة 10 في المئة من قيمتها عندما سأبيعها، فهو مستعد ان يخزنها في مكان كبير ويصنفها على رفوف ويحفظها. بين تلك المجلات، اعداد تحمل سمير حصني على غلافاتها الأولى او كتب عنه رؤساء تحريرها، وأخرى اجرت معه حوارات وأحاديث، وصحف اخرى منها "نيويورك تايمز" "لوس انجليس تايمز" كتبت عنه مقالات تشيد بهوايته الفريدة وإفادة الصحافة الاميركية منه ومنها. منابر صحافية اميركية كبرى تستشهد بآرائه وتعمل بنصائحه مستفيدة من خبرته، هو الذي قالت عنه احدى الصحف انه "المرجع الوحيد في اميركا لتأريخ الصحافة الاميركية"، وقالت مجلة اخرى: "حين لا يكون واقفاً في مكتبة يبحث عن مجلة جديدة، فهو حتماً جالس يطالع عدداً اول من مجلة جديدة". احمل أوراقي لأنصرف، شاكراً سمير على استضافته، فيجيب عن شكري بسؤال عفوي: - هل يمكن أن أحصل على العدد الأول من "الوسط"؟