عاشت"تايم"... وماتت"نيوزويك". خسرت المجلة الأولى العريقة منافِستَها الشرسة التي استسلمت أمام"طغيان"الإعلام الجديد. المجلتان اللتان غطتا وقائع القرن العشرين بأغلفتهما الجميلة والمثيرة، فرّقهما الموت أخيراً بعد صراع طويل مع"مرض اللهاث على جذب القارئ"استمر نحو ثمانية عقود، وهو"مرض عضال"غالباً ما يصيب المؤسسات الصحافية الكبيرة في الدول الديموقراطية. سئمت"نيوزويك"تكاليف الحياة بعدما عاشت ثمانين حولاً مفعمة بالتألق المهني."مازلت أجهل سرّ بقاء"تايم"على قيد الحياة حتى اليوم"، تقول رئيسة تحرير"نيوزويك"تينا براون 59 سنة بحسرة مع شيء من الغيرة المهنية. لم تستطع الصحافية البريطانية الأصل التي تسلمت منصبها عام 2010، أن تحافظ على المجلة الذائعة الصيت... لتحوّلها موقعاً إلكترونياً افتراضياً يحمل اسم:"نيوزويك غلوبال". وهكذا، ودّعت الأسبوعية الأميركية قراءها بثلاث كلمات تصدّرت غلافها الأخير الصادر في آخر أيام العام المنصرم:"آخر عدد مطبوع"، مع صورة جوية بالأبيض والأسود لمقر المجلة في نيويورك. ولو كان العدد الأخير يحمل رقماً متسلسلاً، لكان حمل الرقم 4150، هي أعداد"نيوزويك"التي صدرت خلال 80 سنة إلا ستة أسابيع. الولادة من رحم"تايم" حين قرّر الصحافي الأميركي هنري لوس وزميله بريتون هادن تأسيس مجلة أسبوعية، أطلقا عليها اسم"تايم"، عام 1923، نصحه أحد أصدقائه بتوظيف صحافي بريطاني مبتدئ في السابعة والعشرين من العمر اسمه توماس مارتن. لم يكن للأخير خبرة طويلة في المهنة، لكن إتقانه اللغتين الفرنسية والألمانية، فضلاً عن إلمامه بالسياسة الأوروبية، كانا سبباً كافياً لقبوله محرراً للشؤون الدولية في المجلة الأميركية الوليدة. وعلى رغم أنه كان يعيش بساق واحدة، بعدما فقد الأخرى في يوغوسلافيا أثناء الحرب العالمية الأولى عندما كان طياراً في سلاح الجو الملكي البريطاني، فإن ذلك لم يمنعه من مزاولة العمل الصحافي، بل كان راتبه الأعلى بين زملائه في المجلة التي لاقت لاحقاً نجاحاً صحافياً باهراً. اشتغل مارتن في"تايم"مدة سنتين، اكتسب خلالها مهارات العمل في مجلة أسبوعية. ولما عرف"سرّ المهنة"، قرّر أن يُصدر مجلة أسبوعية خاصة به. لكنه اشتغل في صحيفة"نيويورك تايمز"ليكسب مزيداً من الخبرة في مختلف الفنون الصحافية. ولأن تحقيق حلمه يحتاج إلى مال، عمل الصحافي الطموح على توسيع دائرة علاقاته مع صناع القرار وأصحاب رؤوس الأموال. ولما اختمر المشروع في رأسه، قدّم استقالته من الصحيفة الأميركية الشهيرة، استعداداً لإطلاق مجلته، التي جمع لها 2.25 مليون دولار من مستثمرين اقتنعوا بجدوى المشروع-المغامرة. ما إن خرج العدد الأول من"نيوزويك"من المطبعة في 17 شباط فبراير 1933، سارع مارتن إلى إرسال نسخة منه هدية إلى لوس،"أستاذه"في المهنة ورب عمله السابق في"تايم"، ليخبره بطريقة ديبلوماسية عن ولادة مطبوعة منافسة للمجلة الأم التي كانت على وشك الاحتفال بالذكرى العاشرة لصدورها. فما كان من لوس إلا أن ردّ عليه برسالة مقتضبة تمنّى له فيها"حظاً موفقاً"في مشروعه. حمل غلاف العدد الأول من"نيوزويك"الذي كان سعره 10 سنتات، فيما قيمة الاشتراك السنوي 4 دولارات سبع صور، تمثل الحوادث المهمة للأسبوع المنصرم. وكانت إحداها للزعيم النازي أدولف هتلر الذي كان صرّح أنه"تجب إعادة بناء الأمة الألمانية من الصفر". وطبع من ذلك العدد 50 ألف نسخة. كان مارتن يسعى إلى أن تكون مجلته الوليدة مكمّلة لقراءة الصحف اليومية، لأنها"تفسّر الأخبار وتشرحها وتوضحها"، وفق ما جاء في حملتها الإعلانية الأولى. كما أراد لها أن تكون منافساً جدياً ل"تايم"التي كان يصفها بأنها"غير دقيقة ووقحة ومقلِّدة". خلال سنواتها الأولى، صارعت"نيوزويك"للبقاء وإثبات الذات، في ظل منافس قوي:"تايم"، وكانت نقطة ضعفها الأساس هي عدم تمتع هيئة تحريرها بخبرة مهنية في المجلات الأسبوعية التي كانت تتطلب عملاً مختلفاً عن ملاحقة الأحداث في الصحف اليومية. فكانت أشبه بسفينة بلا دفة للقيادة، تتلاطمها الأمواج. صعوبات... وقفزات بعد أربع سنوات على الصدور، نفدت أموال مارتن من دون أن تحقق مجلته أي ربح مادي، فقرر دمجها مع مجلة"توداي"لصاحبها رايموند مولي الذي كان أحد مستشاري الرئيس الأميركي فرانكلين رزوفلت. وأصبحت المجلة في عهدها الجديد أكثر ليبرالية من"تايم"، ورفعت شعار"مجلة الأخبار المهمة". حاولت"نيوزويك"أن تشق طريقاً خاصاً بها مختلفاً عن"تايم"، على رغم تشابه المطبوعتين في الحجم والإخراج والتبويب. وبدأت المجلة تزداد انتشاراً حتى وصل توزيعها في مطلع الأربعينات إلى مليون نسخة أسبوعياً، لكن من دون أن تتجاوز توزيع"تايم"، التي ظلت الأولى. كانت أرقام التوزيع المتزايدة، أسبوعاً بعد أسبوع، كافية لجعل المجلة مربحة ومؤثرة في الرأي العام. أواخر العام 1945 أصدرت المجلة أولى طبعاتها الدولية في طوكيو... ولاحقاً في باريس. هذا النجاح المطّرد أثار شهيّة شركة"واشنطن بوست"على شراء المجلة، فقدم ناشر الصحيفة الأميركية الشهيرة فيليب غراهام عام 1961عرضاً مغرياً قيمته 15 مليون دولار ثمناً ل"نيوزويك". فكان له ما أراد. وفور امتلاكه المجلة، سعى غراهام إلى جعل المجلة مختلفة عن منافستيها:"تايم"و"يو أس نيوز أند وورلد ريبورت"التي صدرت عام 1933 أيضاً. ولعبت المجلات الأسبوعية الثلاث حينها، كما الأفلام السينمائية، دوراً رائداً في نشر الثقافة الأميركية حول العالم، وكذلك في تعريف العالم إلى تفاصيل الحياة الأميركية. لكن غراهام، الناشر الجديد ل"نيوزويك"، انتحر صيف 1963، وورثت أرملته إمبراطوريته الصحافية. وأرادت غراهام النجاح والتميز ل"نيوزويك"، فزادت موازنة التحرير ثلاثة أضعاف، وجددت شكلها ومحتواها، وجعلت المجلة تحقق الهدف الذي أنشئت من أجله قبل ثلاثة عقود، وهو أن تكون منافساً جدياً ل"تايم". لعبت"نيوزويك"، التي كانت أقرب سياسياً إلى الديموقراطيين من"تايم"، دوراً رائداً بين نظيراتها الأسبوعيات في الكتابة بعمق عن التمييز العنصري في الولاياتالمتحدة. وفي العام 1963 كانت أول مجلة إخبارية تضع صورة رجل أسود مغمور على غلافها، مع تحقيق استقصائي عن الحقوق المدنية للسود، وأيدت حركاتهم التحررية. واتخذت المجلة موقفاً لافتاً عام 1970، عندما أقامت 46 امرأة ناشطة في"حركة الحقوق المدنية"النسوية دعوى على"نيوزويك"بسبب نقص العنصر النسائي في هيئة التحرير. فوعدت المجلة بزيادة عددهن، خصوصاً في قسم إدارة التحرير. في أواسط الثمانينات، وتحديداً عام 1986، غيّرت المجلة حلتها تماماً، خصوصاً على صعيد الغلاف، الذي أصبح ذا هوية إخراجية مميزة، وذلك عندما ظهر اسم المجلة مكتوباً بالأبيض على شريط أحمر يقطع أعلى الغلاف أفقياً، فيما تتجسّد هوية"تايم"الإخراجية بالإطار الأحمر الذي يحيط بالغلاف. منافسون جدد ... وتغييرات"قاتلة" مع صعود نجم التلفزيون ? الكابل في أواخر الثمانينات، تغيّرت عادات الأميركيين في استقاء الأخبار والمعلومات، فعمدت المجلات الأسبوعية التي كانت مصدراً مهماً للأخبار وشرح خلفياتها، إلى خفض قيمة اشتراكاتها السنوية لتحافظ على توزيع كبير يضمن لها الاستمرار من طريق جذب مزيد من المعلنين. ثم بدأت"نيوزويك"تفكر في إصدار طبعات أجنبية في دول مختلفة، وكانت أولاها الطبعة اليابانية... لتكرّ بعدها سبحة الطبعات العالمية بلغات مختلفة. ولم تتأخر المجلة في اللحاق بركب الإنترنت الذي ظهر إلى العلن في التسعينات، فأصبح لها حضور إلكتروني عام 1994، قبل أن يغدو لها موقع معروف على الشبكة عام 1998. لكن مع فورة الإعلام الإلكتروني في مطلع الألفية الثالثة، تأثرت مبيعات المجلة، لاسيما في عهد فريد زكريا، الذي تسلم رئاسة تحرير الطبعة الدولية عام 2000، محوّلاً"نيوزويك"مجلة شبه فكرية تنشر المقالات التنظيرية المطوّلة أكثر من التحقيقات الميدانية والاستقصائية التي تميّزت بها المجلة طوال عقود. فانصرف قراؤها عنها شيئاً فشيئاً، وانخفض عدد مشتركيها 50 في المئة بين 2008 و2010، ليستقر على 1.5 مليون مشترك سنوي. الأمر الذي انعكس تراجعاً كبيراً في العائدات الإعلانية وفي رقم أعمال المجلة. ولما تبيّن لمجموعة"واشنطن بوست"أنه لم يعد في إمكانها وقف خسائر"نيوزويك"المالية التي راحت تتضاعف حتى بلغت رقماً قياسياً هو 29.3 مليون دولار مطلع العام 2010، قررت عرض المجلة للبيع، بعدما أصبحت عبئاً على الشركة الصحافية الكبرى، فاشتراها البليونير الأميركي سيدني هارمان بدولار واحد، محاولاً إعادة الحياة إلى المجلة الورقية. لكن جهوده باءت بالفشل، فاضطر إلى بيعها إلى مجموعة"آي إيه سي"للإنترنت التي دمجت المجلة مع الموقع الإلكتروني"ذا دايلي بيست"، الذي تديره تينا براون. وبدلاً من أن تنقذ براون سفينة"نيوزويك"من الغرق النهائي، عملت على إحراق ما تبقى من زوارق الإنقاذ، إذ عمدت إلى"تسطيح"مضمون المجلة، مع إعطاء حيّز واسع للرأي على حساب التحقيقات الجذابة. وباتت"نيوزويك"في عهد براون مختلفة تماماً عن تلك المجلة التي التي حلم بها مارتن قبل 80 سنة، والتي جعلتها عائلة غراهام لاحقاً في مصاف المجلات الأسبوعية الراقية. وهكذا، غرقت سفينة"نيوزويك"الورقية نهائياً في محيط يعجّ بالكائنات الإلكترونية المفترسة... لتعود"تايم"، كما كانت في مطلع 1933، تتربع وحيدة على عرش المجلات الأسبوعية في العالم. نهاية حرب باردة منذ اليوم الأول لصدورها قبل 80 سنة، أراد مؤسس"نيوزويك"أن تكون منافساً جدياً لمجلة"تايم"التي كان يعمل فيها سابقاً. ثمة من يقول إن خلافاً مهنياً نشأ بينه وبين مؤسس"تايم"هنري لوس جعله يغادر المجلة إلى غير رجعة، مصمماً على"الثأر"من المجلة الأم. لكن الأكيد أن مجلته حققت الهدف الذي نشأت من أجله، خصوصاً بعدما ثبّتت"نيوزويك"قدميها في عالم الصحافة الأسبوعية بدءاً من خمسينات القرن العشرين. وبلغت ذروة الصراع بين المجلتين بعدما امتلكت شركة"واشنطن بوست"المجلة الخارجة من رحم"تايم". ومع ذلك، لم تستطع"نيوزويك"يوماً أن تتفوق على"تايم"توزيعاً وانتشاراً، بل ظلت مصنفة دائماً في المرتبة الثانية بعد"تايم"، فيما كانت المرتبة الثالثة دائماً من نصيب مجلة"يو إس نيوز أند وورلد ريبورت"التي صدرت بعد أشهر قليلة من صدور"نيوزويك". وفي ذروة تألق"نيوزويك"، بين ستينات القرن العشرين وثمانيناته، لم يتجاوز توزيعها 3.2 مليون نسخة أسبوعياً، بينما وصل توزيع"تايم"إلى 4.5 مليون نسخة. الأمر أصاب"نيوزويك"ب"عقدة"مهنية من"تايم" ظلت تلازم أصحاب المجلة عقوداً طويلة. وغالباً ما كانت كل من المجلتين تتنافس على"سرقة"الصحافيين اللامعين من المجلة المنافسة."كان الأمر أشبه بحرب باردة بين المجلتين"، وفق تعبير إيفان توماس، أحد المراسلين المتجولين السابقين ل"نيوزويك"، والذي كان أحد صحافيي"تايم"سابقاً. ولم تكن المسافة الفاصلة بين مكاتب المجلتين تزيد على عشرات الأمتار في ضاحية مانهاتن الشهيرة في نيويورك. وغالباً ما كان موضوع الغلاف يشكل أحد أوجه المنافسة الشديدة بين المطبوعتين. في 27 تشرين الأول أكتوبر 1975، خرجت المجلتان من المطبعة في اليوم ذاته بموضوع واحد يتصدر غلافهما، وهو عن موسيقي أميركي مغمور في السادسة والعشرين من العمر يدعى بروس سبرينغستين. أما المفارقة، فكانت أن كلاًّ من المجلتين ادّعى في كلمة العدد أنها تقدِّم على غلافها ذلك الأسبوع إلى القراء"موسيقياً غير معروف سيكون له شأنه الكبير في المستقبل"."لكن كل منهما أصيبت بالخيبة فور رؤية المجلة الأخرى. ووحده سبرينغستين كان رابحاً"، يقول جيم كيلي، مدير التحرير السابق ل"تايم"، معلقاً بسخرية على الحدث. "الوحش"الذي قتل المجلة ما إن امتلكت شركة"آي إيه سي"للانترنت مجلة"نيوزويك"أواخر العام 2010، حتى أعلنت مديرة موقع"ذا دايلي بيست"الذي تملكه الشركة تينا براون أن الموقع الالكتروني للمجلة سيندمج مع"ذا دايلي بيست"، وذلك بعد أسابيع من تسلم براون رئاسة تحرير الأسبوعية الأميركية الشهيرة. "ارتكبت براون بذلك خطأ مهنياً فادحاً. فبدلاً من أن تدمج موقعها الالكتروني المغمور بالمجلة العريقة، عكست الآية تماماً، فدمجت موقع المجلة الالكتروني بالموقع الذي تديره هي، والذي يحمل اسم"الوحش اليومي"ذا دايلي بيست، لتقضي بذلك على اسم"نيوزويك"العريق في عالم الصحافة الأميركية"، بحسب تعبير سمير حصني، أستاذ الصحافة في جامعة ميسيسيبي الأميركية ومدير ومؤسس"مركز ابتكار المجلات"التابع للجامعة ذاتها. حصني ليس أستاذاً للصحافة فحسب، بل مرجع في صناعة المجلات في الولاياتالمتحدة التي هاجر إليها قبل أكثر من ثلاثة عقود، هرباً من الحرب الأهلية اللبنانية. يسأل حصني متعجباً:"هل يُعقل أن يُدمَج موقع مجلة عريقة بموقع الكتروني مغمور، بدلاً من أن تفعل العكس تماماً؟". ويشرح:"لا أظن أن براون كانت تدرك العلاقة الوثيقة التي تربط"نيوزويك"بقرائها، والثقة التي بنتها المجلة، حرفاً حرفاً، مع القراء طوال ثمانية عقود". ولا يتردّد حصني في وصف براون ب"الأنانية"، مشيراً إلى أن"أنانيتها المفرطة دفعتها إلى محاولة بناء موقعها الالكتروني ذا دايلي بيست الذي لم يسمع به أحد سابقاً على أطلال مجلة أسبوعية عريقة. فكانت كالوحش الذي يفترس ضحية جميلة ليشبع غريزته في البقاء". ويقول حصني، الذي يعمل مستشاراً مهنياً لكثير من المجلات ودور الصحافة الكبرى في أوروبا وأميركا، إن براون"تخدع العالم عندما تقول أن"نيوزويك"لم تتوقف بل تحوّلت موقعاً الكترونياً يحمل اسم"نيوزويك غلوبال". وكل الدراسات تفيد بأنه لا يمكن أي مطبوعة أخفقت في جذب القراء على الورق أن تجذبهم في العالم الرقمي الافتراضي". ويضيف:"فشلت براون في رئاسة تحرير"نيوزويك"الورقية. فبعد سنتين من نشر الموضوعات السطحية ومواضيع الغلاف المضحكة... خرجت علينا تقول إن العصر هو للانترنت وليس للورق، لتغطي فشلها الذريع في إدارة المجلة. فكانت أشبه بمن يقتل الدجاجة البيّاضة... حتى تنقذ البيضة من الكسر".