في تاريخ الدوريات والمجلات المتخصصة ثمة علامات أساسية يصعب تجاوزها أو عدم تذكرها حين نقرأ التحولات والانعطافات في ثقافة بعينها. وعادة ما تكتسب الدوريات الثقافية حضورها من ارتباطها بلحظات مفصلية في تلك الثقافة، أو دفاع تلك الدورية عن فكرة مركزية ترتبط بتجديد رؤية العالم لمجموعة من المثقفين والقراء في لحظة تجد فيها الثقافة نفسها وقد دخلت مرحلة تأزم، وينبغي عليها أن تعيد النظر في مسلماتها، أي حين تبهت المقولات المركزية التي قامت عليها وتعجز عن تفسير شروط ارتباطها بالعالم من حولها، فتبادر إلى تجديد نفسها والبحث عن محاور ارتكاز غير تلك التي قامت عليها. ومن بين الدوريات البريطانية التي شكلت لحظة مفصلية في مسيرة الثقافة البريطانية خلال السنوات الثلاثين الأخيرة لا يمكن للعين أن تخطئ مجلة"لندن لمراجعات الكتب"London Review of Books التي ظهر عددها الأول في نهاية 1979، أي في السنة التي انغلق فيها ملحق التايمز الأدبي The Times Literary Supplement، الذي ظهر عدده الأول عام 1902، والذي عرف منذ عام 1969 ب TLS على نفسه ولم يعد يحتمل الأصوات الجديدة الطالعة في الثقافة البريطانية. وقد ظلت هذه المجلة الجديدة، التي تصدر مرة واحدة كل أسبوعين، مجرد ملحق داخل مجلة نيويورك لمراجعات الكتبNew York Review of Books، مدة ستة أشهر، إلى أن بدأت تظهر مستقلة في شهر أيار مايو من عام 1980. وقد كان من بين محرريها المؤسسين: كارل ميلر، أستاذ الأدب الإنكليزي في كلية لندن الجامعية في تلك الفترة، وماري كاي ويلمرز، التي عملت محررة في ملحق التايمز الأدبي، وهي الآن المحررة الرئيسية في المجلة منذ عام 1992. وكان من بين كتاب المجلة البارزين: الروائي والكاتب الباكستاني طارق علي، والشاعر البريطاني جون آشبري، ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، والناقد تيري ايجلتون، والمؤرخ إريك هوبسباوم، وكريستوفر هيتشينز، والناقد البريطاني الراحل فرانك كيرمود، والشاعر الإرلندي توم بولين، والفيلسوف الأميركي الراحل ريتشارد رورتي، والروائية والناقدة البريطانية جاكلين روز، وسلمان رشدي، وإدوارد سعيد، وسوزان سونتاغ، والناقدة النسوية إيلين شووالتر، والفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك. ومن الواضح من قائمة المساهمين في الكتابة لمجلة لندن لمراجعات الكتب أنها تجمع تيارات في الفكر والنظرية والأدب تتراوح ما بين الماركسية والماركسية الجديدة والنقد ما بعد الكولونيالي والنسوية ومناهضة العنصرية وفلسفة ما بعد الحداثة. لكن معظم هذه التيارات تلتقي في معاداتها للعناصر المحافظة في الثقافة البريطانية التي تلقت قوة دافعة في الحقبة الثاتشرية. ولهذا كانت اللحظة الثقافية البريطانية بحاجة إلى مجلة تحمل الرؤية التي تحملها المجلة وتروج لها، وتستقطب للتعبير عن هذه الرؤية كتاباً يعيشون في المملكة المتحدة أو أميركا أو دول الكومونويلث وغيرها من دول العالم.أصبحت المجلة، بعد صدورها مستقلة، راديكالية في طروحاتها تتبنى قضايا التجديد والثورة ضد السائد، كما أنها تتخذ مواقف سياسية يسارية، ولا تهادن الرؤى المحافظة في الثقافة البريطانية. ويغلب على المجلة، التي تأخذ شكل الصحيفة وقطع التابلويد المألوف في الصحافة الأوروبية عامة، والبريطانية خاصة، نشر المقالات الطويلة التي تستغرق صفحات عديدة وتركز على التحليل الثقافي لقضايا السياسة والمجتمع والسياسة الخارجية. وهي تشبه في سياستها التحريرية تلك مجلة نيويورك لمراجعات الكتب، التي كانت ضيفة عليها عند صدورها. ويبدو أن مثقفي بريطانيا طمحوا في تلك المرحلة إلى تقليد المجلة الأميركية التي تحمل تصوراً صحافياً شبيهاً لكنها تميل إلى المحافظة أكثر من شقيقتها البريطانية. إنها إذاً مجلة ثقافية، ولكنها لا تركز على مراجعات الكتب، بل تتجاوز العنوان لتنشر مقالات قد تبدأ من الكتب لكنها تقدم تحليلاً ورؤى عميقة للموضوعات التي تتصل بصورة من الصور بالقضايا التي تعالجها الكتب التي يكتب عنها المساهمون في المجلة. وتوزع المجلة منذ عام 2000 حوالى خمسين ألف نسخة. اللافت في المجلة أنها تفرد، منذ حوالى عشرين عاماً وأكثر، مقالات مطولة لمناقشة القضية الفلسطينية وتركز كثيراً على الانتهاكات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، إلى الحد الذي يصل إلى عمليات تطهير عرقي. وتكلف المجلة للكتابة حول هذه القضايا كتاباً إسرائيليين وفلسطينيين يعبرون عن هذا الواقع، أي أنها تفتح صفحاتها لكتاب من الشعبين"لكن كتاباً إسرائيليين ويهوداً مثل يوري أفنيري وجون بيرجر وأميرة هاس ويتسحاق لاؤور وإيلان بابي وسارا روي وآفي شلايم وجوديث بتلر وجاكلين روز، يأبون إلا أن يقولوا الحقيقة إلى جانب زملائهم الفلسطينيين الذين كتبوا في المجلة على مدار السنوات العشرين الماضية، أقصد إدوارد سعيد ورجا شحادة ورشيد الخالدي واللبناني إلياس خوري، واللبناني الفلسطيني سري مقدسي ابن أخت إدوارد سعيد. كما أن محررة المجلة يهودية بريطانية تعبر في الحوارات التي تجرى معها عن شعورها بالعار الذي تجلبه إسرائيل ليهود العالم. أثار هذا الاهتمام من جانب المجلة بالقضية الفلسطينية وموقفها الواضح، غير الموارب، ضد العنصرية الإسرائيلية، بعض الأوساط المؤيدة لإسرائيل في الصحافة البريطانية على الإنترت، وبدأت هذه الجهات تحرض على المجلة مطالبة بقطع الدعم الذي تتلقاه من مجلس الفنون في إنكلترا. وقد ركزت الحملة التي نشرها مؤخرا موقعJust Journalism على أن المجلة تلقت دعما متواصلا بلغ مجموعه 767 ألف جنيه استرليني على مدار السنوات الثلاثين الماضية"كما قالت الحملة إن المجلة تستطيع تبني المواقف التي تريد، لكن ذلك لا يجب أن تموله أموال دافعي الضرائب البريطانيين الذين تربط دولتهم علاقات حسنة مع إسرائيل! وقام الموقع المذكور، لدعم حملته التحريضية، بتحليل المادة التي نشرتها المجلة خلال السنوات العشر الماضية للتوصل إلى أن المجلة معادية لإسرائيل، وأنها تستعين بما يكتبه كتاب إسرائيليون معارضون للتحريض ضد إسرائيل. في ضوء المكانة التي تتبوأها مجلة London Review of Books الرصينة المتميزة واسعة الانتشار في أوساط المثقفين البريطانيين، وفي أماكن أخرى من العالم الناطق بالإنكليزية، لا يبدو أن حملة تحريضية من هذا النوع ستنجح. لكن سبق أن تعرضت المجلة نفسها لضغوطات مشابهة وللأسباب نفسها ما جعل دعم مجلس الفنون يشح في سنوات التسعينات ويبلغ نصف ما كانت تتلقاه المجلة منذ صدورها قبل ثلاثين عاماً. والخوف أن يتم التذرع بالأزمة الاقتصادية المستمرة إلى تقليص الدعم لهذه المجلة الثقافية الإنكليزية البارزة التي تنفرد من بين المطبوعات البريطانية الرصينة بوقوفها إلى جانب الحق الفلسطيني.