"أبلغنا الجانب الاميركي ما يلي: لا نريد ان يكون هناك اي لبس بالنسبة الى موقفنا ونريد ان نتحدث معكم دائماً بصراحة. وعلى رغم اننا اكدنا موقفنا سابقاً من الوضع في لبنان وحرصاً منا على ان لا يساء فهم موقفنا كما يبدو احياناً من بعض التصريحات فنحن نوضحه مرة اخرى. نحن نعتبر ان اية مكاسب يحققها الغزو الاسرائيلي للبنان انما تشكل خطراً على امننا الوطني والعربي مما سيفرض علينا بقاءً في لبنان مستمراً ما استمرت هذه المكاسب. ومن الطبيعي ان نتمسك بذلك لمقتضيات الامن، خصوصاً ان اسرائيل تبحث وتخطط لاعمال توسعية متتالية بين وقت وآخر". كنا نعلم ان اسرائيل لم تحصل على الاتفاق الذي تريده. وخفنا ان تبقى وتتصرف بحرية في المنطقة الواقعة تحت سيطرتها. وناقشت مع الوزان حسنات وسيئات الذهاب الى الاممالمتحدة. وشعر بأنه يجب علينا الذهاب الى مجلس الامن لاطلاعه على التطورات الحاصلة منذ تبنيه القرار الرقم 509 في 6 حزيران يونيو عام 1982 الداعي الى انسحاب اسرائيل غير المشروط من لبنان. ولم يهدف الوزان ان يحل هذا التحرك مكان الجهود الاميركية بل ليعطي هذه الجهود دفعاً جديداً. وتعاطفت مع ارائه ولكني شعرت بأن ذلك قد يضايق الولاياتالمتحدة من دون الحصول على اية نتائج من الاممالمتحدة. وطلبت منه ان ينضم الي لمناقشة الاقتراح مع الرئيس الجميل. وناقشنا هذا الاقتراح وقررنا التمسك بمهمة حبيب. ولانه لم يعد لدينا اية تنازلات يمكن تقديمها، ولان مرور الوقت لم يكن في مصلحتنا، قررنا دعوة شولتز ليستمع الى آرائنا. فإما ان نتفق معه او نبحث عن مسار آخر. وصل شولتز الى بيروت في 28 نيسان ابريل واستقبلته في المطار. وفي طريق العودة انضم الي فيليب حبيب في سيارتي، بينما غادر موكب شولتز على حدة. وقاد سائقي السيارة على مهل في شوارع ضواحي بيروت التي كان يتخوف حبيب منها. ونظر خلفه ولم يجد وراءنا اي سيارة أمن وصرخ: "إيلي، هل تريد ان تقول لي انك تتحرك في هذه المدينة من دون سيارة أمن خلفك؟ هل تعرف من معك في هذه السيارة؟ هل تعرف عدد الاشخاص الذين يريدون رأسي؟ آمل ان لا تكون واحداً منهم!" وقلت له: "إهدأ يا فيليب". وطلبت من سائقي ان يسرع، وهذا ما كان يتمناه السائق ولم يعد حبيب متأكداً ممن كان الخطر الاكبر، رصاصة من الخلف او حادث اصطدام، وبقي صامتاً على غير عادته حتى وصولنا الى قصر الرئاسة. لكنه اخافني بما فيه الكفاية وقررت منذ ذلك الحين ان ترافقني سيارة امن تسير وراء سيارتي. ولكن عوض ان تحميني كانت دائماً ترتطم بسيارتي بسرعة كبيرة وتتلف ما تبقى من اعصابي. قلنا لشولتز اننا نريد اتفاقاً مع اسرائيل يؤدي الى انسحابات وان يكون مقبولاً ايضاً من سورية. ورد ان لدينا اتفاقاً معقولاً، وقال انه التقى بيغن الذي يريد اتفاقاً ويرغب في الانسحاب بشكل كامل من لبنان. واضاف انه قال لبيغن الآتي: "انا ذاهب لرؤية الجميل، هل يمكنني الاستشهاد بكلامك؟" وكان جواب بيغن: "بالطبع". وشدد الجميل على اننا لا نريد التوصل الى اتفاق منفصل مع اسرائيل، واننا نريد اشياء عدة يكون من بينها الاتفاق مع اسرائيل على الخطوة الاولى في انسحاب جميع القوات من لبنان. ووافق شولتز على كلام الرئيس واكد له ان لديه دعم الرئيس مبارك الكامل الذي التقاه امس. وشدد شولتز على عدم اعطاء السوفيات الفرصة لفرض الفيتو على الاتفاق. واشار الى ان للسوفيات تأثيراً على سورية ولكن الولاياتالمتحدة ستتصل مباشرة مع السوفيات بالنسبة الى هذا الامر. وتحدثت باسم الفريق اللبناني مراجعاً مسودة الاتفاق نقطة تلو نقطة، وشارحاً الاسباب التي تجعلنا نقبل بعض الاشياء ونرفض اخرى. وقلت اننا لا نرضى ان يوقع الاتفاق وزير الخارجية لاننا لا نوقع معاهدة. وهذه ترتيبات امنية، ولذلك يجب ان يوقع الاتفاق رؤساء الوفود. ونحن ضد الاعتراف باسرائيل، واذا استعملنا هذا التعبير فذلك يعني ان لدينا معاهدة سلام. وقال شولتز ان الحكومة الاسرائيلية قد تقول لشعبها انها حصلت على معاهدة وعلى اعتراف وهي تحتاج مثل هذا الكلام لاسباب سياسية. وسأل اذا كنا سنناقض كلامها في حال قالت ذلك. واجبته "يجب ان يكون ما نقوله لشعبنا هو الحقيقة. نحن عادلون معهم، ولقد سمعوا اكاذيب كثيرة من قبل. واذا قالوا انهم حصلوا على معاهدة او على اعتراف فسأكذبهم لانني ملتزم بالحقيقة". بعد ذلك ناقشنا اسماء اللجان واللجان الفرعية المنبثقة عنها واعضائها ووظائفها ودور القوات الدولية والعديد من المواضيع الشائكة الاخرى التي تقع ضمن العلاقات المتبادلة. وكانت اسرائيل ترغب في بحث هذه العلاقات الآن، ولكننا اردنا تأجيل بحثها الى ما بعد الانسحابات بستة اشهر، وفي الواقع كنا نرغب بتأجيلها كلياً حتى يتم التوصل الى تسوية عامة تشمل كل الدول العربية المعنية. وعقد الفريقان الاميركي واللبناني اجتماعاً مهماً في 30 نيسان ابريل 1983 وضم الفريق الاميركي شولتز وحبيب ودرايبر وفيليوتيس وكوزاك وهيوز والجنرال كولي. اما الوفد اللبناني فضم الوزان وسالم وتويني وفتال وحداد واللواء حمدان والكولونيل رحيّم. وقرأنا مسودة الاتفاق فقرة تلو فقرة كي نظهر موقفنا النهائي في النص. واعترى الجو السياسي العام الخوف من عدم انسحاب اسرائيل او انسحابها جزئياً. وبدأنا نشعر ان الاتفاق لم يكن يحظى بالاولوية في اسرائيل وان لديها بدائل اخرى تفضلها عليه. واكدت لنا الولاياتالمتحدة ان المسألة ليست كذلك. وشددت خلال هذا اللقاء على انه لا اتفاق من دون انسحابات لانني لم ارد الحصول على اتفاق من دون انسحابات كاملة. وقال شولتز اننا يجب ان نخاطب الولاياتالمتحدة خطياً في شأن اي موضوع مهم بالنسبة الينا. وشدد الوزان على اننا نعمل للحصول على صفقة شاملة وان لدينا ممراً ضيقاً يجب علينا اجتيازه، واكد ان الكثيرين سينقضون علينا، على رغم اننا نفعل كل ما في وسعنا لتحرير بلدنا من الاحتلال. وحث شولتز على تقدير وضعنا الصعب وعدم اثقالنا بأكثر مما نستطيع تحمله براحة. وبعد لقاء الوفدين هذا طلب الجميل من شولتز وحبيب ومني ان نلتقي تحت شجرة صنوبر في حديقة القصر الجمهوري. وجلسنا هناك وشربنا القهوة وتحدثنا بحرية. وكان مزاج شولتز متفائلاً، اذ عاد لتوه من رحلة مثمرة الى اسرائيل، وقال: "لنفترض اننا توصلنا الى اتفاق، نريد ان نبحث معكم الآن طريقة عمله وشروطه العملية تحديداً وليس من ناحية المبادئ العامة. ان الاسرائيليين مرتابون، ويريدون ان يسمعوا منا كيف سيعمل الاتفاق من يوم الى آخر. وهم يريدون امثلة، وهناك مصطلحات في الاتفاق ينبغي ابرازها وتفسيرها في ملحق". وكان شولتز متفائلاً ايضاً حيال سورية التي ابلغته انها ترحب به في دمشق. ولم يكن مزاجنا مناسباً لبحث التفاصيل التي طرحناها مراراً في المفاوضات الشاقة، اذ كنا على وشك الوصول الى اتفاق وكانت لدينا اسئلة سياسية مهمة نود طرحها. وضعت ستة اسئلة واعطيتها للرئيس كي يطرحها، وقرأ الاسئلة على شولتز وقمت مع حبيب بتسجيل ملاحظات. وقلنا لشولتز اننا سنوافق على الاتفاق فقط اذا تلقينا من الادارة الاميركية اجوبة مرضية على الاسئلة التالية: 1 - ما هو المسار العملي الذي تستطيعون دعمنا به في شكل فاعل اذا فشلنا في التوصل الى اتفاق مع اسرائيل على انسحابات كاملة؟ 2 - ما هو المسار الذي تنصحوننا باتخاذه اذا توصلنا الى اتفاق ورفضت سورية الانسحاب على اساس ان الاتفاق يعطي اسرائيل مكاسب في لبنان؟ 3 - كيف يمكنكم مساعدتنا اذا ادى توقيع الاتفاق الى مقاطعة الدول العربية لبضائعنا؟ 4 - كيف يمكنكم مساعدتنا اذا تجاهلت اسرائيل الاتفاق وانسحبت جزئياً ورسخت مواقعها في ما تعتبره منطقتها الامنية داخل لبنان؟ 5 - ان للسوفيات نفوذاً في المنطقة وهم يعارضون مبادراتكم في الشرق الاوسط. هل انتم واثقون من ان هذا النفوذ لن يفشل جهودكم في التوصل الى اتفاق بين لبنان واسرائيل؟ 6 - كيف تستطيعون حماية لبنان واللبنانيين في حال حصول غير المتوقع ونشوب حرب بين سورية واسرائيل، مع العلم ان هذه الحرب ستدور في لبنان؟ قلت لشولتز ان هذه الاسئلة هي بأهمية الاتفاق ان لم تكن اكثر اهمية. ووافق معي على ذلك معتبراً انها اسئلة مهمة وصعبة. وقال انه سيفكر فيها ويتشاور مع ريغان. واضاف ان بعض اجوبتنا يعتمد على الاتفاق، والبعض الآخر على الدول العربية المعتدلة والباقي عما تستطيع الولاياتالمتحدة فعله. واشار الى ان ريغان قال انه سيساعدنا للخروج من الازمة وهو سيفعل ذلك. لكن الولاياتالمتحدة ليس لديها عصا سحرية انما لديها نفوذ وستحاول استخدامه. واكد ان الاميركيين لا يريدون ان يصبح هذا الاتفاق شأناً رباعياً، اذ لديهم مشاكل كافية نتيجة وجود ثلاثة اطراف. واضاف انه يعتقد ان السوريين سينسحبون عندما يعرفون ان لدى الاميركيين اتفاقاً لاخراج اسرائيل من لبنان، وهذا انجاز كبير لم تتوصل اليه اية دولة عربية من دون عقد معاهدة سلام مع اسرائيل. وفي اليوم التالي التقت المجموعة نفسها في المكان نفسه، وكان ذلك يوم الاحد في الاول من أيار مايو 1983. وقال شولتز انه فكر في اسئلتنا ويود الاجابة عليها. وكانت اجابته على الشكل التالي: "يجب ان لا نفكر بالفشل في ما يتعلق بالاتفاق فعواقب الفشل وخيمة على لبنان واسرائيل والولاياتالمتحدة، ويجب ان ننجح لان البدائل سيئة. يجب الحصول على موافقة سورية وسنتفاوض نحن معها. ان للسوفيات نفوذاً في سورية ولكنهم لا يفرضون السياسة هناك. والاسد يعمل باستقلالية تامة على رغم تحالفه مع السوفيات وهو يتأثر اكثر ربما بموقف الدول العربية، ونحن سنعمل على هذه الناحية. انا لم التق الاسد بعد، ولكن كارتر التقاه في جنيف حيث اتفقا معاً على كل الاشياء وسنعرف موقفه بشكل مباشر قريباً. وأضاف شولتز: انتم محقون في قلقكم حيال مسألة المقاطعة ونحن سنحاول مساعدتكم. ونحن نشارككم قلقكم حيال احتمال اندلاع الحرب بين سورية واسرائيل على اراض لبنانية لان الوضع قابل للانفجار. والسوفيات موجودن في سورية وهم مسؤولون عن بعض الاسلحة التي اعطوها لسورية. وفي حال نشوب نزاع بين سورية واسرائيل يمكن ان يتدخل السوفيات فيه، وهذه مسألة خطيرة تنذر بالسوء. ونحن نفكر في ذلك على الدوام ولكنني اظن اننا نستطيع حل المشكلة من دون وقوع حرب". وبعد محادثات موسعة بحثنا فيها كل الخيارات، شعرت انا والرئيس اننا قادرون على المخاطرة والمضي قدماً في الاتفاق. وكان هناك خطر في كل فقرة منه ولكن خياراتنا كانت قليلة جداً آنذاك. فاما اتفاق واما احتلال. "هذا ليس يوماً سعيداً" أعطى شولتز موضوع الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي اولوية حتمت وجوده في المنطقة لفترة واضطرته الى القيام بزيارات مكوكية بين بيروت والقدس، وبيروتودمشق، وبيروت والرياض، وبيروت وعمان، وبيروت والقاهرة. وامضينا الفترة ما بين نهاية نيسان ابريل و17 ايار مايو 1983 في وضع اللمسات الاخيرة على الاتفاق. زرت الرئيس الاسد في 2 ايار مايو 1983 وقدمت له عرضاً كاملاً عن الاتفاق المقترح. كان ودياً ولكن سلبياً. وفي 3 ايار مايو شعر شولتز انه احرز تقدماً مع الاسرائيليين واننا نستطيع التوصل الى اتفاق بسرعة، لكنه اضاف انه يجب على اللبنانيين اتخاذ خطوة جريئة واحدة والموافقة على لقاء بين ايلي سالم واسحق شامير. واشار شولتز، كما فعل حبيب من قبله، الى ان هذه الخطوة ضرورية لاعطاء الاسرائيليين الثقة الكافية للمضي بالاتفاق، اذ يحتاج الاسرائيليون الى التحدث مع مسؤول لبناني رفيع المستوى، وليس الى احد اعضاء البيروقراطية، للوصول الى تفاهم معه على الطريقة التي ينوي فيها لبنان تنفيذ الاتفاق بالتفصيل. واكد ان هذا اللقاء سيكون سرياً، ويمكن عقده في لبنان او اسرائيل او على متن سفينة اميركية او في اوروبا. وسيكون اختيار المكان للبنانيين. ونظر رئيس الجمهورية الي، ولكنني رفضت بسرعة مثل هذا اللقاء وقلت ان اجتماعاً بيني وبين شامير سيعطي الاتفاق معنى سياسياً وسيؤمن اعترافاً بالامر الواقع الذي رفضناه خلال المفاوضات. وكاد حبيب الذي نمت بيني وبينه صداقة وثيقة خلال الاشهر الماضية ينفجر غضباً واضطراباً. وقال: "إيلي، يا صديقي، انت على وشك توقيع اتفاق تاريخي يخرج اسرائيل من لبنان بشكل كامل. وهذه حقيقة لا سابق لها في تاريخ الشرق الاوسط المعاصر، لكنك ترفض اعطاءها الدفع الاضافي لتحقيقها. وهذا شيء في يديك، وهو خيارك". وكلما ازداد في الكلام ازداد اقتناعي ان هذه الخطوة غير ضرورية وانها ستكون مؤذية اكثر من ان تكون مفيدة. واخذ حبيب يغلي غضباً، وهذا شيء ينزع اليه عندما يفشل في الحصول على ما يريده. وعلى رغم التوتر الناشئ عن رفضي هذا، واصلنا وضع اللمسات الاخيرة على مسودة الاتفاق وناقشنا تفاصيل تضمنت على سبيل المثال اعطاء سعد حداد تأشيرة دخول الى الولاياتالمتحدة لابعاده من سبيلنا اذا اقتضى الامر. كان الوزان ناشطاً جداً خلال هذه اللقاءات التي حددت النص النهائي للاتفاق، وحث الولاياتالمتحدة على ممارسة دور قيادي اكبر ولجم المطامع الاسرائيلية. وغالباً ما كان يفقد صبره ويستعمل كلمات قاسية مع شولتز، ولكن الوزان كان يجد دائماً الكلمة المناسبة لتلطيف حدة انتقاداته خصوصاً انه انسان طيب. وخاطب شولتز مرة بعد سيل من الانتقادات لسياسة الولاياتالمتحدة وقال: "أود الاعتذار لنبرتي القاسية، وغالباً ما يؤلم طبيب الاسنان المريض الذي يخلع له ضرساً يؤلمه. خذ كلامي في هذه الروح يا حضرة الوزير". وكان الوزان يتكلم بخبرة اكتسبها من التجربة الطويلة. وعندما اتفقنا مع شولتز على النص النهائي، وقف الوزان ليشكره على جهوده، وطلب مني ان اترجم كلامه. وقلت: "سيدي رئيس الوزراء، انا اترجم لزوجتي الاميركية منذ 29 عاماً وقد قررت ان لا اترجم ابداً سيفعل صديقنا غسان تويني ذلك". ووافق غسان على القيام بذلك، ولكن الوزان خشي ان يعدل في كلامه كي يعطي شولتز الانطباع الذي يريده لأن تويني بارع في ذلك. وتكلم الوزان واستمع الى ترجمة غسان كي يتأكد انه سيبقى ضمن الحدود. وكان الوزان يتكلم ببلاغة وشجاعة وقال: "لم يكن هذا الاتفاق الذي اردته، لقد كنت اتوقع اتفاقاً أفضل من خلال مساعي الولاياتالمتحدة الحميدة. هذا ليس يوماً سعيداً بالنسبة الي ولا يجب ان يكون يوماً سعيداً بالنسبة الى الولاياتالمتحدة. فهي اكبر الديموقراطيات في العالم، ولذلك كان من الواجب عليها فعل اشياء اكثر لمساعدة ديموقراطيتنا، اكثر الديموقراطيات محاصرة في العالم. على رغم ذلك، سأدعم هذا الاتفاق وسأتحمل العواقب لانه افضل اداة املكها في الظروف الراهنة لتحرير بلدي". ولم يتضايق شولتز، بل على العكس كان متأثراً. وعلى رغم انه ليس من النوع الذي تؤثر فيه العواطف بشكل واضح، شعرت انه كان متعاطفاً بعمق مع ذلك الوطني الشجاع، وربما كان موافقاً معه. عاد شولتز الى اسرائيل، وانغمست انا في برنامج مكثف لاطلاع القادة السياسيين البارزين على تطورات الوضع وطلب مشورتهم وهم رؤساء الكتل في مجلس النواب ورؤساء الجمهورية والحكومات السابقون والقادة الدينيون. وقد أجمعوا تقريباً على دعمهم للاتفاق وتقديرهم للدور الاميركي، على رغم محدوديته، واحترامهم للوفد الذي ادار المفاوضات وكانوا متحمسين لذلك. وانطبق هذا حتى على اولئك الذين تحولوا بشدة فيما بعد الى معارضة الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي والدور الاميركي والحكومة التي فاوضت عليه. واتصل ريغان بالرئيس الجميل كي يؤكد له دعمه مساء السبت في 7 ايار مايو بينما كنت معه. وقال انه يأمل في ان يوافق مجلس النواب على الاتفاق وان يستمر التقدم الحالي. واكد ريغان لرئيس الجمهورية انه سيفعل وشولتز كل ما في وسعهما لاقناع سورية، وانه متأكد من نجاحهما في ذلك، خصوصاً ان شولتز كان موجوداً في دمشق في ذلك الحين. ودعا الجميل الى زيارة واشنطن عندما يطبق الاتفاق بشكل كامل للاحتفال "بنصرنا"، وانهى كلامه باسلوب الحملات الاميركية وقال: "ليباركك الله يا سيدي الرئيس، ولا تقلق فنحن معك". وكان الرئيس في منتهى السعادة، وظن ان هذه المكالمة الهاتفية مهمة جداً وان ريغان اعطاه التزاماً وان الولاياتالمتحدة، القوة العظمى، تقف وراءه تماماً. ولكن ريغان اكد في مكالمته هذه ما قاله لرئيس الوزراء السابق صائب سلام: "ليس لدي آلية الرجوع الى الوراء". ولم يكن سهلاً علي التخفيف من حماس الرئيس، واستشهدت بما قاله هاملت لبولونياس عندما سأله عما يقرأه، اذ قال: "كلمات، كلمات، كلمات"، ولكن حتى شولتز، السياسي الحذر، كان متفائلاً اكثر مما ينبغي في تصريحاته امام القصر الجمهوري، وكنت احاول دائماً في تصريحاتي وانا على المنصة معه التخفيف من احتمالات النجاح وتأكيد المصاعب التي توجد امامنا. وأخبرنا شولتز في 8 ايار مايو ان الاسرائيليين قبلوا الاتفاق وان شارون وقادة حزب العمل ضده، ولكن بيغن سيعمل على تمريره. واضاف ان الاسد يعارض الاتفاق وان الملك حسين سيرسل مبعوثاً خاصاً الينا للتعبير عن دعمه. وحسب كلام شولتز فإن الملك حسين قال إن أسوأ شيء هو ان تناقش جامعة الدول العربية الاتفاق لأن ذلك سيؤدي الى مناقشات عقيمة وقرارات خاطئة. واضاف ان الاسد ينتقد الاتفاق ولديه معلومات خاطئة في شأن نقاط عدة، لكنه محق حيال نقاط اخرى. وسينتقد اي اتفاق يتم التوصل اليه، وعلى رغم ذلك فهو يبقي الباب مفتوحاً على الدوام. وهو قلق ازاء أمن سورية والمنطقة الواقعة قرب الحدود السورية في لبنان، وقلقه هذا مشروع. اجتمع مجلس النواب اللبناني في 16 ايار مايو 1983 لمناقشة مشروع الاتفاق ودعاني رئيس المجلس كامل الاسعد الى مكتبه قبل الاجتماع حيث كان كميل شمعون وبيار الجميل وصائب سلام وجوزيف سكاف، اكثر النواب نفوذاً في البرلمان، موجودين. بحثنا سبل ووسائل الحصول على اكبر دعم ممكن للوثيقة، وقال سلام انه يجب علينا عدم تشجيع ما يمكن ان يعطي النقاش طابعاً حزبياً، وكنا بذلنا جهوداً كبيرة لتأمين اكبر حضور ممكن. وتكلمت في هذه الجلسة وطلبت من النواب تأييد اتفاقنا مع اسرائيل. وعرضت بشكل مفصل مضمون هذا الاتفاق. وأنهيت خطابي قائلاً: "باختصار، يجب البدء فوراً بعد تحرير لبنان من القوات الاجنبية بتحرير العقل اللبناني وبناء مواطن لبناني بعقلية جديدة تستطيع الصمود في وجه العاصفة الثائرة في المنطقة". وصفق النواب وهرعوا لمعانقتي ومصافحتي. وطلب صائب سلام الاذن بالكلام فطالب بتأييد الحكومة بالاجماع على جهودها في استعادة السيادة والاستقلال. ووافق المجلس على الاتفاق. ودعاني الجميل الى مكتبه وقال انه كان يود مخاطبة الشعب اللبناني في شأن الاتفاق، ولكنه عدل عن ذلك بعد سماع خطابي واستقبال مجلس النواب له، وطلب مني عوضاً عن ذلك ان القي خطابي نفسه عبر التلفزيون حتى يسمعه الشعب ويعرف ماذا فعلنا ولماذا، وهكذا فعلت. واثار الخطاب تأييداً شعبياً خلال النهار وقصفاً كثيفاً خلال الليل، وكانت هذه الاشارة الاولى للولادة الصعبة لهذا الاتفاق. حتى قبل بدء المفاوضات مع لبنان، اعلنت اسرائيل ان انسحابها مشروط بانسحاب منظمة التحرير الفلسطينية مسبقاً وانسحاب السوريين بشكل كامل واعادة الاسرى وجثث الجنود الاسرائيليين لدى المنظمة والسوريين. وأثيرت هذه المسائل ايضاً خلال المفاوضات، وقلنا اننا لا نملك السيطرة على منظمة التحرير او السوريين وان مفاوضاتنا مع اسرائيل مسألة منفصلة. وكانت هذه من المسائل التي كنا ننوي بحثها مع الاميركيين ولكن لم نعتبرها اطلاقاً شرطاً ضرورياً في الاتفاق. واصبح لدينا الآن اتفاق ومشكلة كبيرة في تنفيذه، لذلك ارسلت الرسالة الآتية الى الاميركيين: 17 أيار مايو 1983 سعادة السفير فيليب حبيب المبعوث الخاص لرئيس الولاياتالمتحدة الاميركية حضرة السفير العزيز: نؤكد لكم ان موقف لبنان هو انه في حال عدم حصول الانسحاب الاسرائيلي حسب شروط الاتفاق، سيكون للبنان الحرية في تعليق القيام بواجباته حسب الاتفاق. وفي حال حصول ذلك، فمن المتفق عليه ان تتشاور الولاياتالمتحدةولبنان واسرائيل بشكل فوري وعاجل. واذا بقيت المسألة من غير حل سيكون للبنان الحرية في اعلان الاتفاق باطلاً وكأنه لم يكن. وسيستمر لبنان في السعي الى اعادة سيادته وانسحاب جميع القوات الاجنبية في شتى السبل المناسبة. ايلي. أ. سالم، نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية. وقع الاتفاق رؤساء الوفود الثلاثة، فتال عن لبنان وكيمحي عن اسرائيل ودرايبر عن الولاياتالمتحدة. وارسلنا الرسالة الواردة اعلاه الى حبيب، وتلقى رئيس الجمهورية يوم 17 أيار مايو 1983 الرسالة التالية من الرئيس رونالد ريغان: "سيدي الرئيس، شاركت الولاياتالمتحدة بشكل كامل في التوصل الى اتفاق بين لبنان واسرائيل ووقعت عليه كشاهد في ضوء علاقات الصداقة الطويلة التي تربطها مع لبنان. وستتخذ الولاياتالمتحدة تبعاً لذلك كل الخطوات المناسبة لتشجيع التقيد التام بالاتفاق. ان الولاياتالمتحدة تدعم بشكل كامل سيادة لبنان واستقلاله السياسي ووحدة أراضيه. من هنا تشارك الولاياتالمتحدة وتدعم رغبة لبنان بانسحاب جميع القوات الاجنبية بشكل كامل من اراضيه. وفي حال فشل القوات الاجنبية بالانسحاب طبقاً لترتيبات الحكومة اللبنانية ستقوم الولاياتالمتحدة بالتشاور بشكل عاجل وستتخذ خطوات اخرى لتحقيق انسحاب جميع القوات الاجنبية من لبنان كما تراه مناسباً. وفي حال حدوث انتهاك حقيقي او محتمل للاتفاق، ستتشاور الولاياتالمتحدة مع الاطراف، عند طلب احدهما او كلاهما، ضمن لجنة الاتصال المشتركة او لجنة الترتيبات الامنية التي انشئت وفقاً للاتفاقف او من خلال قنوات متوفرة اخرى كما تراه مناسباً. واذا وجدت الولاياتالمتحدة ان هناك انتهاكاً حقيقياً او محتملاً للاتفاق، ستتشاور مع الاطراف في شأن خطوات يمكن للولايات المتحدة او للاطراف أنفسهم اتخاذها لمنع او تصحيح الانتهاك الحقيقي او المحتمل لضمان التقيد الكامل بالاتفاق وكما تراه مناسباً. وتعترف الولاياتالمتحدة في هذا الصدد ان لبنان دخل الاتفاق على اساس انه يملك حرية تعليق القيام بما يتوجب عليه حسب الاتفاق في حال عدم حصول انسحاب القوات المسلحة الاسرائيلية طبقاً لشروط الاتفاق. وستبذل الولاياتالمتحدة افضل جهودها لتجنب اعمال تقوم بها دول اخرى في المنطقة تقيم علاقات مع الولاياتالمتحدة اذا كانت هذه الاعمال تهدف الى منع تطبيق الاتفاق او ايذاء لبنان بأي شكل اخر. وستحاول الولاياتالمتحدة المساهمة في المعونة العسكرية والاقتصادية المشروعة التي يحتاج اليها لبنان بعد موافقة الكونغرس عليها. وستدعم الولاياتالمتحدة في هذا الشأن وبالاساليب المناسبة اعادة اعمار لبنان اقتصادياً وتطوير قواته المسلحة لمساعدة حكومة لبنان على اتمام مسؤولياتها حسب الاتفاق. وتوافق الولاياتالمتحدة، وفقاً لشروط الاتفاق، على الاشتراك في لجنة الاتصال المشتركة وفي لقاءات لجنة الترتيبات الامنية اذا دعاها اليها اي من الطرفين. وفي هذا الاطار، ستثبت الولاياتالمتحدة اي تفاهم يتم التوصل اليه بين الطرفين خلال المفاوضات المتعلقة بتطبيق الاتفاق او تفسيره. المخلص رونالد ريغان" رافق هذه الخطوات الرسمية شعور متزايد بأن الاتفاق اللبناني - الاسرائيلي سيواجه مأزقاً كبيراً. وكانت تصرفات اسرائيل على الارض والمعارضة السورية للاتفاق تتطلب جهوداً ديبلوماسية مكثفة لازالتها ولضمان تنفيذ الاتفاق. وهذا ما بدأنا نعمل من اجله. الاسبوع المقبل: الحلقة الخامسة