يجمع المراقبون لتطورات الأوضاع في الصومال على ان الغارات الجوية التي شنتها طائرات أميركية بدعم من قوات العملية الثانية للأمم المتحدة في الصومال "يونيصوم 2" تهدف الى توجيه رسالتين بالغتي الأهمية: الأولى ان الولاياتالمتحدة ملتزمة دورها كقوة عظمى وحيدة ومستعدة للتدخل عسكرياً عندما تقتضي الحاجة، بخلاف ما أثارته تصريحات وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية بيتر تارنوف عن عدم قدرة بلاده على التدخل أو أداء دور الشرطي في كل أنحاء العالم. والثانية ان واشنطن لا تزال تتمسك بالسياسة التي أعلنها السفير الأميركي السابق الى الصومال روبرت اوكلي في نهاية شباط فبراير الماضي، وهي اضعاف امراء الحرب الصوماليين ب "نتف ريشهم"، أي تجريدهم من السلاح واضعافهم بغية تسهيل قيام نوع من السلطة المركزية في مقديشو. وجاءت الغارات الجوية الأميركية الأخيرة، على قواعد زعيم "التحالف الوطني الصومالي" الجنرال محمد فارح عيديد بمثابة "تأديب" للجنرال، أو نتف مؤلم لريشه بعد محاولته تقويض الاتفاق الذي توصلت اليه الفاعليات الصومالية في اديس ابابا قبل نحو أربعة أشهر . واقترابه من الأصوليين المتطرفين الذين عارضوا ويعارضون التدخل في الصومال. وأثبتت إدارة الرئيس بيل كلينتون انها لن تتهاون في دعم دور الأممالمتحدة في الصومال. ذلك ان اطلاق مسلحين من أنصار عيديد النار على قوة باكستانية وقتلهم 23 من جنودها يوم 5 حزيران يونيو الجاري، اعتبر تحدياً للبند السابع من ميثاق الأممالمتحدة، والذي يطبق للمرة الأولى في تاريخ المنظمة الدولية استناداً الى قرار اصدرته في آذار مارس الماضي في شأن الصومال. ويقضي هذا البند باستخدام القوة لاعادة الأمن الى هذا البلد. وهو بالتالي يحوّل طبيعة عمل الجنود الدوليين من قوات "حفظ سلام" محايدة الى قوات تستخدم القوة طرفاً لحفظ السلام. وبعيداً عن التحقيق الذي يجريه المبعوث الخاص للأمم المتحدة الى الصومال الادميرال الأميركي المتقاعد جوناثان هاو، لتحديد المسؤول الذي أعطى الأوامر باطلاق النار على الباكستانيين، فإن قوات "يونيصوم - 2" اتخذت من الحادثة فرصة سانحة لتنفيذ البند السابع بشدة وبمؤازرة من مشاة البحرية الاميركية "المارينز" وسلاحها الجوي. فشنت غارات ليلية عدة بدءاً من ليل الحادي عشر من الشهر الجاري، واستهدفت مواقع عدة في الشطر الجنوبي من مقديشو، تابعة ل "التحالف الوطني الصومالي" الذي يرأسه الجنرال عيديد. ورافق الغارات الليلية تمشيط نهاري لمنازل مقديشو بحثاً عن السلاح ولاعتقال مشتبهين بالتورط في قتل الباكستانيين. وشهدت العاصمة تظاهرات احتجاج يومية، وسقط في الغارات وفي اطلاق النار على المتظاهرين عشرات القتلى والجرحى اضافة الى تدمير أماكن عدة غير المواقع العسكرية في المدينة. واعتقل مئات من الصوماليين في عمليات الدهم. واذا كان السبب المباشر الذي دفع قوات "يونيصوم - 2" الى تنفيذ البند السابع هو مقتل الباكستانيين، فان تصريحات المعنيين بالازمة الصومالية تؤكد الهدف السياسي للعملية: فالجنرال عيديد الذي عرف بمعاداته للامم المتحدة ودورها في الصومال، وافق مرغماً في آذار الماضي على قرارات "مؤتمر الوفاق الوطني" الذي عقد في اديس ابابا باشراف المنظمة الدولية. وكان هذا المؤتمر قرر ان تسلم جميع الميليشيات اسلحتها الثقيلة الى القوات الدولية التي تضعها في مخازن تحت اشرافها. كما قرر تأليف "مجلس وطني انتقالي" حكومة من 74 عضواً يعينون بنسبة ثلاثة عن كل اقليم من الاقاليم الصومالية ال 18 54 عضواً اضافة الى 15 عضواً يمثلون التنظيمات الصومالية الرئيسية وخمسة اعضاء اضافيين عن مقديشو. وكان عيديد قبل انعقاد المؤتمر يزعم انه يسيطر واحزاب "التحالف الوطني الصومالي" على 13 اقليماً من اصل ال 18 التي تشكل كل الصومال بما في ذلك شماله جمهورية ارض الصومال الذي يضم خمسة اقاليم. ويذكر ان "التحالف" يضم اربعة تنظيمات هي "المؤتمر الصومالي الموحد" برئاسة عيديد و"جبهة الوطنيين الصوماليين" برئاسة الجنرال عمر جيس و"الحركة الوطنية لجنوب الصومال" برئاسة السيد عيدي ورسمة اسحق و"الحركة الديموقراطية الصومالية" برئاسة السيد علي محمد عليوه. لكن مؤتمر اديس ابابا أعاد فرز التحالفات الصومالية، فصار "التحالف الوطني" هشاً وخسر عدداً من مواقعه مثل اقليم كيسمايو الذي طرد منه الجنرال جيس بعد حرب دموية مع انصار الجنرال محمد سعيد حرسي الملقب ب "مورغان"، وهو صهر الرئيس السابق محمد سياد بري. وخلال الفترة ما بين صدور قرارات مؤتمر اديس ابابا في آذار الماضي وحادثة قتل الباكستانيين في 5 حزيران يونيو الماضي. فشل القسم السياسي في "يونيصوم -2" في تنفيذ معظم بنود اديس ابابا. وحمّل المسؤولون في "يونيصوم -2" القسم السياسي والعسكري الجنرال عيديد ضمناً مسؤولية هذا الفشل. اذ حاول رئىس "التحالف الوطني" اعادة ترتيب تحالفاته للحصول على اكبر عدد ممكن من الممثلين له في "المجلس الوطني الانتقالي". واعاق بذلك استكمال تأليف "المجلس" الذي تأجل اعلانه ثلاث مرات. الى ذلك اتهمت "يونيصوم -2" عيديد بنقل اسلحة ثقيلة من المخازن التي تشرف عليها واعادة تسليح عناصره. وازعجت كل هذه التحركات جهود "يونيصوم -2" التي ارسلت احدى وحداتها من القوات الباكستانية "لاحصاء روتيني للاسلحة" قرب مقر اذاعة عيديد حيث واجهتها عناصر مسلحة وكانت بداية المعركة التي بدت عسكرية لكنها تحمل في طياتها اعادة الجنرال عيديد الى حجمه كما كان خلال مؤتمر اديس ابابا. وقال المبعوث الاميركي الخاص السابق الى الصومال روبرت اوكلي في تصريح الى "الوسط" عن المشاركة الاميركية في الغارات الاخيرة على مقديشو: "ان الولاياتالمتحدة شاركت في الغارات استجابة لطلب من الاممالمتحدة. وان الهدف من هذه الغارات ليس كما يبدو رداً على مقتل الباكستانيين بمعزل عن الوضع العام في البلاد، لكنه خطوة اولى لاجتثاث العقبات الكبيرة التي تعترض الحل السياسي وتأليف حكومة وطنية". وأشار الى ان عيديد يعارض الهدف الاساسي لعملية الاممالمتحدة، واتهمه بعدم الوفاء بوعده بتسليم الاسلحة الثقيلة، ورفضه المصالحة الوطنية. وقال الناطق باسم "يونيصوم -2" باري واكلي في اتصال هاتفي مع "الوسط" من مقديشو: "ان العملية التي بدأتها قوات "يونيصوم - 2" ليل 11 حزيران الجاري كانت تنفيذاً لقرار مجلس الامن الرقم 837 الذي ينص على ملاحقة المعتدين على القوات الدولية ونزع السلاح من كل الصوماليين، وسنواصل هذه العملية حتى تنفيذ القرار كاملاً حتى وان استمرت شهراً كاملاً او اكثر". وشاركت في العملية قوات من 12 دولة هي تركيا والنروج والمغرب وفرنسا وباكستان ومصر والكويت والهند وايطاليا والامارات والولاياتالمتحدة وتونس. ومنحت دول عدة الى جانب هذه الدول تأييدها العملية. وبدا واضحاً الآن ان الهدف الرئيسي من العملية اضعاف الجنرال عيديد او ازاحته كلياً من العملية السياسية التي تشرف عليها الاممالمتحدة في الصومال. ولكن في المقابل، يبدو ان الجنرال عيديد استطاع اللعب على التناقضات القبلية والدينية لاثارة مشاعر الصوماليين ضد القوات الدولية، خصوصاً الاميركية والباكستانية العاملة في صفوفها. ونجح اخيراً في الحصول على تأييد جماعات اسلامية كانت حتى الامس القريب مناهضة له مثل "الاتحاد الاسلامي الصومالي" الذي استغل الحوادث الاخيرة لتأليب الرأي العام الصومالي ضد الاميركيين والمنظمة الدولية. وربما كان هذا التحالف الجديد أخطر ما يمكن ان تواجهه عملية الاممالمتحدة الثانية في الصومال. فنجاحها في ضرب عيديد قد لا يعني نجاحها في الحصول على تأييد كل الصوماليين.