«الإحصاء»: 12.7% ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    حلاوةُ ولاةِ الأمر    حائل.. سلة غذاء بالخيرات    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    الشيباني يحذر إيران من بث الفوضى في سورية    رغم الهدنة.. (إسرائيل) تقصف البقاع    الحمدان: «الأخضر دايماً راسه مرفوع»    تعزيز التعاون الأمني السعودي - القطري    المطيري رئيساً للاتحاد السعودي للتايكوندو    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    مليشيات حزب الله تتحول إلى قمع الفنانين بعد إخفاقاتها    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    جدّة الظاهري    الأبعاد التاريخية والثقافية للإبل في معرض «الإبل جواهر حية»    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    5 علامات خطيرة في الرأس والرقبة.. لا تتجاهلها    في المرحلة ال 18 من الدوري الإنجليزي «بوكسينغ داي».. ليفربول للابتعاد بالصدارة.. وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    ارتفاع مخزونات المنتجات النفطية في ميناء الفجيرة مع تراجع الصادرات    وزير الطاقة يزور مصانع متخصصة في إنتاج مكونات الطاقة    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    أمير الشرقية يرعى الاحتفال بترميم 1000 منزل    الأزهار القابلة للأكل ضمن توجهات الطهو الحديثة    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    مسابقة المهارات    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    وهم الاستقرار الاقتصادي!    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    %91 غير مصابين بالقلق    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    البحرين يعبر العراق بثنائية ويتأهل لنصف نهائي خليجي 26    التشويش وطائر المشتبهان في تحطم طائرة أذربيجانية    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    حرس حدود عسير ينقذ طفلاً مصرياً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    ملك البحرين يستقبل الأمير تركي بن محمد بن فهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الوسط" تنشر فصولاً من كتاب اميركي جديد يكشف اسراراً مهمة عن الشرق الاوسط . هكذا ساعد الاميركيون العراق لمنع انهيار جبهته في الحرب مع ايران صراع داخل الادارة الاميركية بين أنصار اسرائيل وأنصار العرب 6
نشر في الحياة يوم 26 - 04 - 1993

تتضمن الحلقة السادسة من كتاب المسؤول الاميركي السابق هاوارد تايشر سراً مهماً وهو ان الولايات المتحدة قدمت للعراق مساعدة ملموسة وأساسية حالت دون انهيار الجبهة العراقية في الحرب مع ايران كما تكشف هذه الحلقة معلومات جديدة عن الصراع داخل الادارة الاميركية بين انصار اسرائيل وأنصار العرب والفلسطينيين. وهاوارد تايشر مسؤول اميركي سابق عمل في وزارة الخارجية الاميركية ومجلس الامن القومي الاميركي في عهدي الرئيسين جيمي كارتر ورونالد ريغان وساهم في التخطيط للسياسة الاميركية في الشرق الاوسط. وكان اول منصب تسلمه تايشر هو محلل لشؤون الشرق الاوسط في وزارة الخارجية الاميركية في تموز يوليو 1977 في عهد كارتر، ثم تسلم بعد ذلك مناصب ومسؤوليات عدة ابرزها منصب مدير شؤون الشرق الادنى وجنوب آسيا ثم مدير الشؤون السياسية والعسكرية في مجلس الامن القومي في الفترة بين 1982 و1987. وقام تايشر بمهمات سرية وعلنية عدة في الشرق الاوسط، سواء في ايران أو لبنان او مصر او سورية او اسرائيل او دول اخرى. ويرئس تايشر منذ 1989 شركة كومبيوتر، كما انه يعمل كمستشار لعدد من الشركات والدول في العالم. وقد ألّف هذا الكتاب الذي يحمل عنوان "الركيزتان الأساسيتان لعاصفة الصحراء" بالتعاون مع زوجته غايلي وهي خبيرة في القضايا الدولية ومكافحة الارهاب. وقد حصلت "الوسط" على حق نشر ابرز فصول هذا الكتاب وهو عبارة عن مذكرات تايشر، قبل اسابيع من صدوره في الولايات المتحدة.
وما يهمنا من نشر الكتاب هو كشف المعلومات الواردة فيه من دون ان يعني ذلك تأييد مضمونه.
وفي ما يأتي الحلقة السادسة من هذا الكتاب:
وصل مناحيم بيغن رئيس الوزراء الاسرائيلي الى واشنطن للاجتماع بالرئيس ريغان في الحادي والعشرين من حزيران يونيو 1982، في الوقت الذي كانت القوات الاسرائيلية تواصل عملية غزو لبنان. واقترح جورج بوش نائب الرئيس الاميركي وكاسبار واينبرغر وزير الدفاع والقاضي كلارك مستشار ريغان لشؤون الامن القومي فرض عقوبات عسكرية على اسرائيل اي وقف امدادها بأية اسلحة اميركية على أساس انها انتهكت اتفاقها مع واشنطن بقصر استخدام الأسلحة على الأغراض الدفاعية. وحثّ هؤلاء الرئيس ريغان على اقصاء الولايات المتحدة عن الاجراءات الاسرائيلية في لبنان. كذلك طالب واينبرغر بتخلي الولايات المتحدة عن موقفها التقليدي الذي يحظر الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية. اما وزير الخارجية الكسندر هيغ والسفيرة الاميركية في الأمم المتحدة جين كيركباتريك ووليام كيسي مدير وكالة المخابرات المركزية فقد دافعوا عن الغزو الاسرائيلي على اساس انه "دفاع عن النفس" وقالوا انه يشكل فرصة للولايات المتحدة لكي توسع نفوذها الاقليمي على حساب السوفيات، كما انه "يلحق ضرراً كبيراً بالبنية الأساسية للارهاب الدولي".
وفي احد الاجتماعات قال واينبرغر انه نظراً الى ان بيغن نفسه كان ارهابياً في السابق فان ياسر عرفات يمكن ان يصبح ايضاً رجل دولة. وواصل واينبرغر الحديث وحث الرئيس ريغان على اغتنام الفرصة واعادة النظر في موقف اميركا من منظمة التحرير. الا ان كيركباتريك قاطعته وقالت: "كفى. انك تتحدث عن عرفات وكأنه مصلح زراعي. ان عرفات ارهابي دولي يدعمه السوفيات". وكان الرأي منقسماً في الاجتماع الى درجة شديدة. وعندها تدخل ريغان ليؤيد كيركباتريك. ومضى ليقول ان افضل فرصة امامنا لانهاء القتال والعودة الى الديبلوماسية هي الاجتماع الى بيغن ومحاولة التأثير عليه.
كان الصراع على سياسة الشرق الاوسط في الادارة دليلاً على الافتقار الى القيادة الرئاسية في هذه السياسة واخفاق ريغان في السيطرة على وزرائه ومستشاريه. فبعد ان تأكد موعد اجتماع ريغان مع بيغن اعد هيغ مذكرة مختصرة وجدولاً بالنقاط التي سيبحثها الاجتماع من دون اي انتقاد للسياسة الاسرائيلية، وأكد رغبة اميركا في وقف القتال بأسرع ما يمكن، كما اشار الى الضربة الناجحة التي وجهتها اسرائيل الى الارهاب الدولي. وعندها ثار كلارك وغضب من المذكرة التي اقترحها هيغ وما اعتبره كلارك تذللاً لبيغن. ولهذا اصدر تعليماته اليّ لأصوغ مع جيفري كيمب مذكرة بديلة تبلغ بيغن استياء الرئيس الشديد من غزو لبنان ووجوب وقف القتال على الفور. وقرر كلارك ان يجتمع الرئيس الى بيغن على انفراد في المكتب البيضاوي حيث يمكنه تسليم هذه الرسالة الشديدة اللهجة من دون وجود احد معهما. وبعد اللياقة المعتادة في مثل هذه المناسبات اخرج ريغان مجموعة من الأوراق من جيبه، وفوجئ بيغن عندما قرأ عليه ريغان تلك الرسالة المتشددة. وعندما دخل ريغان وبيغن والسفير صموئيل لويس قاعة مجلس الوزراء بعد ذلك، كان من الواضح ان بيغن يشعر بالاهتزاز. ومع ان بيغن راح بعد ذلك يلقي خطاباً مطولاً عن كميات الاسلحة التي استولت عليها القوات الاسرائيلية من منظمة التحرير في جنوب لبنان فان صوته كان يرتجف، ولم يكن واثقاً مما يجري حوله. فالى جانب الرئيس كان هيغ يبتسم ويهز رأسه تعبيراً عن تأييده وتشجيعه لما يقوله بيغن، وعلى الجانب الآخر من الرئيس كان هناك بوش وكلارك وواينبرغر يحاولون مجدداً تأكيد ما ورد من انتقادات في كلمة الرئيس، ولم يخفوا غضبهم من استغلال اسرائيل لسخاء الولايات المتحدة وحسن نيتها.
وكان هيغ يدعو الى عدم ممارسة اي ضغط على اسرائيل لكي ترفع الحصار عن بيروت قبل اجلاء الفلسطينيين المقاتلين عنها. اما فيليب حبيب فقد اراد استغلال الفرصة لكي يجبر المنظمة بعد اضعافها، لا تدميرها، على تأييد محادثات سلام بين الاردن واسرائيل. وكان هذا مثالاً آخر على تعدد الاصوات التي تتحدث بها ادارة ريغان.
وعلى الصعيد الديبلوماسي أدى انقسام الادارة الاميركية الى توجيه اشارات متفاوتة ومتباينة الى السوريين والمنظمة. اذ كان بعض الزعماء العرب يثير مع الديبلوماسيين الاميركيين نقطة تثير قلقه وهي الخوف من دخول القوات الاسرائيلية بيروت مما يعني سابقة ليس لها مثيل. ولهذا كان هؤلاء الزعماء العرب يضغطون لكي تقنع الولايات المتحدة اسرائيل بعدم غزو بيروت. وقد ابلغ بوش وواينبرغر جهات عربية ان الولايات المتحدة لن تسمح للقوات الاسرائيلية بدخول بيروت.
مساعدة اميركية للعراق
بينما كانت الادارة الاميركية منهمكة بالغزو الاسرائيلي للبنان، كانت الحرب العراقية - الايرانية تسير لصالح ايران. فمع اواسط حزيران يونيو 1982 كانت التوقعات تشير الى هجوم ايراني كبير على العراق. اذ كانت وحدات المدفعية والمشاة والمدرعات تحتشد في مواقع عدة على الحدود، بينما افرغت السلطات الايرانية جميع المستشفيات من المرضى باستثناء الحالات الخطيرة. وكان من الواضح ان الطريق الاستراتيجية بين البصرة وبغداد ستكون هدفاً اساسياً للهجوم. ورأى كثير من المحللين ان نجاح ايران في قطع هذه الطريق سيجعلها تحاصر القوات العراقية على الجبهة وتمهد بذلك لانهيار عراقي كامل ونصر ايراني. وإذا ما حدث ذلك فان القوات الايرانية ستزحف على بغداد بهدف القضاء على صدام حسين وفرض نظام اصولي تابع لطهران.
كانت الولايات المتحدة حددت فجوة في القوات العراقية الى الشمال قليلاً من البصرة. وكان من الواضح ان طهران تدرك نقطة الضعف العراقية هذه لأن القوات الايرانية كانت تستعد لشن هجوم رئيسي على القوات العراقية من تلك الفجوة. وإذا ما نجح الايرانيون في اختراق هذا القطاع فانهم سيلتفون فعلاً حول الوحدات المتقدمة من الجيش العراقي ويدمرونها من الخلف ثم يتحولون نحو البصرة وبغداد. ووجدت الولايات المتحدة نفسها في مواجهة وضع تريد فيه الحيلولة دون انهيار العراق. وكنا جميعاً على اتفاق في ما بيننا، على انه ليس هناك الكثير مما تستطيع الولايات المتحدة فعله على المدى القصير لتغيير الوضع على الأرض بالنسبة الى العراق. ومع ذلك طلبت جهات عربية وأوروبية من الولايات المتحدة بيع اسلحة الى العراق الا ان الولايات المتحدة رفضت ذلك، وأبلغت العرب والأوروبيين ايضاً ان العراق لا يحتاج الى المزيد من الاسلحة وإنما يحتاج الى قيادة ميدانية ذكية على أرض المعركة قادرة على استغلال الاسلحة التي لديها بشكل افضل.
لكن امكانية انتصار ايران وما ينطوي عليه ذلك، دفعت الى مناقشة خيار يمكنه مساعدة العراقيين على صد الهجوم الايراني. اذ تستطيع الولايات المتحدة ان تبلغ صدام حسين بنقاط الضعف في خطوطه وبالخطط الايرانية لشن هجوم على تلك المواقع. وبعد نقاش مستفيض تقرر ان هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن بها للولايات المتحدة ان تحول دون الانتصار الايراني. وهكذا بعثت الادارة الاميركية برسالة الى صدام حسين عن طريق طرف ثالث تبلغه فيها انها تريد تقديم بعض المساعدة الى العراق في حربه ضد ايران. وأبلغت واشنطن العراق المعلومات المتعلقة بنقاط الضعف العراقية. لكن العرض تجاوز ذلك. اذ اقترحت واشنطن ارسال ضابط مخابرات اميركي الى العراق ليشرح انتشار القوات مستعيناً بالخرائط والصور التي التقطتها الاقمار الصناعية. وسرعان ما قبل العراقيون العرض، وتلقوا المعلومات واتخذوا الخطوات اللازمة لتعديل دفاعاتهم. وهكذا عندما شنت ايران هجومها بعد بضعة اسابيع كانت المواقع الدفاعية العراقية تعززت الى درجة كبيرة، واستطاع العراقيون صد الهجوم الايراني بعد ان الحقوا بالمهاجمين خسائر فادحة.
عقب ذلك بدأت علاقة بغداد مع الولايات المتحدة تتحسن بسرعة كبيرة. وبعد ذلك اوفد صدام حسين مسؤولاً عراقياً بارزاً هو نزار حمدون الى واشنطن لكي يبحث حقيقة هذا "التحول" الاميركي الى جانب العراق. ومن المفارقات ان الاجراءات التي اتخذتها اسرائيل، اولاً ضد المفاعل النووي العراقي ثم غزو لبنان، ادت الى تغيير جذري في البيئة السياسية في واشنطن في عهد ريغان وساعدت على تعزيز التقارب الاميركي مع العراق.
الاميركيون في لبنان
في اوائل تموز يوليو 1982 ابلغ حبيب واشنطن ان منظمة التحرير باتت على وشك اتخاذ قرار بالانسحاب من لبنان اذا تم التوصل الى وسيلة لحماية الفلسطينيين الذين سيظلون وراءها. ونظراً الى ان حبيب كان يعرف ان اسرائيل سترفض وجود قوة حفظ سلام من الأمم المتحدة فقد اقترح تشكيل قوة دولية متعددة الجنسيات لأن هذا سيقنع عرفات ايضاً بضمان سلامة الفلسطينيين اثناء انسحاب قوات المنظمة وبعد انسحابها.
وعلى رغم الاعتراض القوي من جيمس بيكر وواينبرغر على مشاركة اية قوات اميركية، صدرت تعليمات اليّ مع كيمب وأوليفر نورث لاعداد مذكرة للرئيس ريغان تحلل طلب حبيب وتصفه بأنه فرصة لتعزيز الاستراتيجية الاميركية في المنطقة. وكان الوضع معقد كما كان على ريغان ان يحصل على موافقة الكونغرس وتأييده لارسال القوات الاميركية. كذلك كان لا بد من تأمين موافقة بعض الدول على قبول الفلسطينيين، واقناع بعض الدول الأوروبية بالمشاركة في القوات اللازمة لحفظ السلام.
ووافق ريغان على مشاركة الولايات المتحدة في "حفظ السلام بصورة موقتة" في بيروت وأبرقت وزارة الخارجية القرار الرئاسي الى حبيب الذي أبلغه بدوره الى بيغن. وتسربت انباء القرار في القدس في اليوم التالي مما خلق ازمة اخرى في واشنطن بين الادارة والكونغرس. اذ ان حكومة اجنبية عرفت بقرار الادارة ارسال قوات اميركية الى لبنان قبل استشارة الكونغرس. ومع ذلك فان المفاوضات بين حبيب والمنظمة على الانسحاب استغرقت ستة اسابيع شهدت تصعيداً عسكرياً اسرائيلياً كبيراً. والواقع ان عدم استشارة ادارة ريغان الكونغرس مسبقاً كان نموذجاً من نماذج الصراع بين الادارة والكونغرس في ميدان الشؤون الخارجية في عهد ريغان.
في اثناء ذلك واصل الاسرائيليون إمطار بيروت بالقنابل وقطعوا عنها الكهرباء والماء لزيادة الضغط على الزعماء اللبنانيين وزعماء المنظمة.
كان هيغ استقال في وقت سابق عندما اعتبر ان كلارك وإدوين ميس وجيمس بيكر يقوضون مكانته بصفته المستشار الأول للرئيس في مجال الشؤون الخارجية. وعلى رغم ان واينبرغر حاول تولي منصب وزير الخارجية فان ريغان اختار جورج شولتز للمنصب.
واجتمع بنا شولتز في مجلس الامن القومي لنطلعه على احدث تطورات الشرق الاوسط ومشكلات المنطقة من الاستيطان في الأراضي المحتلة الى الوضع في لبنان الى الحرب العراقية - الايرانية. وانتهزت الفرصة فقلت له اننا بينما نسلط اهتمامنا على شرق البحر الابيض المتوسط هناك مخاطر اخرى تتعرض لها المصالح الاميركية على المدى البعيد. ورد شولتز بأن انتقد اسرائيل والولايات المتحدة لعدم الاهتمام بعرض نهج واقعي على الفلسطينيين لايجاد حل سلمي.
خلال الشهرين التاليين تفاوض حبيب مع المنظمة من خلال وسطاء، وواصلت بيروقراطية الامن القومي في واشنطن العمل طوال الليل والنهار لانجاز اتفاق يضمن اجلاء المنظمة بسلام عن بيروت ويسمح بانتشار القوات المتعددة الجنسية ومنع تدخل اسرائيل اثناء الانسحاب وضمان حماية الفلسطينيين في مخيماتهم.
وفي الوقت نفسه جمع شولتز عدداً من المستشارين برئاسة بول وولفوتز لوضع مبادرة سلمية للشرق الاوسط تُعرض على الاسرائيليين والفلسطينيين والعرب الآخرين، لا سيما الاردن وسورية، عملية سلام نشطة جديدة. وكانت العملية تستند على اتفاقات كامب دايفيد وعلى ما قيل لنا عن تفاهم توصل اليه مساعد وزير الخارجية فليوتس مع الملك حسين. وعلى عكس كامب دايفيد الذي التزم الصمت بالنسبة الى الوضعية النهائية لقطاع غزة والضفة الغربية اقترحت الولايات المتحدة الآن الترويج لترتيبات الوضعية النهائية التي تعيد السيادة على الأراضي المحتلة الى الاردن. وقد اعتقد فليوتس والسفير الاميركي في الاردن ريتشارد فايتز ان الملك حسين سيصدر خلال 48 ساعة من اعلان الولايات المتحدة موقفها الجديد، بياناً رسمياً يعرب فيه عن استعداده للمشاركة في عملية التفاوض استناداً الى هذه المبادئ الجديدة. ونتيجة لذلك القى ريغان خطابه المعروف في الأول من ايلول سبتمبر 1982 بينما كان المقاتلون الفلسطينيون يغادرون بيروت على متن سفينة متجهة الى قبرص. وأصبح الخطاب يُعرف بمبادرة ريغان التي نالت الثناء من داخل الولايات المتحدة وخارجها. اما في اسرائيل فقد توقع بيغن، وكان مصيباً في ذلك، ان الولايات المتحدة تهدف الى خلق فرصة سياسية للفلسطينيين تحرم اسرائيل من تحقيق النصر الذي كانت تسعى اليه من خلال تدمير المنظمة. وهكذا رفض بيغن المبادرة جملة وتفصيلاً، وعلى الفور. ومع ان بيغن استغرب هذا التحول في الموقف الاميركي من الأراضي المحتلة فانه لم يستطع ان يفهم كيف ادى سلوكه وسلوك شارون، على مدى عام كامل، الى توليد عدم ثقة لدى الادارة الاميركية باسرائيل.
اثناء انتظار الاعلان الموعود من الملك حسين بقبول مبادرة ريغان اصدرت الجامعة العربية، في اجتماعها في الرباط، اعلاناً لم يؤيد ولم يعارض المبادرة المقترحة.
ولم ينل الملك حسين تفويضاً عربياً لكي ينضم الى العملية التي اقترحها ريغان كممثل للفلسطينيين.
وبعد ايام عدة تلقينا في مجلس الامن القومي تقريراً مفاده ان واينبرغر امر من جانبه وحدة مشاة البحرية بمغادرة بيروت والعودة الى سفنها في العاشر من ايلول سبتمبر 1982. وزار وفد من وجهاء بيروت الغربية السفارة الاميركية للاعراب عن خشيتهم من العنف السياسي وعدم الاستقرار المحتمل. الا ان الوقت كان فات. ذلك انه كجزء من اتفاق الانسحاب تم تخويل القوة المتعددة الجنسيات بالبقاء في بيروت لغاية ثلاثين يوماً من اجل تمكين الجيش اللبناني من التحرك لحماية الفلسطينيين الذين ظلوا وراء المنظمة. لكن واينبرغر لم ينتظر تلك الترتيبات وأمر المشاة بالانسحاب. وفي اليوم التالي صدرت الصحف البيروتية بعنوان: "آخر الوافدين... أول المغادرين". وإثر ذلك حذا الفرنسيون والايطاليون حذو الاميركيين وتركوا بيروت من دون الضمانات الدولية التي كانت حصلت عليها المنظمة والحكومة اللبنانية.
"الأسد أعطاني كلمته"
كان بشير الجميل انتخب رئيساً للبنان في شهر آب اغسطس 1982، وكانت اسرائيل تراجعت قليلاً عن خطوطها قرب بيروت، بينما واصلت الصحف امتداح مبادرة ريغان لما تحمله من امكانية تحقيق تقدم في عملية السلام العربية - الاسرائيلية. وكما هي العادة في الشرق الاوسط، وبينما كانت الامور تبدو في طريقها الى الهدوء بل ولخدمة المصالح الاميركية، انقلب كل شيء رأساً على عقب في الرابع عشر من ايلول سبتمبر عندما تم اغتيال بشير الجميل. وخلافاً لما نصت عليه اتفاقية الانسحاب مع حبيب دخلت القوات الاسرائيلية بيروت وبدأت بمطاردة الفلسطينيين.
ومرة اخرى أدى هذا الى توتر العلاقات الاميركية - الاسرائيلية. وعلى رغم الوعود الاميركية بعدم السماح لاسرائيل بدخول بيروت، ها هي القوات الاسرائيلية تحتل عاصمة عربية. وساد واشنطن جحيم ديبلوماسي لمحاولة احتواء الوضع العسكري والسياسي. وصباح الثامن عشر من ايلول سبتمبر استيقظت على رنين الهاتف في وقت مبكر فاستغربت وتساءلت ترى ما الذي يمكن ان يحدث خلال خمس او ست ساعات منذ ان أويت الى فراشي. وإذا بالمسؤول المناوب في غرفة الطوارئ في البيت الابيض يطلب مني الحضور فوراً. ولدى وصولي استمعت اليه في حالة من الفزع وهو يقرأ برقية من السفارة الاميركية في بيروت يتحدث فيها الضابط الأول رايان كروكر عن ذبح الرجال والنساء والأطفال في مخيمي صبرا وشاتيلا.
في 29 أيلول سبتمبر أعيد تشكيل قوة دولية جديدة وعادت القوات الأميركية الى بيروت. وخلافاً للقوة الأولى لم يكن هناك وقت محدد لبقاء هذه القوات، كما أن تعليماتها ومهمتها كانت واضحة هذه المرة. فقد أرسلت القوات الأميركية والفرنسية والايطالية والبريطانية الى بيروت على أن يكون وجودها "مسالماً" ورمزاً لتصميم الغرب على مساندة الجهود اللبنانية للتخلص من القوات الأجنبية وإعادة بناء اقتصاد البلاد وإصلاح النظام السياسي. وأكد ريغان أن القوات الأميركية ليس لديها أية نية على الاطلاق للاشتراك في أي قتال.
وأدى انتشار هذه القوات الى حث ريغان على محاولة وضع مجموعة واضحة من الأهداف بالنسبة الى لبنان. والواقع ان ريغان لم يفعل في نهاية الأمر أكثر من إعادة تأكيد الأهداف التي كان حبيب شرحها في الصيف، وهي انسحاب جميع القوات الأجنبية من لبنان، وتحقيق المصالحة الوطنية والاعمار الاقتصادي وضمان أمن شمال اسرائيل. وأصبحت هذه هي أهداف السياسة الأميركية في لبنان.
ولتحقيق هذه الأهداف عمل حبيب ودرايبر حوالي تسعة أشهر من أجل التوصل الى اتفاق بين لبنان واسرائيل يضمن انسحاب الجيش الاسرائيلي من الأراضي اللبنانية ويضع ترتيبات في جنوب لبنان لضمان أمن شمال اسرائيل ويمهد الطريق أمام إقامة علاقات اقتصادية وسياسية بين اسرائيل ولبنان. إلا أن الخطأ الجسيم في ذلك كله كان واضحاً وقاتلاً. إذ أن حبيب كان يصر، مقابل موافقة اسرائيل على الانسحاب، على أنه يستطيع "ضمان" انسحاب القوات السورية وقوات المنظمة أيضاً. وبنى ذلك على الطمأنة التي تلقاها من الرئيس الأسد في فصل الصيف. كذلك لم يجعل حبيب مسألة الاصلاح السياسي في لبنان بين أولوياته الديبلوماسية. وكان يقول لي دائماً انه من غير الواقعي ان نتوقع من السلطة المركزية اللبنانية معالجة مشكلة الاصلاح السياسي ما دامت القوات الأجنبية تحتل الأراضي اللبنانية.
كانت الحكومة الأميركية والحكومة اللبنانية تريدان تحقيق الانسحاب وترتيب الأمن بأسرع ما يمكن. كذلك أرادت اسرائيل الانسحاب بسرعة، مع أنها لم تكن كسرعة الأطراف الأخرى. وأعرب السوريون عن موافقتهم على الهدف العام، لكن الرئيس الأسد من الناحية العملية فعل كل ما في وسعه لاعاقة التوصل الى أي اتفاق لا يأخذ في الاعتبار شروطه هو. ومع مرور الوقت أعاد السوفيات تزويد سورية بأسلحة متقدمة. لكن اسرائيل ظلت ممتعضة من واشنطن نظراً الى ما اعتبرته خيانة للثقة بسبب مبادرة ريغان. وإدراكاً من بيغن أن عمان والمنظمة ربطتا موافقتهما على المبادرة بانسحاب اسرائيل من لبنان، فقد أخذت الحكومة الاسرائيلية تسوف وتتفاوض مع اللبنانيين على مسارات عدة في وقت واحد. ففي المفاوضات مثلاً على العلاقات التجارية في المستقبل بين الطرفين، شمل التفاوض كل شيء حتى سعر المخللات! وكانت سورية تخشى أن تظل خارج إطار عملية السلام بسبب تركيز ريغان على الفلسطينيين والأردن. واستغلت دمشق الأشهر التي تلت انسحاب المنظمة مباشرة لتعيد بناء نفسها عسكرياً بكميات هائلة من الأسلحة السوفياتية. واستغل السوريون نهاية 1982 لتركيب شبكة دفاع جوية استراتيجية تضمن عدم استطاعة القوات الاسرائيلية التصرف ثانية من دون عقاب فوق لبنان وسورية. وهكذا كان الوقت لصالح سورية. أما الحكومة اللبنانية بقيادة الرئيس أمين الجميل فكانت مهتمة بالدرجة الأولى بإخراج القوات الاسرائيلية والسورية والفلسطينيين مع الحفاظ على هيمنة الموارنة على الكيان السياسي اللبناني.
وسط كل هذه الخلفية ومع مرور الأشهر بدأ كلارك يضجر من بطء جهود حبيب ومنجزاته ولهذا طالبه بتحديد موعد للتوصل الى اتفاق. أما نحن في مجلس الأمن القومي فكنا نشعر أنه كلما طالت المفاوضات اللبنانية - الاسرائيلية كلما زادت صعوبة ضمان التعاون السوري. وأدركنا أن السوريين سيستخدمون قوتهم ونفوذهم ضد بعض الفئات اللبنانية واسرائيل والولايات المتحدة إذا ما واصل حبيب تجاهل الأسد وأخفق في تحقيق تقدم سياسي له وزنه بحلول نهاية عام 1982. كذلك لم يكن لدينا شك في أن مبادرة ريغان لن تدوم الى ما لا نهاية، إلا إذا تحقق تقدم فعلي نحو بدء المفاوضات.
إلا أن حبيب لم يكن مستعداً لسماع أي انتقاد لأسلوبه من مجلس الأمن القومي. وكان حبيب يعتقد، بإخلاص، أن السوريين سينسحبون. وفي اجتماع قبل زيارة الرئيس مبارك الى واشنطن في شباط فبراير 1983، سأل الرئيس ريغان حبيب بصراحة إذا كان يعتقد أن السوريين سينسحبون من لبنان ولماذا، فأجاب حبيب بقوله: "لقد أعطاني الأسد كلمته". ومضى يقول: "إن السوريين سينسحبون عندما تنسحب اسرائيل. ليس لدي أدنى شك في ذلك". والواقع ان انهماك الادارة بلبنان ومبادرة ريغان منعا مجلس الأمن القومي من التركيز على الخليج أو فعل أي شيء بالنسبة الى الوضع هناك باستثناء أقل مما هو ضروري.
كان شولتز يعتبر اشتراك الجنود الأميركيين في لبنان دليلاً على تصميم أميركا على استخدام القوة في الشرق الأوسط لحماية مصالحها الحيوية واعطاء وزن لديبلوماسيتها في المنطقة. وكان مجلس الأمن القومي يشاطره هذا الرأي، إذ أن عودة مشاة البحرية الى لبنان للمرة الأولى منذ عهد ايزنهاور كان دليلاً واضحاً على أن الولايات المتحدة جادة في ما تقوله. إلا أن واينبرغر كان يعارض اشتراك مشاة البحرية في القوة المتعددة الجنسيات ويدعو الى سحبهم في أول فرصة مناسبة.
وبتعليمات مباشرة من واينبرغر تعمدت وزارة الدفاع ابراز عدد المواجهات المضطردة بين الجنود الاسرائيليين ومشاة البحرية في لبنان. وفي هذه الأثناء أيضاً ازدادت شدة العداء بين واينبرغر ووزير الدفاع الاسرائيلي ارييل شارون، وبذل واينبرغر كل ما في وسعه لكي يصور اسرائيل بأنها عبء استراتيجي على أميركا.
وفي هذه الاثناء كانت إيران تصعد حملتها لتصدير ثورتها ولمهاجمة المصالح الغربية في لبنان. ومع أن عدد أفراد الحرس الثوري الايراني الذين تمركزوا في البقاع في بداية الحرب ظل على حاله تقريباً، أي حوالي ألفين، فإن عدد اللبنانيين المؤيدين لايران الذين أخذوا ينتهجون خطاً معادياً للغرب ازداد بشكل مثير، لا سيما في سهل البقاع حيث كان السوريون يواجهون الاسرائيليين. ومن خلال مكتب السفير الايراني في دمشق أخذت الأسلحة والأموال تتدفق على سهل البقاع.
تحسين العلاقات مع اسرائيل
في شباط فبراير 1983 أصدرت لجنة كاهان الاسرائيلية نتائج تحقيقها في مذابح صبرا وشاتيلا. وإثر ذلك اضطر شارون الى الاستقالة. ونظراً الى ما بلغته العلاقات الأميركية - الاسرائيلية في هذه المرحلة من تدهور، أصدر روبرت ماكفرلين تعليماته اليّ كي أقترح استراتيجية لتحسين العلاقات مع اسرائيل من منطلق ضرورة ذلك لدفع عملية السلام الى الأمام وتعزيز الموقف العسكري الأميركي العام في جنوب غربي آسيا. وإدراكاً من ماكفرلين أن الكثيرين من زملائي من موظفي مجلس الأمن القومي كانوا يحبذون زيادة الضغط على اسرائيل بدلاً من تحسين العلاقات معها، فقد أمرني بأن التزم السرية في إعداد الدراسة وعدم التشاور أو التنسيق مع أحد من الموظفين. ومع أوائل نيسان ابريل 1983 أكملت اعداد الاستراتيجية. واقترحت خطة لتحسين العلاقات الأميركية - الاسرائيلية ولاستعادة ثقة اسرائيل في الولايات المتحدة لكي تستطيع واشنطن استخدام نفوذها لدى اسرائيل وهي: التوصل الى اتفاق على الانسحاب من لبنان، وتحرك الأردن نحو المفاوضات المباشرة مع اسرائيل لوضع الترتيبات الانتقالية بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة، واستئناف التعاون الاستراتيجي بين الولايات المتحدة واسرائيل في مواجهة النفوذ السوفياتي في شرق البحر الأبيض المتوسط.
ومع صدور تقرير كاهانا عن مذابح صبرا وشاتيلا بدأ بيغن يبتعد تدريجياً عن الساحة السياسية الاسرائيلية، لا سيما بعد وفاة زوجته، وأخذ كل من موشيه آرينز واسحق شامير ودايفيد ليفي يناور كي يتولى زعامة الليكود، توقعاً لاستقالة بيغن. وكنت أرى أن تولي آرينز الزعامة سيؤدي الى تحسين العلاقات نظراً الى أنه صديق للولايات المتحدة، على عكس شامير الذي يميل الى التعامل مع واشنطن بأسلوب المواجهة. وكان التحدي الذي يواجه واشنطن هو إيجاد وسيلة لاستغلال الفرصة التي نشأت نتيجة ابتعاد بيغن عن الساحة. ومن الواضح ان انحسار نفوذ شارون واحتمال تألق نجم آرينز سيساعدان المصالح الأميركية.
من هذا المنطلق دعوت الى ضرورة العمل على تعزيز مكانة آرينز والآخرين الذين يدركون الحاجة الى تخفيف حدة التوتر بين واشنطن وتل أبيب الى أدنى حد. وخير سبيل لتحقيق هذا الهدف هو إعادة تسليط الأضواء على القضايا الأمنية بطريقة تحسن وضع آرينز وتعزز مكانته في مجلس الوزراء وأمام الرأي العام في اسرائيل. ونظراً الى خلفية آرينز كمهندس طيران واهتمامه بتطوير صناعات الدفاع والتكنولوجيا الاسرائيلية فإن أية مساعدة تقدمها الولايات المتحدة في هذا الميدان ستساعد على تعزيز نفوذه كما أنها ستساهم في تحسين الوضع الاقتصادي العام في اسرائيل. وأشرت الى أن واينبرغر كان يعارض بقوة عدداً من مبادرات التعاون الدفاعي مع اسرائيل بما في ذلك تزويدها بالتكنولوجيا اللازمة لانتاج طائرة "لافي" المقاتلة المتقدمة، أو منحها تسهيلات ائتمانية لمشتريات الدفاع أو التعاون في مجال تطوير التكنولوجيا العسكرية المشتركة اعتماداً على دروس الحرب اللبنانية.
وكانت ثقة اسرائيل في التزام أميركا بأمنها تزعزعت كثيراً خلال العامين الأخيرين على رغم الصداقة الحقيقية التي كان يكنها ريغان لاسرائيل. وأدى انعدام الثقة هذا الى تردد اسرائيل في الاقدام على أية مجازفات. إلا أن الولايات المتحدة كانت تواجه دوامة في محاولتها تحقيق أهدافها المرجوة، فهي إذا اتخذت اجراءات لتعزيز الثقة الاسرائيلية وتشجيع اسرائيل على تحمل المجازفات فإنها ستثير غضب العالم العربي. وإذا ما اتخذت خطوات لتشجيع العالم العربي على إظهار قدر أعظم من الاقدام والمجازفة من خلال الضغط على اسرائيل فانها ستقلل من احتمال تقديم اسرائيل أية تنازلات. لذا كانت الولايات المتحدة بحاجة الى استراتيجية تتسم بالتشدد والجرأة تجاه العالم العربي مثلما تتسم بالتشدد والجرأة تجاه اسرائيل. فمع أن مثل هذه الاستراتيجية ستثير غضب العرب على المدى القصير، فانها ستزيد من قوة النفوذ الأميركي لدى اسرائيل. وإذا ما ساعدت قوة النفوذ هذه في نهاية المطاف على الحصول على تنازلات من اسرائيل فإن الثقة العربية في الولايات المتحدة ستزداد، مما سيؤدي بالتالي الى زيادة نفوذنا في العالم العربي أيضاً.
سلمت دراستي الى ماكفرلين الذي نقلها الى لورنس ايغلبيرغر. وبعد أن اطلع عليها ايغلبيرغر حولها بدوره الى شولتز. وفي الاسبوع الثاني من نيسان ابريل 1983 استدعاني ماكفرلين الى مكتبه وأبلغني أن شولتز أعجب كثيراً بالدراسة الى درجة أنه قرر تبنّيها وجعلها استراتيجية. وبعد بضعة أيام طلب شولتز الاجتماع الى ريغان. وبحضوري أنا وايغلبيرغر وماكفرلين قدم شولتز الاستراتيجية مشيراً الى أنني واضعها، وأوصى الرئيس ريغان باصدار أمر فوري الى واينبرغر لترخيص تصدير التكنولوجيا الأميركية اللازمة لتمكين اسرائيل من المضي قدماً في تطوير طائرة لافي. ووافق ريغان على الخطوط العامة للاستراتيجية وعلى توصية شولتز. إلا أن واينبرغر اعترض بقوة على ذلك. ومع هذا رفض ريغان تغيير رأيه. وعلى الفور أبلغنا السفير الأميركي لويس بالقرار، فاتصل بآرينز لينقله اليه. وهكذا بدأت عملية التحول في العلاقات الأميركية - الاسرائيلية.
أما بالنسبة الى مبادرة ريغان فقد فات الأوان. ففي العاشر من نيسان ابريل 1983 أعلن الملك حسين أنه لن يدخل في مفاوضات مع اسرائيل نيابة عن الفلسطينيين أو عن الأردن. وإثر هذا الرفض بدأت العلاقات الأميركية - الاسرائيلية تتحسن أكثر فأكثر.
ضغط على من؟
بينما كانت إدارة ريغان تحاول استرداد هيبتها عقب انهيار مبادرة ريغان تعرضت المصالح الأميركية في لبنان الى ضربة مباشرة. ففي الثامن عشر من نيسان ابريل 1983 دمرت قنبلة مبنى السفارة الأميركية في بيروت وقتلت ستة وثلاثين شخصاً بينهم سبعة عشر أميركياً. وبعد ظهر ذلك اليوم أعلنت الادارة أن ايغلبيرغر سيزور بيروت على رأس وفد أميركي لكي يثبت قوة الولايات المتحدة وعزيمتها وان الارهابيين لن يرهبوها، ولكي يعيد جثث القتلى لدفنها في الولايات المتحدة. وكان ماكفرلين اتصل بي وأبلغني أنني سأمثل البيت الأبيض في الوفد الذي ضم أيضاً فليوتس ونائب مدير السي. آي. ايه. جون ماكمان، ونول كوخ والجنرال بيرنارد ترينور.
وصلنا مطار بيروت الدولي في وقت مبكر صباح العشرين من نيسان ابريل 1983. وانطلقنا عبر شوارع العاصمة الى السفارة المدمرة حيث ألقى ايغلبيرغر بياناً أمام المراسلين تحدث فيه عن تصميم الولايات المتحدة على المضي في جهودها لمساعدة لبنان على التخلص من العنف المجنون الذي أخذ يحيط بالأميركيين واللبنانيين على السواء. وبعد ذلك توجهنا الى الجامعة الأميركية في بيروت حيث زرنا الجرحى الكثيرين الذين كانوا يعالجون في مستشفى الجامعة.
وأنا في بيروت تلقيت مكالمة هاتفية من كيمب يقول فيها إن ريغان قرر إرسال شولتز الى الشرق الأوسط لمحاولة انجاز الاتفاق بين لبنان واسرائيل وليبلغني أنني سأكون بين أعضاء الوفد المرافق لشولتز. وهكذا أمضيت اليومين التاليين في بيروت مع فليوتس للتشاور مع الزعماء اللبنانيين الذين أعربوا عن خوفهم من أن يؤدي تفجير السفارة الى انسحاب القوات الأميركية من لبنان. وقد أراد السفير اللبناني في الأمم المتحدة غسان تويني معرفة نوايا شولتز من هذه الرحلة: هل سيضغط على الاسرائيليين لتقديم التنازلات، أم هل سيضغط على اللبنانيين؟ ثم هل الولايات المتحدة واثقة من قدرتها، في نهاية الأمر، على تحقيق الانسحاب السوري الى جانب الانسحاب الاسرائيلي؟ وهل يدرك شولتز الضغوط الهائلة التي يواجهها لبنان من العالم العربي نتيجة المفاوضات اللبنانية - الاسرائيلية؟ وإثر ذلك أعربت مع فليوتس وحبيب عن رأينا بأن التنازلات يجب أن تأتي من جميع الأطراف، كما قلت انني لا أعتقد أن شولتز سيغامر بهيبته في هذه الزيارة إلا إذا كان واثقاً من قدرته على التوصل الى اتفاق. بدأ شولتز جولته في القاهرة بالاجتماع الى رؤساء البعثات الديبلوماسية، إذ أراد أن يعطي السفراء الأميركيين في الشرق الأوسط الفرصة للاعراب عن آرائهم مباشرة، ولاعطائهم إحساساً بالمساهمة في مهمته أيضاً. إلا أن قضية مهمة ظهرت ولازمت شولتز طوال فترة جولته بل وطوال الفترة التي ظل فيها وزيراً للخارجية، وهي المعارضة السورية للسياسة الأميركية. إذ كان السفير الأميركي في دمشق روبرت باغانللي جرئياً وصريحاً في انتقاده السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، بشكل عام، ومهمة حبيب وافتراضه بأن سورية ستوافق على الترتيبات اللبنانية - الاسرائيلية بشكل خاص. وأنصت شولتز لانتقادات باغانللي لفترة، الى أن فرغ صبره. وبعد الاجتماع سألني شولتز رأيي في انتقادات السفير فقلت له ان لدي شكوكاً ولا أظن أن السوريين سينسحبون من لبنان لمجرد أن الأسد قال لحبيب انه سينسحب. إذ أنني كنت أعتقد ان سورية استعادت قوتها الى الدرجة التي تجعلها تتابع تنفيذ سياستها في لبنان، وهي سياسة تختلف عن سياستنا نحن.
مع بداية أيار مايو 1983، استطاع شولتز حل القضايا العالقة بين اسرائيل ولبنان. وبدا أن الاتفاق النهائي بين الطرفين بات وشيك المنال. ولما كان الرئيس الجميل يعرف جيداً قوة المعارضة السورية للاتفاق، فإنه أرسل وزير خارجيته ايلي سالم الى دمشق في الثاني من أيار مايو 1983 لكي يطلع الأسد على ما يجري. وفي اليوم التالي كان سالم منزعجاً عندما أطلعنا على نتائج محادثاته مع الأسد الذي سأله لماذا يعتقد الجميل أنه بحاجة الى توقيع اتفاق مع اسرائيل. ومضى ليقارن بين لبنان ومصر ليشير الى أن الشعب المصري اغتال السادات عندما خرج على الاجماع الوطني ووقَّع اتفاقاً مع اسرائيل. كذلك أبلغه الأسد أن لبنان قادر على تحمل ما هو أكثر كثيراً من ثماني سنوات من الصراع الذي عانى منه. وحذَّر سالم صراحة من أن الخسائر التي سيعاني منها لبنان إذا وقّع اتفاقاً مع اسرائيل ستؤلم سورية، ولن يكون هناك انسحاب سوري في اطار الانسحاب الاسرائيلي.
لم يكن هناك سوى طريقة واحدة لتفسير ما قاله الأسد: إن سورية ستعارض بكل قوة أي اتفاق بين اسرائيل ولبنان. فمع أن الأسد كان على استعداد لبحث الانسحاب والترتيبات الأمنية فإن أحداً لم يستشره في الشروط المطروحة، ولذا فهو غير مستعد للموافقة على الشروط التي يعرضها سالم. وكان من الواضح أن الأسد قرر تحدي بيروت وواشنطن أيضاً. ولما كانت واشنطن تعرف جيداً نوايا الأسد فانها شجعت اللبنانيين على التوقيع. إلا أن واشنطن أخفقت خلال العام التالي في تحمل مسؤوليتها لمنع السوريين من تدمير الحكومة اللبنانية وإلغاء الاتفاق مع اسرائيل. وكان هذا الاخفاق الأميركي نتيجة الانقسامات داخل الحكومة الأميركية التي لم يكن ريغان على استعداد للتوفيق بينها.
عقب ذلك أبلغت كلارك بما قاله سالم وقلت إنني أعتقد أن سورية مستعدة لخوض الحرب من أجل إحباط الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي. وفي هذا الوقت كانت الادارة الأميركية جمعت معلومات كافية عن تفجير سفارتها في بيروت وعلاقته المباشرة بسورية وإيران.
الاسبوع المقبل:
الحلقة السابعة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.
مواضيع ذات صلة