ينتمي الشيخ حمد الجاسر الى جيل المؤسسين، الذين قاموا في اكثر من قطر عربي، بوضع اللبنات الاولى لمشروع حضاري طويل المدى، وما زال في طريقه الى التحقق. فهذا العالم السعودي الجليل، الغني عن كل تعريف، وهب حياته للعلم والبحث الدؤوب، متنقلاً من الصحافة الى فقه اللغة مروراً بالتأريخ والتأليف الموسوعي. وقد عاش مؤسس صحيفة "اليمامة" وصاحب "المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية" بأجزائه الثمانية عشر، مرحلة حاسمة من حياته الخصبة في بيروت، التي يتحدث في حواره مع "الوسط" عن اثرها في تجربته الصحافية والعلمية. قبل ان يحوّلني الى الشيخ حمد الجاسر، طلب مني الصوت بلهجة مصرية ان ارفع صوتي لكي يستطيع الشيخ ان يسمعني. وعندما وصلني صوت الشيخ، بادرته بالتحية، واستأذنته ان يخصص لي وقتاً كي اتحاور معه. سألني عن مجلة "الوسط" وعن رئيس التحرير، الذي عرف مباشرة "نسبه" الصحافي. قلت له: "ومن هنا يا شيخنا، سيكون الحوار حول بيروت". وطلب مني ان احضر اليه في الثامنة من صباح اليوم التالي… الشارع الذي يقع فيه بيته ويحمل اسمه، "شارع حمد الجاسر"، يتفرّع من شارع الامير احمد بن عبدالرحمن في حي الورود بالسليمانية. أوقفت سيارتي امام باب حديدي ابيض على جانبه الايمن لوحة كتب عليها "دارة العرب" وهي مجلة الشيخ. عبرت الفناء المزدان بالنخيل الى مبنى ملحق بالجهة الشمالية من الدارة، حيث كان موظف مصري في انتظاري. دعاني للجلوس، ثم دخل يخبر الشيخ بحضوري، وكنت اسمع صوته وهو يحقق قصيدة تراثية يلقيها عليه موظف آخر. بعد دقائق دخلت، فإذا الشيخ جالس على مقعد جلدي متواضع، امامه طاولة صغيرة عليها اكوام من المجلدات. وقبل ان يخرج الموظف الآخر قال لي: قرّب كرسيك من الشيخ وارفع صوتك لكي يسمعك. قلت لنفسي: "ها هو العمر يعقد شاله حول حواسك. وها أنت يا شيخنا تنفض السنوات عن عينيك بكلتا يديك، لكيلا تخسر يوماً من ايام المعرفة التي غمست اكمامها في دمك"… مد يده حيث اوراقي وآلة التصوير الخاصة بي، قائلاً: - أرني أسئلتك. فبادرته: أنا لم اكتب اسئلتي، انما هي هواجس لمعت في قلبي اريد ان اتحدث عنها. - وما هي؟! تجربتك في بيروت. إسترخى على مقعده ووضع كفّه المرتعشة على ذقنه البيضاء. - وهل ستكتب خلفي؟! - بل سأسجل. ضغطت زر التسجيل وقربت الآلة اليه. لبرهة، أغمض عينيه، وحين فتحهما، إنهمرت من بين شفتيه هتون الذكريات: - رعى الله أيام بيروت، بيروت التي كانت، ويُرجى ان تكون، في قمة البلدان العربية عناية بثقافة امتنا العربية. لقد برز فيها في ذلك العهد اقطاب رجال الصحافة ممن عرفوا بصدق الكلمة وصراحة الرأي. ويروي لنا الشيخ: - عشت في بيروت زمناً، اعده اخصب ايام حياتي. هناك في تلك المدينة الكريمة، انشأت "مجلة العرب" التي استكملت هذا العام عامها السابع والعشرين. في بيروت عرفت اخوة من رجال الادب والصحافة، لعل اكثرهم لاقى ربه. عرفت "أبا محمد" مارون عبود، وسعيد فريحة الصحافي الشهير، ورياض طه، وميشال ابو جودة وآخرين. كنت سعيداً بهذه المعرفة لانني، وان لم استفد من هؤلاء في مدرسة او في جامعة، فقد استفدت خلقاً وتجربة وقراءة مما كانوا يكتبون، فأصبحت متأثراً بكثير من اتجاهات الصحافة الحرة في تلك البلاد. في مدينة بيروت، انشأت عام 1966 "دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر". وقامت هذه الدار بنشر عشرات الكتب التي تتعلق بتاريخ بلادنا وتراثها وادبها القديم. ومن ابرز هذه الكتب "المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية". وكان مما حفزني على اصدار هذا المعجم، ان كل باحث مهتم بالدراسات الجغرافية، كثيراً ما يطمح الى التعرف الى بعض المواطن والمنازل والمواضع المذكورة في الاشعار او الاخبار القديمة لهذه البلاد. وشعرت آنذاك انه من الضروري ان نضع بين ايدي الباحثين معجماً شاملاً لكل ما ورد في كتب التاريخ والشعر القديم. كما انني كنت مؤمناً بأن الآخرين يجب ان يعرفوا هذه البلاد بما فيها من مدن وقرى ومظاهر حياتية، وان يعلموا شيئاً من تاريخ سكانها. من هنا، دعوت من خلال "مجلة العرب" الى تأليف معجم شامل للبلاد العربية، ورأيت ان الامر يجب ان يكون تجريبياً في البداية. وعلى هذا الاساس، طلبت من كل مثقف في اي منطقة او قطر او مدينة، لديه الاستعداد لكي يكتب عن تحديد المواقع التي يعرفها، ان يقدمها لي، وابديت استعدادي لدراسة ما يقدم ولنشره ان كان صالحاً. هكذا استطعت ان اجمع ما يقرب من عشرين مجلداً، طبع منها ثمانية عشر مجلداً، تحوي اهم اقسام هذه البلاد. ولقد تأثر بعض الباحثين بهذه الفكرة، فكتبوا عن اقطار لم يشملها هذا العدد من المجلدات. أكثر أيامي خصباً في بيروت، اصدرت تلك الأجزاء الكثيرة من المعجم الجغرافي، ولم يبق سوى مناطق يسيرة من بلادنا، آمل ان يتصدى لها الباحثون، ليكملوا تلك السلسلة. كما آمل ان ينظروا الى ما كتب نظرة دراسة وتعمق وبحث، ثم يرتبوها ترتيباً ابجدياً، بحيث تدمج الاجزاء كلها في معجم واحد. أعود الى بيروت: فالفترة التي قضيتها فيها، كانت اكثر ايام حياتي خصباً واغزرها انتاجاً. ولا ازال احمل منها اجمل الذكريات، وان اكتويت آخر الامر بالنار التي احرقتها، حينما وقعت الفتنة، وحدث في هذه البلاد ما حدث من التدمير والتشريد والقتل والنهب. لقد فقدت في بيروت اغلى ما املكه. فقدت عام 1975 اكبر ابنائي، الذي كان قد تخرج للتو من الجامعة الاميركية، وفقدت مكتبتي التي كانت تضم نفائس، مما حرصت على جمعه واختياره سواء ما كان مطبوعاً او منسوخاً من مخطوطات نادرة. فقدت في تلك النكبة مؤلفات كنت قد اعددتها للنشر، بل كنت قد شرعت في طباعة بعضها، فراحت في الدمار مع اصولها. مع كل ذلك، لم آسى ولم أحزن. فإن كنت قد لقيت ضرراً من جراء هذه المحنة، فإن ما نلته من مغنم من تلك المدينة يخفف على ما حصل لي من مَغرَم. وكيف ترى بيروت اليوم؟ اهل بإمكانها ان تمارس دورها الثقافي الذي كانت تؤديه في فترة ما قبل الحرب الاهلية؟! - ان هذه البلاد التي بلغت فيها الثقافة العربية مستوى يغبطها عليه كل قطر عربي آخر، لا يتصور المرء الا انها ستستعيد مكانتها، اذ لا تزال اصول هذه الثقافة وجذورها مغروسة في نفوس اهالي تلك البلاد. ان بلاداً انجبت من كان ذا اثر في الثقافة العربية في ماضيها، لن يعجزها بحول الله ان تنجب آخرين، يسيرون على ما سار عليه اوائلهم. أنستطيع ان نعود الى ما قبل بيروت؟! - كنت في اول حياتي الثقافية ممن يهوى الصحافة ويميل اليها. وحدث ان عينت معتمداً للمعارف في نجد، مديراً للمدارس التابعة لمديرية المعارف في بلاد نجد، بأمر من ولي العهد سعود، في حياة والده الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود رحمه الله. عرضت على سموه آنذاك ان مدينة الرياض بحاجة الى اصدار صحيفة وانشاء مطبعة. وكان رحمه الله حريصاً على ان تبلغ هذه المدينة كل ما تطمح اليه من وسائل الرقي والتقدم، فرحب بالفكرة، ووعد بالعون والمساعدة. كتب سموه، وهو كان يدير مقاليد الحكم نيابة عن والده الذي تقدم به السن، الى الجهات المسؤولة طالباً ان تمنحني اجازة بإصدار جريدة وانشاء مطبعة. وتم ذلك بعون وحسن توجيه سموه. انشأت اول صحيفة في مدينة الرياض في آب اغسطس 1953، وهي صحيفة "اليمامة". كما تم في نفس السنة انشاء اول مطبعة، بمساهمات جماعية، وكنت قد نقلت من عملي الاساسي الى عمل آخر، وهو المساعدة في انشاء اول معهد ديني في الرياض بمبادرة من الشيخ محمد بن إبراهيم، رحمه الله. بثثت فكرة انشاء دار للطباعة بين طلاب واساتذة المعهد، فتم ذلك. ولقد عرفت هذه المطابع فيما بعد باسم "مطابع الرياض" التابعة لپ"شركة الطباعة والنشر الوطنية". اما صحيفة "اليمامة" فهي لا تزال تصدر حتى يومنا هذا، وان دخل عليها بعض التطوير والتغيير من ناحية ايام صدورها ووسيلة ادارتها. بعد ذلك حدثت امور اضطرتني اضطراراً للانتقال الى بيروت. وهناك، فكرت في الاستمرار في العمل الصحافي، فأنشأت مجلة "العرب"، التي لا تزال تصدر منذ سبع وعشرين سنة. وهي مجلة تعنى بالشؤون التاريخية الجغرافية الادبية، اي بالتراث الفكري العربي القديم. ويسرني ان يكون لهذه المجلة قراء داخل وخارج الوطن العربي، ممن يعنون بالدراسات العربية القديمة، حتى من غير العرب. بعد عودتك من بيروت، هل عدت لممارسة العمل الصحافي خارج اطار مجلة "العرب"؟ - عندما فكرت الدولة بإسناد شؤون الصحافة الى مؤسسات ونزعها من ادارة الافراد، تلقيت خطاباً من الاستاذ جميل الحجيلان، وكان وزيراً للاعلام آنذاك، يدعوني فيه للعودة من بيروت الى الرياض. وحين عدت، عرض علي ان يعيد الي صحيفة "اليمامة"، واخبرني ان الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله، هو الذي امر بذلك. وكانت قد اسندت ادارتها ورئاسة تحريرها الى غيري، لاسباب لا داعي لتفصيلها. اطلعني الاستاذ الحجيلان على قرار الدولة بإسناد الصحافة الى مؤسسات، وقال انه يستحسن ان اتقدم انا وبعض الاخوان باقتراح الاشراف على احدى المؤسسات الصحافية، على ان تتولى هذه الاخيرة اصدار ما نريد من صحف ومنها "اليمامة". وافقت على ذلك. ثم اتفقت مع بعض الاخوة بأن اتقدم بطلب انشاء مؤسسة صحافية تصدر جريدة يومية باسم "الرياض" ومجلة اسبوعية باسم "اليمامة" ومجلة شهرية وبعض المطبوعات الاخرى التي تتمكن المؤسسة من اصدارها. صدرت الموافقة، فأصدرنا اول الامر مجلة "اليمامة" الاسبوعية، وتوليت رئاسة تحريرها، ثم اصدرنا جريدة "الرياض" اليومية. وكانت "اليمامة" و"الرياض" تطبعان في مطابع "الرياض" التي سبق ان تحدثت عنها. واستمرت المؤسسة الى يومنا هذا. تثقيف العقول! كيف كنت ترى نفسك كرئيس تحرير لمطبوعة صحافية، وانت المتخصص في التاريخ والجغرافية والادب العربي القديم؟! - اعتقد ان الصحافة ليست مهنة او هواية، بقدر ما هي عمق معرفي وذوقي وفني. وانا، وان هويت الصحافة وعشقتها، الا انني اميل الى ما يتصل بالابحاث التاريخية والجغرافية والدراسات القديمة. وحين كنت اصدر صحيفة "اليمامة" ثم جريدة "الرياض"، كنت انحى في الصحافة منحى، لا يتفق مع الاهداف الصحافية التي يراها الصحافيون في ذلك العصر. فهؤلاء يعتبرون ان "الصحافة صورة وخبر"، وانا اقول ان الاذاعتين المسموعة والمرئية قضتا على الصورة والخبر. لذلك، ينبغي ان يكون للصحافة دور اهم واسمى، خصوصاً في البلاد التي لم تبلغ ما تطمح اليه من الرقي والتطور في جميع احوالها. وفي هذا الاطار، ينبغي للصحافة ان تقوم بدور تثقيفي لعقول الافراد، والنهوض بمستوى افكارهم الى مستوى رفيع. ولا بد ان يجد العامة في صحفهم شيئاً يؤثر ايجابياً في عقولهم وافكارهم، حتى لا تتحول الصحف في النهاية الى ملهاة!! هذه هي نظرتي الخاصة لدور الصحافة. لذلك، حين حدث بيني وبين بعض الاخوة المشرفين على ادارة مؤسسة "اليمامة" الصحافية بعض الخلافات، ابديت للمسؤولين في الدولة رغبتي في اصدار مجلة متخصصة في الشؤون التي اميل اليها، وكنت اقصد "مجلة العرب"، فمنحت ذلك. ومن خلال هذه المجلة، احس بأنني ابذل كل ما في وسعي لخدمة بلادي وامتي في هذا المجال الثقافي الواسع. اسمح لي يا شيخنا ان اورد اتهاماً يردده البعض، من ان حمد الجاسر تخصص في شؤون الجغرافيا والتاريخ والدراسات الادبية القديمة هرباً من المشاركة في القضايا الصحافية ذات الطابع الاجتماعي والسياسي… كيف ترد على هذا الاتهام؟! - دعني اوضح لك هذه الحقيقة: في بداية حياتي، امضيت ردحاًَ من الزمن وانا ادرس العلوم الدينية على مشايخ مدينة الرياض. ثم سافرت في العام 1914 الى مكة والتحقت بالمعهد السعودي الاسلامي حيث تخصصت في القضاء الشرعي وتخرجت قاضياً. في ذلك الحين، حدث بيني وبين رئيس القضاة منافرة جعلتني غير راغب في تولي القضاء، فاتجهت الى مهنة التدريس، التي احببتها وامضيت في ممارستها زمناً يزيد على عشرين عاماً. وان كنت ارغمت على تولي القضاء، فأنا لم اكمل في هذه المهنة عاماً واحداً. اذن، فدراستي في اول الامر، كانت دينية، وهذا مكنني ولله الحمد، من الالمام بكثير من قضايا الدين التي افادتني في مجال ابحاثي التاريخية والجغرافية والادبية. وحين كنت اصدر جريدة "اليمامة"، حدث خلاف بيني وبين احد مشايخنا، فحاولت بعد ذلك ان ابتعد عن كل ما يؤثر على فكري. لان الانسان، اذا لم يكن صافي الفكر، مبتعداً عن كل المؤثرات، لا يمكن له ان يؤدي عملاً متقناً صحيحاً. لذا صرت احاول ان ابتعد عن كل المشكلات التي قد تسبب لي المضايقات. اما النواحي السياسية، فمنذ انشأت "مجلة العرب"، وانا ناء عنها. ولو تصفحت مجلدات المجلة التي تقارب سبعة وعشرين ألف صفحة، لوجدت انها لا تحمل في طياتها موضوعاً سياسياً واحداً. فأنا احرص كل الحرص على الا اخوض في مسائلها. فالسياسة لها رجالها، اما انا فلم اخلق لاكون سياسياً، بل باحثاً في هذا لتراث الذي خلفه لنا اجدادنا العلماء. صمت الشيخ، وكذلك فعلت. أوقفت آلة التسجيل، ثم مددت يدي الى آلة التصوير. سألته: هل بالامكان ان التقط لك بعض الصور؟ - ابتسم، فانقشع عن وجهه غمام اسئلتي!! همّ بالنهوض، فأعطيته يدي لكي يتكئ عليّ. خرج من مكتبه، فأخذت اشغل نفسي بتجهيز "الكاميرا". وبعد ان اعددتها، وضعتها الى جانبي. حُفر لي أربعة قبور التقطت دراسة ببليوجرافية عن حمد الجاسر للدكتور يحيى محمود ساعاتي، الاستاذ المساعد ورئيس قسم المكتبات والمعلومات بكلية العلوم الاجتماعية في "جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية"، واخذت اقرأ ما اورده عن ولادة ونشأة الشيخ: "قرية البرود، القابعة على حافة الصفراء غرب النفود في اقليم السر بمنطقة نجد، العام 1238ه، يبزغ نجم إنسان… علّ من رآه حينها لم يدرك اي شأو سيناله في قادم الزمن. فالركود الثقافي والفكري كان هو حالة المناخ الذي تعيش في اجواء الجزيرة العربية. والطفل القادم، كان يعاني علات توحي بأنه سيكون مقعداً في منزل اهله: عشت اول حياتي عليلاً، فلم احسن المشي الا في السنة الرابعة من عمري". ما كان لاحد ان يلوم من ذهب به الظن حين ذك الى أن حمداً لن يكون غير قروي عادي يمارس حياته مثل غيره ممن يعيش بين ظهرانيهم ان تمكن من تجاوز علله. ويبدو ان المرض كان يعتوره بين حين وحين وضعفه وهزاله، دفع بأهله الى التشاؤم حول مصيره: "أخبرتني اختي، امتعها الله بالصحة والعافية، بأنه حفر لي اربعة قبور، اي ان اليأس من حياتي اعترى اهلي اربع مرات بحيث كانوا يحفرون القبر لي، ولكن يدفن فيه غيري". ولعل من حسن الطالع للحركة الفكرية في المملكة العربية السعودية ان يصطحب الجاسر في صغره الهزال والضعف وان يعاوده المرض لينجو من ان يكون انساناً مثل غيره من ابناء قريته البرود، يفلح الارض ويعيش حياته قروياً قانعاً راضياً بما تجود عليه الفلاحة من قوت يومي. وحين شعر والده محمد بن جاسر آل جاسر بعدم جدواه في اعمال الفلاحة، ارسله الى كتاب في قرية مجاورة هي "حزمية"، فبدأ مشوار العلم والمعرفة بقراءة القرآن على رجل فاضل هو عبدالله بن ابراهيم. لكن المرض لم يتركه، مما استدعى عودته الى بلدته الاصلية. وحين شفي، ارسله والده لطلب العلم مرة اخرى. ولكن كانت الوجهة في هذه المرة مدينة بعيدة، اكثر حيوية واوسع مجالاً لمن يرغب في التحصيل العلمي. تلكم كانت الرياض التي توجه اليها عام 1341ه". رفعت عيني عن صفحات الدراسة، واخذت اطالع الرفوف المتلاحقة لمكتبة الشيخ، والتي تتكدس داخلها المجلدات ورحت اخاطبه في سري: "ليس الشارع المسمى باسمك، هو فقط ما سيبقى منك، ستبقى الجريدة والمجلة والمعاجم… بل ستبقى حتى نبرة صوتك الفصيح و"لفة شماغك" حول اذنيك. ستبقى الرياضالمدينة بك. ترسل رياحها من بين كتفيك لنشم فيها عرار نجدٍ، تلك التي نتدفأ كل ليلة بخجل نجومها". على طرف احد الرفوف، كان ثمة قائمة، من ست صفحات. التقطتها، فوجدتها تحتوي على كل منشورات "دار اليمامة للبحث والترجمة". خمسة وثلاثون كتاباً ومعجماً، اصدرتها الدار منذ تأسيسها عام 1966، من ابرزها: "المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية" معجم جغرافي تاريخي مطول/18 جزءاً،"المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية" - معجم مختصر/ 3 اجزاء، "مدينة الرياض عبر اطوار التاريخ"/ 216 صفحة، "تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد"/ 352 صفحة، "بلاد العرب"/ 599 صفحة، "أبو علي الهجري وأبحاثه في تحديد المواقع"/448 صفحة، "أدب الخواص" /206 صفحات، "الإيناس في علم الانساب"/ 386 صفحة، "معجم قبائل المملكة العربية السعودية"/ جزءان، "جمهرة انساب الاسرة المتحضرة في نجد"/ جزءان، "نظرات في كتاب تاج العروس"، "الجوهرتان في التعدين والمعادن"… هذا بالاضافة الى "مجلة العرب"، التي صدر المجلد الاول منها في تشرين الاول اكتوبر 1966، ولا تزال تصدر حتى اليوم، مخلفة وراءها 27 مجلداً. عدت الى مقعدي، والتقطت مرة اخرى دراسة الدكتور الساعاتي، لاجد في صفحتها رقم 28 ان الدكتور علي جواد الطاهر يعتبره عنصراً مهماً من المجامع العلمية العربية، فقد انتخبه "المجمع العلمي العربي" بدمشق مجمع اللغة العربية فيما بعد في جلسته المنعقدة في 10 آذار مارس 1951، عضواً مراسلاً وصدر بذلك مرسوم جمهوري بتاريخ 1 نيسان ابريل 1951. كما انتخبه المجمع العلمي العراقي بجلسته السابعة عشرة المنعقدة في 6 شباط فبراير 1954 عضواً مراسلاً. وانتخبه مجمع اللغة العربية في القاهرة عضواً عاملاً بتاريخ 29 نيسان ابريل 1958. وصدر مرسوم جمهوري بذلك في 28 كانون الاول ديسمبر 1958، وهو كذلك ذو مكانة في الاردن والمغرب… ويذهب الطاهر الى ان: الجاسر "اشهر ادباء السعودية داخل البلاد وخارجها، تهيأ له ذلك بحق ومن غير قصد الى الدعاوة". وفي موقع آخر من الصفحات، قرأت رأي احدى الجهات التي رشحت حمد الجاسر لجائزة الدولة التقديرية في الادب التي حصل عليها عام 1983: "انه غني بجهوده العلمية عن كل تعريف، وتقصر اي كلمات عن ان توفيه حقه من الاشادة والتكريم، لقاء جهوده العلمية والادبية، والتي يحق للملكة العربية السعودية ان تعتز بها كل الاعتزاز. ولذا فنحن نضعه على قمة المرشحين لنيل جائزة الدولة التقديرية في الادب". عاد الشيخ حمد، فنهضت احييه. سألني مبتسماً، وهو يعدل شماغه: - هل أبدو مقبولاً؟! أجبته مازحاً: يجب ان تبدو كذلك. فقال بروح تملؤها الدعابة: - وهل تطالع النساء مجلتكم؟! كنت قد أحضرت احد اعداد "الوسط"، فتحت له الصفحات الاخيرة للمجلة واريته اياها. قال: - إنهن فعلاً جمىلات. ثم أكمل: - إذن حاول ان تجعل صورتي "مضبوطة"!!