ليست المرة الأولى التي ينال فيها المخرج النمسوي ميكائيل هانيكي واحدة من الجوائز الكبرى في مهرجان"كان"السينمائي - وجوائز كثيرة في مهرجانات أخرى أقل أهمية -، لكنه هذه المرة، ومن حيث لم يتوقع أحد، نال"السعفة الذهبية"لينضم، بكل بساطة، الى الفريق الفائز بها في"كان"والذي يضم، منذ اكثر من ستين عاماً، بعض أكبر الأسماء في تاريخ الفن السابع، من أورسون ويلز، الى كوبولا وسكورسيزي وكوستوريتسا وجين كامبيون وغيرهم. ولهذه المناسبة، أي لمناسبة إعلان فوزه ب"السعفة"في حفل الختام، جابه هانيكي الحضور بواحدة من ابتساماته النادرة. وعلى الأرجح كان كثر يومها يرونه مبتسماً للمرة الأولى. فهانيكي يبدو مثل افلامه دائماً: جدياً، مهموماً، كئيباً... إنما عميقاً. هكذا كانت سينماه منذ البداية، وهكذا لا تزال حتى اليوم. في مرات"كانيّة"سابقة، مثلاً حين فاز بجائزة لجنة التحكيم الكبرى عام 2001، عن"عازفة البيانو"، خيل الى الذين لاحظوا تقطيبه الظاهر وهو يتسلم جائزته انه حزين لعدم فوزه، يومذاك بالسعفة. وبعد ذلك خيل إليهم الأمر نفسه حين فاز بعد عامين بجائزة أفضل إخراج - مع جوائز ثانوية أخرى - في المهرجان نفسه عن"مخبوء". لكنه هذه المرة في دورة 2009 ابتسم وإن بإيجاز. ويبدو ان هذا الإيجاز كان نابعاً من ان رغبته في ألا يبعد من ذهنه خطورة موضوع فيلمه على مذبح الرغبة في الترفيه. ميكائيل هانيكي سينمائي صاحب همّ. وهو لئن كان أظهر في"الرباط الأبيض"جوهر هذا الهم في شكل واضح لجأ فيه الى التاريخ لمساءلة الحاضر - أكثر كثيراً من تقديم إجابات -، فإنما أوصل الى الذروة جوهر سينماه ككل، حيث لم يتوقف عن استشراف مكنونات شخصياته وطرح أسئلة قلقه المعاصر، وغالباً في انطلاق مما يحدث أو يكون قابلاً لأن يحدث على سبيل المثال، فيلمه قبل السابق"مخبوء"يغوص في ما ترتب عن حرب الجزائر من استشراء للعنصرية في فرنسا... ولكن هذا لا يتحقق لديه على شكل رسائل أو سينما مناضلة، أو ملتزمة، بل على شكل سينما تعطي للغة السينمائية المستقبلية والملتبسة مكاناً أول في تمظهرها. ولعل هذا المزج بين تقنيات اللغة وراهنية السرد السياسي والإيديولوجي، نابعة من سنوات العمل على أفلام تلفزيونية، شكلت بدايات هانيكي الفنية بعد ان درس الفلسفة وعلم النفس والمسرح في فيينا. بعد دراسته المتنوعة هذه عين هانيكي، المولود عام 1942، محرراً في محطة التلفزة"إي آر دي"، ليترك هذا العمل بدءاً من عام 1970 مكرساً وقته للإخراج التلفزيوني أولاً حيث حقق افلاماً عدة كتبها بنفسه للشاشة الصغيرة، قبل ان يبدأ خوض مجال السينما عام 1988، بفيلم"القارة السابقة"الذي بعد عرضه في أسبوعي المخرجين في"كان"ذلك العام، دار حول مهرجانات العالم حاصداً عدداً لا بأس به من الجوائز. وفي عام 1991، بعدما حقق من جديد عملاً لافتاً حقاً للتلفزة هو فيلم بعنوان"نعي قاتل"، حقق ثاني أفلامه السينمائية الطويلة"فيديو بني"1991 - 1992. بعده حقق واحداً من أكثر أفلامه طموحاً من ناحية اللغة السينمائية وهو"71 مقطوعة لكرونولوجيا الصدفة"، ثم بعد"القصر"عن رواية فرانز كافكا للتلفزيون 1997، حقق"ألعاب مسلية"للمرة الأولى - إذ أعاد تحقيقه اميركياً عام 2007. وفي عام 1999 حقق"الشيفرة مجهولة"، ثم عمله الأكبر - قبل"الرباط الأبيض"-"عازفة البيانو"عن رواية الفريدي جيليتيك، الكاتبة النمسوية التي انطلقت شهرتها منذ ذلك الحين لتنال لاحقاً جائزة نوبل للآداب. ولقد حقق هانيكي بعد ذلك فيلمين كبيرين له، عرضا في مسابقة"كان"الرسمية 2002 و2004، وهما"زمن الذئب"الذي لم ينل أية جائزة هناك، ثم"مخبوء"الذي، إضافة الى جوائزه في"كان"نال ما لا يقل عن ثلاثين جائزة عالمية. كل هذا، صنع من ميكائيل هانيكي، اسماً كبيراً في عالم سينما اليوم، إنما من دون ان يخرجه من الهامش الفكري والوجودي الذي يصر على البقاء فيه، مشتغلاً على سينماه وعلى همومه... فهل يخرج"الرباط الأبيض"الجامع للهموم، وللغة السينمائية الجميلة من هذا الهامش اخيراً؟ نشر في العدد: 16856 ت.م: 29-05-2009 ص: 22 ط: الرياض