اختتمت ايام مهرجان كان السينمائي مساء 24 ايار مايو الجاري بحفل كبير اعلنت خلاله نتائج المهرجان، فمنحت السعفة الذهبية مناصفة لفيلم من نيوزيلندا "البيانو" وآخر من الصين "وداعاً يا خليلتي" في الوقت الذي صفر فيه الجمهور حين اعطيت جائزة النقد الكبرى لفيم فندرز. دورة كان هذا العام، كان اجمل ما فيها، خارج المسابقة الرسمية، وأسوأ ما فيها يوما الافتتاح والختام. اما الموزعون فانهم بدأوا الشكوى من تضاؤل الارباح والصفقات، فيما تتساءل الصحافة: كان... الى أين؟ كان متأنقاً كعادته، على الطريقة الكلاسيكية، لكنه وعلى غير عادته هذه المرة كان يركض في مشيته وعيناه تبحثان بين "الماشين" على الارصفة او الجالسين في المقهى. كان في نظراته مزيد من اللهفة والقلق. وفجأة تكللت اساريره وركض نحو طاولة معينة في المقهى الذي يقصده الصحافيون العرب عادة، وقبل ان يبادره احد بالسلام قال وعلى فمه ابتسامة المنتصر: "عرفتم آخر خبر؟ فيفي عبده تصورت مع اليزابيث تايلور، والصورة عندي!". والحقيقة ان الخبر لم يهبط كالصاعقة على احد، بل وقلة من الجالسين اهتمت به، فيما راح هو يمعن في التفاصيل. في النهاية حين احس انه قال كل ما عنده تابع سيره يبحث عن "زبائن آخرين" بينما قال زميل من الجالسين، بكل هدوء: "واحد من اثنين، اما انه خبر كاذب كلف صاحبنا بترويجه، وإما ان الست فيفي تصورت فعلاً بما يعنيه ذلك من انفاق الوف الدولارات ثمناً للصورة". فيفي عبده هي بالنسبة الى العرب فنانة من طبقة اولى، اما في "كان" فانها ليست اكثر من سيدة غريبة الشكل غريبة الثياب تتمشى كل بعد ظهر على الرصيف وفي رفقتها ثلاثة حراس يزيد طول كل واحد منهم عن مترين، استقدمتهم معها من القاهرة خصيصاً ليتولوا حراستها خلال حضورها مهرجان كان العتيد. في مظهرها ونظراتها الشرسة وثيابها، تبدو فيفي عبده شبيهة بنمط معين من نجوم هوليوود في سنوات الخمسين. وهي في هذا بالتحديد تبدو متناقضة كل التناقض مع السمات التي تميز - مثلاً - الممثلة هولي هانتر، التي استقبل فوزها بجائزة أفضل ممثلة في حفل ختام مهرجان "كان" الاخير بالتصفيق الحاد. فهولي هانتر بقامتها المتوسطة وبساطة مظهرها وثيابها وحمرة الخجل التي ترتسم على وجهها حين تتحدث، تنتمي الى تلك الطائفة الجديدة من الممثلات الاميركيات اللواتي يكون الاداء الافضل للدور هو اول وآخر ما يشغل بالهن. من هنا لم يكن غريباً ان تتحمل، هي الاخرى، جزءاً كبيراً من المسولية في نجاح فيلم "البيانو" للمخرجة النيوزيلاندية جين كامبيون، ولم يكن غريباً ان يتوقع الكثيرون ومنذ عرض الفيلم ان تكون تلك الجائزة من نصيبها. بيانو من البلد البعيد في فيلم "البيانو" لعبت هولي هانتر دور "آدا" المرأة الخرساء التي ترحل الى نيوزيلندا في القرن الفائت مع ابنتها الصغيرة لتتزوج من رجل خطبت اليه بالمراسلة، وهناك ينحصر عالمها في البيانو الذي تصحبه معها وفي علاقتها مع الناس المحيطين بها، العلاقة التي تنبني، كما العلاقة مع البيانو عن طريق اللمس. لكن وضعها هناك يقودها الى علاقة مع مستوطن مرتبط بالسكان المحليين ويعيش حياتهم، علاقة تكشف لها عن معان جديدة للحياة وتعلمها استخدام اللمس كوسيلة للتواصل والتقارب اكثر من اي وقت مضى. "البيانو" فيلم شاعري وعذب ناصره الجميع، نقاداً وجمهوراً، منذ البداية وصفقوا طويلاً لمخرجته جين كامبيون كما صفقوا لهولي هانتر، التي أدت دوراً في غاية الصعوبة والشفافية، وهو دور يقوم التعبير فيه على نظرات العينين وعلى الاصابع اصابع اليدين وأصابع البيانو. والحقيقة ان فوز "البيانو" بجائزة السعفة الذهبية مناصفة مع الفيلم الصيني "وداعاً يا خليلتي" لم يشكل مفاجأة لأحد. وإن كان حمل في حد ذاته مفاجأتين اساسيتين: اولاهما انها المرة الاولى التي يتوج فيها مهرجان كان مخرجة امرأة، وثانيهما ان هذا الفيلم قد كشف عن التطور الهائل الحادث في السينمات المنتجة في تلك المنطقة من العالم: جنوب شرق آسيا، وامتداداتها الاوسترالية والنيوزيلندية. فحضور هذه السينما كان طاغياً، لذلك لم يكن من الغريب، ان يتوقع النقاد ومنذ بداية المهرجان ان تذهب اهم الجوائز الى هناك، خاصة وان في لجنة التحكيم مخرجين وسينمائيين وضعوا حياتهم ومهنتهم كلها تحت شمس الاكتشاف: من لويس مال الى كلوديا كاردينالي، ومن الايراني عباس كياروستمامي الى البوسني أمير كوستوريكا. والنتائج في مجملها تعكس، من ناحية حضور تلك المنطقة، ومن ناحية ثانية طليعية سينمائيي لجنة التحكيم. ففيلم "البيانو" تقاسم السعفة الذهبية مع الفيلم الصيني "وداعاً يا خليلتي" وهولي هانتر فازت بجائزة افضل ممثلة عن ادائها في فيلم نيوزيلاندي، والفيلم التايواني "محرك الدمى" فاز بجائزة لجنة التحكيم، والفيلم الفيتنامي "رائحة البابايو الاخضر" فاز بجائزة الكاميرا الذهبية. الفاشي بين الناس اذاً اكثر من نصف جوائز المهرجان ذهبت الى تلك السينمات الجديدة التي باتت تفرض حضورها منذ سنوات عديدة، بحيث ان اياً من المخرجين الصينيين، مهما كانت رنة اسمائهم غريبة، لم يعد يجد نفسه مجهولاً في "كان"، فهو يستقبل بحماس ويصفق له ويناقش في فيلمه بالارتباط مع افلامه السابقة. من هنا القول بأن مهرجان كان انما كرس، هذه المرة، ظاهرة باتت لافتة حقاً، وليس في المهرجانات وحدها، بل نذكر هنا ايضاً ان العديد من الافلام الصينية بات يعرض في الصالات التجارية في شتى العواصم الاوروبية ويلقى نجاحاً. الظاهرة الموازية، كانت ظاهرة غياب السينما الاميركية والسينما الفرنسية بل وحتى السينما الايطالية عن الجوائز، رغم ان الصخب الاعلامي انصب خلال المهرجان على فيلمين فرنسيين على الاقل هما فيلم الافتتاح "موسمي المفضل" من اخراج اندريه تيشينيه وفيلم الختام "قضية مسمومة" لفيلومين اسبوزيتو. الأول اهميته تنبع من المستوى المميز لمخرجه ومن كون بطلته كاترين دونوف، والثاني اقتصرت اهميته على كونه الفيلم الذي به تعود ايزابيل آدجاني الى الشاشة بعد غيبة اربعة اعوام وليتها لم تعد! صرخ الجمهور وهو يصخب ويهزأ امام رداءة الفيلم وسطحيته. بشكل عام واضح ان السينما الفرنسية في ازمة، وان افتعال حكاية الافتتاح والاختتام بسيدتيها الكبيرتين، لم يتمكن من انقاذ الوضع. السينما الاميركية، هي، ليست في ازمة. لكن المشكلة كمنت في اختيارات الافلام للمسابقة الرسمية، فهي كلها اتت دون مستوى الفوز، اذ ان اي فيلم اميركي من الافلام ذات المشاركة الرئيسية لم يتمكن من ان يشكل حدثاً حقيقياً. الافلام الاميركية الحدث، كانت هناك، في التظاهرات الاخرى، حيث قيض لجمهور الذواقة ان يستمتع بعدد من الافلام المفاجئة: من "احساء، استراحة، حركة" الى "موسيقى الحظ"، وكل منهما على طريقته فيلم كبير وهام، ويكشف عن ولادة تيار جديد في سينما اميركية لا تكف عن مفاجأتنا، باستعراضية جزء من انتاجها، او بقوة وفعالية جزء آخر. في مجال الاستعراض كان فيلم "السقوط" لجويل شوماخر، من تمثيل مايكل دوغلاس هو الفيلم الاكثر استعراضية بالطبع، حيث ان الجمهور تدفق ليشاهد حكاية المواطن الاميركي ديفانس الدفاع الذي يدفعه استلابه الى سلسلة من اعمال العنف مطبوعة بقدر كبير من الفاشية. لقد كان "السقوط" الفيلم الذي اثار اكبر قدر من الجدل، على غرار الجدل الكبير الذي يثيره حالياً في اميركا بين من يرى فيه توصيفاً هو اشبه بدق ناقوس الخطر لما يحدث في اميركا، وبين من يرى فيه دعوة صريحة لابتداء حلول فاشية ترد على تحدي الازمة التي تعصر الفرد الاميركي. رغم انه حصد ضجيجاً كبيراً، لم يحصد "السقوط" اية جائزة، وكذلك كان حال الافلام الاميركية الاخرى. في هذا المجال كان سيلفستر ستالوني محظوظاً في اكتفائه بعرض فيلمه الجديد "المعلّق" خارج المسابقة، والا لكانت خيبته هو الآخر كبيرة. ممثلون من الشارع على عكس خيبة الاميركيين، كان سرور الانكليز كبيراً، فالنتائج كانت بالنسبة اليهم على حجم حضورهم الكثيف في المسابقة وخارجها. والحقيقة ان السينما الانكليزية كانت الوحيدة من بين سينمات الدول ذات العراقة الانتاجية، التي خرجت بحصة لا بأس بها. ففي المسابقة فاز فيلم مايك لي "عاري" بجائزة الاخراج، كما فاز بطل الفيلم دايفيد تيوليس بجائزة افضل ممثل، والحال ان فوز هذا الفيلم بجائزتين يعتبر نقطة لصالح لجنة التحكيم. فالفيلم بسبب سوداويته وبسبب غرابته في عالم كان المخملي، ولأنه يصف العوالم السفلى لمجتمع يتدهور كان من المتوقع ان يلحق به ظلم ما فلا يعطى اية جائزة. لذلك صفق الناس طويلاً حين افتتحت الجوائز بالاعلان عن منح بطله جائزة التمثيل والحقيقة ان تويوليس ابدع في اداء دور هذا البطل المضاد الذي لا يتمتع بأية ذرة من الاخلاق، ويعيش في عالم ليلي لا رحمة فيه. "عاري" فيلم مبهم وقاس، يشبه حسب تعريف مخرجه "نهاية القرن العشرين المبهمة والقاسية". قاس ايضاً الفيلم الانكليزي الثاني، في المسابقة الرسمية فيلم "احجار ممطرة" للمخرج كين لوش، الذي تقاسم جائزة التحكيم مع "محرك الدمى". قاس لأنه يضع الاصبع على الجرح الدامي في بريطانيا اليوم: جرح البطالة وانسداد الافق. كعادته قدم لنا لوش هنا رسالة اجتماعية - سياسية، لكنه قدمها في قالب فني ديناميكي، وعبر شخصيات من لحم ودم، شخصيات تعيش امامنا احلامها وخيباتها وآلامها وصراعاتها، كل ذلك عبر حكاية عاطلين عن العمل في "مانشستر"، يلجآن الى شتى ضروب الاحتيال والمراوغة لتدبير عيش عيالهما اليومي، لكن ذلك كله لا يجديهما نفعاً. فالتفكك العائلي قائم بالضرورة، والجريمة تنتظرك في نهاية الدرب. كين لوش صور فيلمه في اماكن وأحياء الطبقة العاملة في "مانشستر" وأتى بمعظم ممثليه من الشارع. وأبدع عبر ذلك كله فيلماً يعتبر تحفة صغيرة بكل المقاييس. والتحفة الكبيرة على اي حال جاءت من بريطانيا ايضاً، وكالعادة على يد المخرج بيتر غريناواي في فيلمه الجديد "طفل ماكون" الذي عرض خارج المسابقة، وكان الفيلم الذي اثار اكبر قدر ممكن من الانقسام. والحال ان السينما التي يصفها غريناواي هي سينما الانقسام، لأن الرجل لا يقدم هنا عملاً سينمائياً من النوع السائد، بل يقدم قطعة فنية خالصة يختلط فيها فن الاوبرا بالمسرح بالفن التشكيلي بالشعر بحكاية الطفل الخارق. وكل ذلك عبر اسلوب ينتمي الى اسلوب احتفالي يقدم المسرح داخل المسرح، ممتزجاً بحساسية القرن السابع عشر، وبمسرح الطقوس والاسرار كما كان سائداً في القرون الوسطى. في خضم جنون غريناواي هذا يبقى بالتأكيد مكان للموضوع: الموضوع هو عصرنا الحاضر، مجتمع الاستهلاك والدعاية، المجتمع الذي يضحى فيه بكل شيء على مذبح المال والفعالية التجارية. والحقيقة ان غريناواي يدهشك حين يقول لك بكل بساطة ان ما أوحي اليه بهذا العمل الذي سيدخل تاريخ فن السينما من الباب العريض، انما هو دعاية رآها في الصحف لثياب "بنيتون" الايطالية وفيها استغلال لطفل وليد لا يزال مضرجاً بدمائه! نفض الغبار عن التاريخ لئن حافظ بيتر غريناواي هنا على مستواه المعهود بل وتجاوزه، فان زميله الالماني فيم فندرز شكّل بفيلمه الجديد "نائياً جداً، قريباً جداً" إحدى أكبر خيبات المهرجان. فهذا الفيلم الذي يمثل غورباتشيف دوراً فيه ! أراده مخرجه استمراراً لفيلمه الجميل "أجنحة الرغبة" 1986 فأعاد فيه الشخصيات نفسها في مدينة برلين ذاتها، ولكن بعدما توحدت المدينة. وإذا كان الفيلم الأول اعتبر ترنيمة لنهاية مدينة وعالم، ولانفتاح آفاق جديدة، فإن الفيلم الثاني اعتبر إشارة الى أن مخرجه لم يعد لديه ما يقوله. فيلم ممل وسطحي، مفبرك من ألفه الى يائه. شتمه كل الذين حضروه. وتوقعوا أن يكون موقفهم منه درساً لمخرجه كي يستعيد أنفاسه القديمة بعد فشل فيلميه الأخيرين، الفيلم الجديد، وسابقه "حتى نهاية العالم". ولكن المفاجأة السيئة كانت بالمرصاد: رأت لجنة التحكيم ان من الملائم لها أن تمنح هذا الفيلم بالذات جائزتها الكبرى فاستحقت صفيراً واستهجاناً كبيرين، واعتبر الكثيرون ورود اسم فندرز بين الفائزين لطخة في جبين نتائج كانت دون ذلك، لا غبار عليها. الغبار هو ما يريد الصينيون نفضه عن ماضيهم، سواء أكانوا من صينيي بكين أو من صينيي تايوان. بل ومن الممكن القول أنه يبدو من العسير أكثر وأكثر التفريق بين هؤلاء واولئك في خضم الفورة التي تعرفها السينما الصينية حالياً. الغبار، لأن فيلم "وداعاً يا خليلتي" لشين كيجي، الذي شارك "البيانو" في السعفة الذهبية، يرمي أولاً الى نفض الغبار عن مرحلة طويلة من تاريخ الصين، هذا التاريخ الذي ينظر اليه الفيلم من خلال حياة أوبرا بكين على مدى عقود من السنين وعبر حكاية صداقة مرتبكة حيناً، مدمرة حيناً، تقوم بين مغنين ذكرين احدهما يلعب دور امبراطور الصين في اوبرا شهيرة والثاني يلعب دور خليلته. فيلم كبير "وداعاً يا خليلتي" فيلم يربط التاريخ العام بالتاريخ الخاص ربطاً مدهشاً يجعلك تنظر طوال ساعات الفيلم وقد تملكتك عوالم وتواريخ وعلاقات أحكم المخرج ربطها والتعبير عنها غائصاً في فترة تمتد على مدى سبعين عاماً هي عمر تاريخ الصين الحديث. الفيلم الصيني الثاني الهام هو فيلم "محرك الدمى" وهو تايواني هذه المرة. أما مخرجه فهو "هو هشاو هشين" الذي كان سبق له أن فاز بالجائزة الكبرى في مهرجان البندقية عن فيلمه "مدينة الأسى". هذه المرة شاء هشين أن يروي فترة طويلة من تاريخ تايوان ولكن منظوراً اليها عبر حياة محرك دمى شهير هو لي تيين لو، المعروف على نطاق عالمي. هنا في هذا الفيلم الطويل، والبطيء الى درجة إثارة السأم أحياناً يروي لنا المخرج تاريخ بلده وتقلبات هذا التاريخ ولا سيما في فترة خضوع تايوان للاحتلال الياباني. هذا الفيلم فاز بجائزة النقد مشاركة مع فيلم "أحجار ممطرة"، وإن كانت قلة من المتفرجين توقعت له ألا يفوز بأية جائزة على الاطلاق! أرقام تقول كل شيء باعلان هذه الجوائز، وببعض التنويهات الأخرى، مثل التنويه بفيلم "أصدقاء" من جنوب افريقيا، وجائزة تقنية للفيلم الفرنسي "مازيبا" اضافة الى سلسلة من جوائز أخرى لا تعد ولا تحصى ولا يلتفت اليها أحد في نهاية الأمر، اختتم مهرجان "كان" دورته السادسة والستين التي كانت، رغم دزينة الأفلام الجيدة التي عرضت فيها، واحدة من أسوأ الدورات، وعلى أكثر من صعيد: فهي من ناحية كشفت رداءة مستوى الانتاج الفرنسي الحالي، وللأمر اهميته لأن المهرجان يقام في فرنسا. وهي من ناحية ثانية عجزت عن استقطاب أية أفلام أميركية كبيرة فيلم سكورسيزي الأخير، أو فيلم سبيلبيرغ، أو فيلم سيدني بولاك..... وهي من ناحية ثالثة كشفت عن إفلاس سريع في الانتاج السينمائي في دول أوروبا الشرقية، ولا سيما روسيا، التي يبدو أنها لم تف بأي من وعودها التي جرت المراهنة عليها طويلاً! لكن هذا لا يعني ان المهرجان لم يكن ناجحاً من ناحية استقطابه لجمهوره المعتاد. فمن يرى زحام المدينة، ولا سيما خلال أيام المهرجان الأخيرة يمكنه أن يقول أن المهرجان والسينما في خير. لكن الزحام لا يعني ان السينما في خير. ولا ينطبق هذا على المجال الفني والابداعي وحده. فالواقع ان مسؤولي الترويج في المهرجان وفي الشركات اعتبروا هذه الدورة واحدة من اردأ الدورات. وأتوا بمثال على هذا، واقع أن قيمة حجم المبادلات قد تدنت عن العام الفائت بنسبة 26 في المئة. أما قيمة الحملات الاعلانية فهبطت بما يتراوح بين 30 و40 في المئة. ولقد انعكس هذا التدني في تقلص حجم وعدد وأهمية الاحتفالات التي كانت العادة جرت على أن تقام احتفالاً بفيلم ما. في السنوات السابقة كان معدل ما ينفق على الحفلة الواحدة يتراوح بين 500 و600 ألف دولار. هذه المرة انخفض المعدل الى 300 ألف فرنك فرنسي. مسؤول عن احدى الشركات الأميركية الكبرى قال مبررا هذا ان الشركات كانت اعتادت ان تستخدم تلك الحفلات للاعلان عن قرب انتاج فيلم كبير، ولما لم يكن ثمة أي مشروع في الأفق من هذا النوع، اكتفت الشركات بالحفلات الصغيرة التي تستثمر في عقد صفقات ثانوية الأهمية. أين صورة فيفي؟ طبعاً مثل هذه الأمور لا تعني هواة السينما الحقيقيين كثيراً. لذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن يقابل مرارة الموزعين والشركات، سرور لدى الهواة، فهؤلاء تمكنوا هنا كالعادة من استعراض أفضل ما في بعض الانتاجات العالمية، من فيلم اكيرا كوراساوا الجديد والمهم "لست مستعداً بعد" الى فيلم "أحجار ممطرة" لكين لوش. وهم شاهدوا نجومهم المفضلين، أو أحسوا احساساً هائلاً بوجودهم، من شوارزينغز الى اليزابيث تايلور، الى روبيرت دي نيرو الى ستالوني وآدجاني ودونوف وغيرهم. وهم عاشوا عيد السينما كما يعيشونه دائماً: أحلاماً لا تنتهي ونقاشات وتوقعات وشمس غمرت كل شيء بحنانها. أما مسؤولو المهرجان، فإن العمل الحقيقي يبدأ بالنسبة اليهم غداً بالتحديد، حين تبدأ حساباتهم العسيرة. فالصحافيون غاضبون، والجمهور تعذب كثيراً، والمستوى العام للأفلام كان هابطاً، رغم ان مدير المهرجان جيل جاكوب يقول انه شاهد 663 فيلماً حتى يختار من بينها ما عرض! والحقائق ماثلة تطرح سؤالاً أساسياً: مهرجان كان الى أين؟ وتعزز من طرح هذا السؤال معلومات تقول، مثلا، ان نحو نصف الأفلام التي عرضت العام الفائت في "كان" لم تجد داراً تعرضها في فرنسا. وان الفيلم الذي فاز في العام الماضي "النوايا الطيبة" لم تجذب جائزة كان الكبرى لمشاهدته سوى ثلاثين ألف متفرج في طول فرنسا وعرضها!! غير ان هذا كله، لا يمنع من أن مغامرة "كان" جذابة، في صعودها وفي هبوطها. ولعل من الأمور التي ستظل في البال أكثر من غيرها، أن العروض الرئيسية لهذا العام شهدت أكثر من عشرة أفلام مخرجاتها من النساء. وان السعفة الكبرى كانت - جزئياً - من نصيب إمرأة قدمت فيلما رائعاً، فيلماً جعل الناس ينسون لأيام طويلة ان اليزابيث تايلور بدورها كانت هناك تجمع ألوف الدولارات لمعاونة مرضى السيدا. وان فنانتنا الشرقية الشهيرة فيفي عبده تصورت معها، بما يعني انها ستخلق لنفسها حاسدات كثيرات في القاهرة، حين تنشر الصورة، ولكن أين هي الصورة؟ وعدنا المتأنق بأنه سيعطينا نسخة منها ولم يفعل حتى اليوم، فهل من يقول للسيدة فيفي اننا ننتظر الصورة بلهفة!