لا شك في أن الرئيس بيل كلينتون هو الذي سيتخذ القرارات السياسية الخارجية في الادارة الاميركية الجديدة. ولكن من هم مستشاروه الرئيسيون في ما يتعلق بقضايا الشرق الاوسط؟ من المؤكد ان الشخصية الرئيسية هي مارتن إندايك مدير مكتب الشرق الاوسط في مجلس الامن القومي. اذ انه سيطور مع المدير الجديد لوحدة التخطيط السياسي في وزارة الخارجية صموئيل لويس، الاستراتيجية الأساسية لكلينتون تجاه القضايا العربية - الاسرائيلية. ومن المرجح ان العرب يعرفون ان هناك سمعة قوية لإندايك ولويس بصفتهما من أقوى مؤيدي اسرائيل. وهذا صحيح. لكن المسألة لا تقف عند هذا الحد. اذ ان اندايك الذي سيكرس معظم طاقاته للصراع العربي - الاسرائيلي له خلفية تبعث على الاهتمام. فهو من مواليد استراليا. وسبق له أن عمل لفترة قصيرة محللاً للمعلومات الاستخبارية في مكتب رئيس الوزراء الاسترالي. وفي أوائل الثمانينات هاجر الى الولاياتالمتحدة وكتب دراسة قصيرة عن قرار الرئيس انور السادات زيارة القدس، وبعدئذٍ أصبح عضواً في اللوبي الاسرائيلي "أيباك" اللجنة الأميركية - الاسرائيلية للشؤون العامة. وفي أواسط الثمانينات أصبح إندايك المدير التنفيذي لمعهد سياسة الشرق الأدنى الحديث النشأة في واشنطن، الذي يوصف عادة بأنه معهد للدراسات والأبحاث الموالية لاسرائيل. وسرعان ما بدأ إندايك بتنظيم الاجتماعات وإصدار نشرات الابحاث التي تركت اثرها في المناقشة العامة لقضايا الصراع العربي - الاسرائيلي في واشنطن. وكان اعظم نجاحاته في عام 1988 عندما نشر تقرير "بناء السلام" الذي اشترك في اعداده "مجموعة من مستشاري الرئاسة" بينهم عدد من كبار شخصيات ادارة الرئيس بوش الجديدة آنذاك ولا سيما لاري ايغلبيرغر، ودينس روس وريتشارد هاس. ومن وجهات النظر اللافتة للانتباه التي أوردها تقرير "بناء السلام" ان على الولاياتالمتحدة ان تنتظر "اللحظة الملائمة" قبل ان تعلن أية مبادرة للسلام في الشرق الاوسط. ولم تكن وجهة النظر تلك اكثر من الدعوة الى عدم فعل اي شيء الى ان تصبح اسرائيل مستعدة للتحرك الى الأمام. وتحاجج هذه الدراسة بأن ممارسة الضغط على اسرائيل لن تعود على الأرجح الا بنتائج عكسية. ومن المواضيع الاخرى التي وردت في التقرير وجوب تجاهل الولاياتالمتحدة منظمة التحرير الفلسطينية والتركيز على الفلسطينيين الاكثر واقعية واعتدالاً داخل الأراضي المحتلة. كذلك أعرب التقرير عن شكه في جدوى أي مؤتمر دولي. وطوال السنوات الأربع التي تلت نشر هذه الدراسة لعب إندايك، من مركزه في معهد واشنطن، دوراً مؤثراً، لكن يبدو انه طور آراءه فيما بعد، لا سيما عقب حرب الخليج الثانية. اذ انه كان بين الذين رأوا وجود فرصة ديبلوماسية لأميركا بعد أزمة الخليج. ولهذا أيّد ديبلوماسية بوش - بيكر التي أدت الى انعقاد مؤتمر مدريد. وكان انتقاده الرئيسي الوحيد لادارة بوش هو موقفها من قضية ضمانات القروض لاسرائيل. ولهذا لم يكن من المستغرب ان يعارض الضغط المباشر على اسرائيل مع انه كان مسروراً حين فاز اسحق رابين على اسحق شامير في انتخابات عام 1992. وبفوز رابين اصبح اندايك من الدعاة المتحمسين للفكرة القائلة انه يجب على الولاياتالمتحدة ان تضغط من اجل التوصل الى اتفاقات على جبهتي المفاوضات الاسرائيلية - الفلسطينية والاسرائيلية - السورية. كما انه أعلن جهاراً تأييده للتوصل الى اتفاق شامل، وهو يعتقد الآن ان الوقت مناسب تماماً للوساطة الاميركية النشطة. وهذا هو في الواقع الموضوع الذي ركّز عليه في تقريره الأخير بعنوان "متابعة السلام". وإضافة الى انهماكه في عملية السلام، حاول اندايك وبنجاح كبير تطوير علاقة عمل ناجحة مع عدد من الديبلوماسيين والمثقفين العرب. اذ ان الكثيرين منهم وافقوا على الاشتراك في اجتماعاته وندواته. كما انه زار الشرق الاوسط واجتمع الى الرئيس الاسد والرئيس مبارك والملك حسين وبعض الزعماء الفلسطينيين والديبلوماسيين العرب في واشنطن. والواقع ان الديبلوماسيين العرب لم يشعروا بالذعر من تعيينه. فمع انهم يعرفون انه مؤيد لاسرائيل فانهم لا يعتبرونه معادياً للعرب، كما ان التزامه بوجوب قيام اميركا بدور فعّال في عملية السلام يبعث على الطمأنينة بينهم. ومما يجدر ذكره ان اندايك يرى الحركات الاسلامية الراديكالية خطرا على عملية السلام. كما انه يشك في امكانات نجاح العملية الديموقراطية على الطريقة الغربية في العالم العربي. وهكذا، هناك نقطتان رئيسيتان في تفكير إندايك، وأعتقد انه سينقلهما بقوة ووضوح الى الرئيس كلينتون: الأولى هي ان صنع السلام يحتاج الى التعاون الاسرائيلي - الأميركي بصورة وثيقة. فنظراً الى انه يجب على اسرائيل ان تقتنع بتقديم تنازلات جغرافية مهمة ونظراً الى ان الولاياتالمتحدة لا تستطيع ببساطة اجبار اسرائيل على التخلي عن الأراضي المحتلة فان على اسرائيل ان تثق بتأمين الولاياتالمتحدة ضمانات طويلة الأمد لأمنها في مقابل أية تنازلات تقدمها. وثانياً، يعارض إندايك بشدة أي تعزيز لدور منظمة التحرير في عملية المفاوضات ويفضل تعزيز دور الفلسطينيين والأردنيين الذين يشتركون فعلاً في التفاوض مع اسرائيل. الرئيس هو المهم أما صموئيل لويس الذي يشبه إندايك كثيراً في تفكيره ايضاً، فسيلعب دوراً في صياغة السياسة العربية - الاسرائيلية ولكنه سيكون مسؤولاً عن عدد آخر من القضايا اضافة الى الشرق الاوسط. ولهذا فان اثره ربما يكون أقل من اندايك. ولكن خبرته التي اكتسبها عندما كان سفيراً في اسرائيل في عهدي كارتر وريغان، وعلاقاته وصداقته القوية مع معظم اعضاء القيادة الاسرائيلية السياسية ستضمن اصغاء الرئيس كلينتون ووزير خارجيته لآرائه. ويلخص صموئيل آراءه، بأفضل شكل، في التقرير الذي نشره "المعهد الاميركي للسلام" الذي كان رئيساً له، بعنوان "تحقيق السلام بين العرب والاسرائيليين". اذ يطالب التقرير بمشاركة اميركية قوية في عملية السلام، مع التركيز على وجوب انهماك الرئيس الاميركي مباشرة في العملية. ويعرب لويس عن ارتيابه في خطط السلام الرسمية ويفضل الديبلوماسية الهادئة والتعاون الوثيق بين اسرائيل والولاياتالمتحدة. وهو يعتبر عملية السلام ممارسة لعملية اقناع اطراف الصراع بتعديل آرائها. كما انه لا يؤيد ممارسة الضغط على اسرائيل الا اذا كانت اطراف الصراع على وشك التوصل الى اتفاق ولا بد من الضغط من اجل تحقيق هذا الاتفاق النهائي. ولربما كان من الصواب القول انه لم يسبق أن كان في الادارة الاميركية اي مسؤولين على هذا المستوى ممن يعرفون اسرائيل وسياساتها، مثل اندايك ولويس. وفي هذا ما قد يعني نشوء تعاون وثيق على اعلى المستويات بين رابين وكلينتون شرط استئناف عملية السلام. وإذا ما حدث ذلك فانه لن يكون بالضرورة سيئاً للأطراف العربية، لأن الكثير سيعتمد على مدى اهتمام رابين فعلاً بالسلام. فاذا كان مهتماً حقاً فان هذا الفريق الاميركي سيثبت انه شريك فعّال في العملية، ولن يجد العرب صعوبة في التعامل معه. ولكن اذا ما ثبت ان رابين متعنت، وإذا ما ثبت ان رؤيته محدودة، فهل لدى هذا الفريق القدرة على اقناع رابين أو غيره من الاسرائيليين باعادة النظر في مواقفهم؟ هنا يأتي دور كلينتون. وفي هذا ما يعني ان الرئيس الاميركي الجديد هو المهم في الدرجة الأولى، لا إندايك ولا لويس. لكن آراء الرئيس كلينتون لا تزال حتى الآن لغزاً. * مستشار الرئيس الأميركي السابق كارتر وخبير بارز في شؤون الشرق الاوسط.