مساء الأحد الماضي انتهت الدورة الجديدة لمهرجان كان السينمائي الدولي. وأعلنت لجنة التحكيم أسماء الأفلام الفائزة بالجوائز الرئيسة، وهي على أي حال قليلة العدد الى حد يثير الدهشة: 7 جوائز، الى جانب الكثير من الجوائز الصغرى والأقل أهمية. وكالعادة أثار اعلان الجوائز سرور البعض وسخط البعض الآخر، بينما رأى البعض الثالث ان الهم هنا ليس الجوائز في حد ذاتها، وانما المهرجان نفسه، بعروضه وبتنوع أفلامه، بالطابع الكوزموبوليتي الخاص به، وبكونه المرآة الأهدف لما يحدث في سينما اليوم. فالحال ان مهرجان كان الذي وصل هذا العام الى دورته الرابعة والخمسين أصبح واحدة من أهم "المؤسسات" السينمائية في العالم، وإن كان حضور الأميركيين الفاعلين فيه، يتضاءل عاماً بعد عام. فالاستوديوهات الكبيرة، وان حضر مسؤولوها وعلى رأسهم جاك فالنتي، دورات المهرجان، تفضل ألا تعرض أفلامها التجارية الكبيرة فيه، تاركة تظاهراته الثقافية للأفلام المستقلة أو لسينما المؤلفين. الا ان هذا الاستنكاف لم يمنع السينما الأميركية - الكبيرة - من الحضور هذا العام ممثلة بفيلمين رائعين على أي حال هما "مولان روج" و"شريك"، الا ان ضخامتهما لم تشفع لهما لدى لجنة التحكيم التي ترأستها النجمة ليف أولمان، فلم يحظ أي منهما بجائزة، وكثيرون رأوا في الأمر ظلماً، قلل من شأنه النجاح الرائع الذي حظي به فيلم أميركي كبير هو "يوم القيامة... الآن" الذي كان فاز بالسعفة الذهب قبل عشرين سنة، وها هو مخرجه فرانسيس فورد كوبولا يعود به في عرض عام. وقد زاده نحو ساعة. فيلم كوبولا عرض خارج المسابقة ومع هذا قال كثيرون انه لو عرض ضمنها لكان فوزه، ثانية، بالسعفة مؤكداً. من الكبار عدا كوبولا كان هناك بعض أساطين فن السينما، وفي داخل المسابقة، ومنهم جان - لوك غودار وجاك ريفيت ومانويل دي اوليفيرا وشوهي ايمامورا. الا ان اختيارات لجنة التحكيم ذهبت، كما نعرف، ناحية أبناء الجيل الأصغر سناً، وبالتحديد الجيل الذي ربي في دورات "كان" السابقة وارتبط اسمه باسم المهرجان، فمن ناني موريني الى الأخوين كوين، ومن ديفيد لينش الى ايزابيل هوبير، الى هسيوهسيان هسيين وميشال هانيكي، أتى معظم المشاركين من أجواء كان. لذا لم يشعر أحد ان في الأمر جديداً... وكانت النتائج نفسها بلا مفاجآت. وهنا نطل على الأفلام الرئيسة الفائزة. "غرفة الابن" لناني موريتي عندما شارك موريتي في مهرجان كان للمرة الأولى كان لا يزال شاباً خرج لتوه من المراهقة، وكان لا يزال ممثلاً، إذ تولى بطولة فيلم "أبي وسيدي" للأخوين تافياني. بعد ذلك شارك كمخرج عبر أفلام عدة له، كان يغلب عليها طابع السيرة الذاتية والتوقف عند بعض السمات السياسية للمجتمع الايطالي. وهو لم يتمكن في أي من تلك الأفلام من الحصول على "السعفة الذهب" التي حلم بها طويلاً. الآن في "غرفة الابن" - وفرنسا شريكة في انتاجه - حقق حلمه وفاز بالسعفة، عن فيلم هو أقل أفلامه ذاتية وأكثرها كلاسيكية ونجاحاً في ايطاليا حتى اليوم. في هذا الفيلم يقدم موريتي حكاية عائلة هادئة متوسطة الحال. الابن طبيب نفسي والأم ناشرة، والابن والابنة رياضيان، على رغم ان الابن لا يحب ان يفوز. ذات يوم اذ يعود الأب من عيادة مريض له يفاجأ بأن ابنه مات. وهكذا يشغل موت الابن ودفنه ومراسمه والحزن، الجزء الثاني من الفيلم، فيقدم الينا موريتي ببراعته كمخرج ولكن ايضاً كممثل يؤدي الدور الأول حزن العائلة والصمت الذي يهيمن على حياتها وذكريات أفرادها مع الابن الراحل. الا ان هذا المناخ السوداوي الكئيب سرعان ما يولد نقيضه قبل نهاية الفيلم، إذ تستعيد العائلة حياتها، من دون ان تنسى حزنها: وكأن الحزن نفسه أصبح مولداً للحياة. "معلمة البيانو" لميشال هانيكي اذا كان فوز "غرفة الابن" بالسعفة بدا متوقعاً منذ البداية ولأسباب بعضها فني بحت والبعض الآخر تجاري وانتاجي، واذا كان هذا الفوز نال ترحيب الجميع، فإن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة الى فيلم النمسوي ميشال هانيكي "معلمة البيانو"، خصوصاً ان المفاجأة السيئة كانت في فوز هذا الفيلم بثلاث جوائز رئيسة، بينها "جائزة لجنة التحكيم الكبرى" وهي تلي "السعفة الذهب" من حيث الأهمية. فلئن كان الكثيرون توافقوا منذ البداية على ان ايزابيل هوبير تستحق جائزة أفضل ممثلة عن دورها في هذا الفيلم، فما من أحد رشح الى فوز الفيلم نفسه بجائزتين أخريين، إذ فاز بطله الشاب بنوا ماجيمال بجائزة أفضل ممثل. يتحدث "معلمة البيانو" عن الآنسة كوهوت هوبير مدرسة البيانو في فيينا التي تعيش حياتها لفنها، وتكتفي من الجنس والعاطفة بقشورهما الضالة. لكن ذلك يتبدل حين يقع موسيقي شاب في غرامها ويحاول اجتذابها الى حياته، فتتردد، ثم حين تقبل تحاول ان تملي عليه شروطها وضروب انحرافها، ويقوم بين الاثنين صراع ينتهي باتخاذ المعلمة قراراً بقتل الشاب. لن نروي هنا، بالطبع، نهاية هذا الفيلم المأسوية، لكننا نكتفي بالقول ان الذين شاهدوا الفيلم خرجوا من عرضه وهم على يقين ان لولا الأداء المتميز الذي قدمته ايزابيل هوبير فيه، لما كان من شأنه حتى ان يعرض في المهرجان. لذلك لم يخطر في بال أحد انه سيفوز بأي جائزة. من هنا كان الاستياء كبيراً الى درجة ان المخرج نفسه بدا حين اعتلى المنصة لاستلام جائزته مرتبكاً عاجزاً عن الكلام. أياً يكن الأمر، فإن هانيكي الذي يشارك في "كان" للمرة السادسة، لم يكن في هذا الفيلم في أحسن حالاته، بل بدا كأن النص الأدبي - الذي اقتبس منه الفيلم - مسيطر عليه تماماً. "الرجل الذي لم يكن هناك" للأخوين كوين هذا الفيلم الذي كتبه ايتان كوين وأخرجه جويل كوين ومثله بيلي بوب ثورنتون الى جانب فرانسيس ماكدورماند زوجة جويل وين، كان يستحق، بالطبع، أكثر قليلاً من جائزة أفضل اخراج التي منحت له مناصفة مع "طريق مالهولاند". فهو فيلم متميز موزون الاخراج، عرف فيه مؤلفاه كيف يقدمان تحية متميزة الى سينما الأربعينات الأميركية، وأيضاً الى نوع خاص من الأدب البوليسي الأميركي كان جيمس كين صاحب رواية "ساعي البريد يدق الباب دائماً مرتين" التي اقتبست للسينما أكثر من مرة، احداها بتوقيع لوتشينو فيسكونتي أفضل ممثليه. الفيلم الذي صور بالأسود والأبيض وتدور حكايته في أميركا الأربعينات، جعل بطولته لحلاق يعيش حياة لا معنى لها، يتأمل رؤوس الزبائن ويعجز حتى عن ان يحلم بحياة أفضل، فالحلاق حلاق وليس أكثر. ولكن ذات يوم يقرر الحلاق ان يخرج عن وضعه ويشارك في تأسيس شركة للتنظيف على الناشف، واذ كان يحتاج الى عشرة آلاف دولار، ويكتشف ان زوجته على علاقة برب عملها المتزوج من ثرية، يقرر ان يبتز هذا الأخير، وينجح في ذلك. ولكن سرعان ما تقبض الشرطة على زوجته بعد ان يقتل، هو رب عملها، وتعدم بتهمة القتل. ولكن يحدث هنا ان يختفي صاحب المشروع الذي كان الحلاق اعطاه العشرة آلاف دولار حصته في المشروع. فيعود الحلاق الى مهنته، لكنه يجد عزاءه في افتتانه بشابة تعزف البيانو. ذات يوم يكون انتقام الله منه لزوجته - وهذا ما يذكر بعوالم جيمس كين - إذ تنقلب السيارة به وبالفتاة، وحين ينجو من الحادث، تكون الشرطة اكتشفت ان صاحب المشروع انما مات قتلاً، فيتهم الحلاق بقتله ويعدم. عبر هذه الحكاية المعقدة، وعبر ادارة متميزة للممثلين وأجواء هتشكوكية، تمكن الاخوان كوين من ان يقدما - مرة أخرى - فيلماً مميزاً، هما اللذان يعودان الى "كان" بفيلم جديد كما اعتادا ان يفعلا منذ عقد ونصف العقد من السنوات. وهما نالا أكثر من جائزة في "كان" بينها السعفة الذهب عام 1991 عن رائعتهما "بارتوت تنك". هذه المرة أيضاً يزور الاخوان كوين السينما الأميركية وأنواعها، ويقدمان تحية اليها وينجحان في ذلك الى حد مدهش. "طريق مالهولاند" لديفيد لينش السينما هي أيضاً الموضوع المختبئ خلف هذا الفيلم الذي تقاسم مع فيلم الأخوين كوين جائزة الاخراج. فأحداثه تدور في هوليوود، وتحديداً انطلاقاً من حادث سيارة يقع على الطريق الشهير الذي يشق عاصمة السينما من أولها الى آخرها، ويؤدي الى فقدان صبية ذاكرتها. وهذه الصبية، وهي في عز أزمتها، تلتقي صبية استرالية من عمرها تكون مهمتها ان تساعدها على استعادة هويتها التي فقدت مع الذاكرة. من الصعب طبعاً تلخيص ما يحدث في فيلم ديفيد لينش الجديد في سطور قليلة، لأنه ليس فيلم حبكة بمقدار ما هو فيلم اجواء. انه عالم لينش الذي كان وصل الى ذروته في "سايلور ولولا" الفيلم الذي نال المخرج عنه "السعفة الذهب" عام 1990، وأطلقه عالمياً. بعده شارك لينش في كان مرات عدة: مرة بفيلم "توين بيك" ومرة بفيلم "الحكاية المستقيمة". الا ان النقاد قالوا دائماً إن الذروة لديه ظلت متمثلة في "سايلور ولولا"، مع ان واحداً من أفلامه اللاحقة وهو "الطريق الضائعة" عاد وحقق نجاحاً كبيراً. وفي شكل من الأشكال يعتبر "طريق مالهولاند" مشابهاً ل"الطريق الضائعة". لكن الفيلم الجديد أكثر عنفاً داخلياً، وأكثر قوة بصرية. فيه يعود لينش ليبرز طاقاته الخلاقة كواحد من أكبر السينمائيين الأميركيين في زمننا هذا. ومع ذلك لا يمكن النظر الى فيلمي الأخوين كوين وديفيد لينش، الا خارج منظومة السينما الأميركية الكبيرة، إذ انهما - بعد كل شيء - ينتميان وبقوة الى سينما المؤلف، وهما في هذا المعنى يبدوان أوروبيين. من هنا لم يكن من قبيل المصادفة ان تكون رساميل أوروبية - وخصوصاً فرنسية - شاركت في تمويلهما، وان يحسب نجاحهما النسبي، في نهاية الأمر، نجاحاً لسياسة الانتاج الأميركية التي تحاول التصدي للبولدوزر الانتاجي الأميركي. "أرض لا أحد" للبوسني دانيس نانوفيتش ضمن اطار هذا التصدي نفسه لوحظ في دورة كان هذا العام ان الأموال الفرنسية خصوصاً، والأوروبية الى حد ما، كانت وراء الكثير من الانتاجات التي أتت من بلدان أوروبية وآسيوية، اضافة الى الأفلام الفرنسية، وأفلام سينما المؤلفين الأميركية. ومن هذه الأفلام فيلم "أرض لا أحد" الذي فاز بجائزة افضل سيناريو، خاتماً بهذا سلسلة الجوائز الأساسية، اذا اعتبرنا الجائزة المتبقية جائزة تقنية بحتاً، ومنحت لمهندسة الصوت التي عملت في فيلمين تايوانيين شاركا في المسابقة الرسمية. "أرض لا أحد" هو الفيلم الأول لمخرجه وكاتبه الذي بالكاد تجاوز الثلاثين من عمره. واحداثه تدور عام 1993 في منطقة خالية خلال الحرب البوسنية، حيث يتواجه عدوان: أحدهما بوسني والثاني صربي، في صراع حاد تحت سمع ضابط فرنسي ومندوبي الصحافة العالمية وبصرهم. اراد نانوفيتش ان يقول من خلال فيلمه عبثية الحرب، وتلك الحرب بالتحديد، وهو نجح في ذلك، الا ان نجاحه في قول هذا لا يعني ان السيناريو الذي كتبه كان الأفضل. واضح ان جائزته كانت سياسية وذات ابعاد فرنسية. ومع هذا لم يُثر احتجاجٌ كبير في وجهه. كان التعاطف العام معه واضحاً منذ البداية. الى هذه الجوائز الرئيسة، كانت هناك، بالطبع، جوائز أخرى. والى هذه الأفلام كانت ثمة أفلام أخرى. فدورة كان، كما تفرض قواعد اللعبة، تعرض سنوياً عشرات الأفلام. ولئن كانت المهنة الأصعب، كل مرة، هي تلك التي تلقى على عاتق لجنة التحكيم واضعة اياها امام صعوبة الاختيار ودقة الحسابات، فإن ما يمكن قوله ان الاختيار نادراً ما كان يلقى اجماعاً. وهو هذه المرة لم يشذ عن ذلك. وأياً يكن الأمر، فإن هذا كله سرعان ما ينسى ويبقى ما يجب ان يبقى: الأفلام نفسها، ما في هذه الأفلام وما يمكن ان تضيفه. والحال ان ما في أفلام هذه الدورة كان كثيراً وممتعاً، بصرف النظر عن الجوائز. وفي هذا وحده ما يبرر، بالطبع، الاسم الذي يستحقه مهرجان كان: عيد السينما السنوي.