لا تكاد عين القارئ العربي تخطئ غزارة الانباء التي تغطي صور العنف والعنف المضاد بين السلطة والجماعات الاسلامية المتطرفة في الوطن العربي من اقصاه الى اقصاه. فعلى الرغم من ان هذا اللون من العنف اضحى ملمحاً اساسياً من ملامح التفاعلات السياسية سواء داخل الاقطار العربية أو في ما بينها اعتباراً من مطلع السبعينات، الا ان عام 1992 شهد تصعيداً خطيراً في شدة اعمال العنف وكذلك في تكراراتها. تحاول هذه الدراسة ان تقوم بعملية مسح مبدئية للعنف الديني والعنف الرسمي المقابل له في اكبر ساحتين اساسيتين له اي في مصر والجزائر على امتداد الاشهر القليلة الماضية. وهذه هي بعض ملامح الصورة: في الجزائر اغتيال رئيس المجلس الاعلى للدولة محمد بوضياف، تفكيك ما يربو على خمس مجموعات متطرفة، اغتيال ما بين 200 و250 رجلاً من رجال الامن الجيش والشرطة، قتل واعتقال زهاء مئتين من عناصر الجماعات الاسلامية، اضرام النيران في الحافلات والسيارات والغابات وتخريب كوابل الهاتف، اغتيال احد رجال القضاء واصابة آخر، تفجير سيارتين ملغومتين واهم من ذلك تفجير قنبلة في مطار هواري بومدين الدولي، سقط من جرائها تسعة قتلى ومئة واربعة وعشرون مصاباً، وفي مصر ايضاً طالت قائمة هذه النوعية من العنف وما يقابلها، ومن ذلك تنفيذ بعض المذابح الجماعية ضد الاقباط في بعض قرى الصعيد، تفكيك تنظيمات اسلامية متطرفة، سقوط اعداد غير معلومة من رجال الامن والاسلاميين في معارك ومواجهات متنوعة، تنفيذ سلسلة من الهجمات ضد السائحين الاجانب من جنسيات مختلفة اسفرت عن اصابة تسعة من بينهم وقتل سائحة واحدة. واول ما يتبادر الى الذهن هو ان ثمة خللاً جسيماً يكمن في معالجة الظاهرة وينتج عنه استشراؤها على نحو يستدعي مواجهة حاسمة ومتعددة الابعاد والمستويات. وقبل الدخول في التفاصيل، تجدر الاشارة الى ثلاث ملاحظات اساسية تتصل بالموضوع وتمهد له: الملاحظة الاولى هي ان التركيز على العنف الديني في مصر والجزائر لا ينفي ان ثمة مصادر اخرى للعنف الشعبي منها العنف الطالبي والعمالي ونحوهما، لكن منطق التركيز ينبع من ان هذا العنف الديني يتفوق بما لا يقاس على سائر انواع العنف الاخرى، فضلاً عن كونه تسبب في اقتياد السلطة الى عنف مضاد سواء على سبيل الاستباق او على سبيل المواجهة. الملاحظة الثانية هي ان مواجهة هذا العنف هي في طبيعتها مواجهة ممتدة لا تؤتي ثمارها بين عشية وضحاها، ومن ثم فليس من المتوقع ان يسفر البدء في البرامج الاصلاحية عن انخفاض مفاجئ في معدلات او شدة اعمال العنف، بل ان علينا ان نتعايش مع تلك الاعمال فترة زمنية غير قصيرة. فبقدر ما تتوافر القدرة على الاستمرار بقدر ما تتحدد نتيجة المواجهة. الملاحظة الثالثة هي اننا في ما لو قسمنا اساليب المواجهة او ادرناها على محاور ثلاثة هي: المحور التربوي - التعليمي، والمحور السياسي - الاجتماعي، والمحور الامني - القانوني - فانه ينبغي ان يكون واضحاً للاذهان منذ اللحظة الاولى ان المحورين الاولين المتعلقين بمدخلات اسباب عملية العنف الديني انما يتوجهان في الاساس الى تلك القطاعات من الشباب التي لا تزال تملك خيارها وتعاني من البلبلة الفكرية. اما المحور الثالث المتعلق بمخرجات نتائج عملية العنف الديني فانما يتعامل مباشرة مع تلك الفئة التي تكونت قناعاتها الذهنية واستقرت وتتخذ من قناعاتها تلك مسوغاً لرفع السلاح في وجه الدولة وترويع الآمنين من المواطنين والاجانب. في ما يتعلق بالمحور التربوي - التعليمي فانه يدور حول تكريس قيمة احترام الآخر المختلف في الدين او النوع او كليهما ورفض نفيه الوجودي او الاجتماعي، بحيث يجري ترشيح او تسريب تلك القيمة من المدرسة الى المسجد الى المؤسسة الاعلامية. اما المدرسة، فانها الخلية الاولى التي ينبغي ان تنطلق منها عملية الاصلاح بعد ان غدت لاطفال تراوح اعمارهم بين العاشرة والخامسة عشرة ادوار معتبرة في الربط بين خلايا العنف الديني وبعضها او في ضبط علاقتها بأجهزة الامن ورجاله. فمن أين أتى هؤلاء الصبية بأفكارهم؟ كيف امكن اقناعهم في تلك السن المبكرة باعتراض قافلة سياحية او تسهيل تفجير مقهى او منتدى؟ تلك قضية المدرسة. ان نظرة على المقررات الدراسية في بعض الدول ذات التعددية الدينية، ومنها مصر، تكشف عن قدر لا بأس به من التجهيل بالآخر المغاير في الدين من حيث المبادئ العامة لدينه، ومناسباته الروحية، واسهامه في حركة التنوير والكفاح السياسي. ولما كان الانسان عدو ما يجهل، فان اقامة مثل هذا الساتر او الحاجز النفسي بين عناصر المجتمع الواحد يمكن ان يتطور في ظل ظروف الازمة الاقتصادية وشيوع البطالة والفراغ الى مستوى العداء والاعتداء، ولا حق للمجتمع الذي لم ينشئ ابناءه على قبول التنوع لسنّة من سنن الخلق ان يحاسبهم على تصرفهم على النحو الذي انشأهم عليه، فيستحلون اموال المخالفين او يفتون بقتلهم او يخربون معابدهم. المساجد الحرة لكن التنوع له مصادره الاخرى غير الدينية ابرزها الاختلاف على مستوى النوع بين الرجل والمرأة. ومن تلك الزاوية، تعتمد المقررات الدراسية في مجملها نظرة ضيقة تقوم على التقسيم الاجتماعي للعمل وتحصر وظيفة المرأة في حد دورها كزوجة وأم، يتفرع عن ذلك مباشرة ان كل خروج عن هذا التطور النمطي لدور المرأة ينظر اليه في ما بعد بوصفه لوناً من الشذوذ الذي تفرض الحاجة الى ترشيده ولو بالقوة. لكن العنف الديني ليس قضية مناهج فقط، لكنه في الاساس قضية ادارة. وهنا، فالمطلوب تخريج المدرس الكفء المستنير المقدر لخطورة رسالته التربوية والقادر على تقديم القدوة. فليس من قبيل المصادفة ان يكون عمر عبدالرحمن مفتي الجهاد في مصر وعباسي مدني زعيم الانقاذ في الجزائر من المشتغلين بالعملية التربوية وان كان ذلك في مرحلة التعليم العالي. اكثر من ذلك، كشفت التحقيقات التي جرت بشأن احد التنظيمات الاسلامية المتطرفة اخيراً في مصر، عن ان مدرساً في المرحلة الاعدادية وظف تخصصه العلمي الدقيق في تصنيع القنابل والمتفجرات وتجنيد الصغار في تزويده بالمعلومات. وفي مجتمعاتنا العربية حيث يلعب الدين دوراً محورياً في تشكيل العلاقات الاجتماعية وصياغتها، يصبح دور المسجد كوعاء للتنشئة من الاهمية بمكان، وفي العادة، فان الجماعات الاسلامية تميز في موقفها بين انواع مختلفة من المساجد. والمساجد الاهلية هي التي تعتمدها الجماعات الاسلامية في اقامة شعائرها وتعد مركزاً لتفريخ العناصر المتطرفة وتخزين السلاح والتخطيط لاعمال العنف الديني. تختلف المسميات بعض الشيء في الجزائر من حيث التمييز بين مساجد الشعب التي تقام خلسة على بعض المساحات الخضراء او النائية، والمساجد الخاصة التي تتعهدها الطبقة العليا والوسطى العليا، ومساجد الدولة التي تنشئها الحكومة، والمساجد الحرة التي تقيمها الجماعات الاسلامية. بيد ان جوهر الظاهرة يظل واحداً الا وهو منافسة السلطة في وظيفتها الدينية والتصدي لبعض الجهود الفردية في تشييد دور العبادة اما لكونها تعبر عن نوع من المقاومة السلبية لنظام الحكم أو لكونها ترتبط في بعض الاحيان بنوع من السلوك التفاخري المذموم. والملاحظة المهمة في هذا الخصوص، هي ان هناك عدداً كبيراً من المساجد الاهلية او الحرة. ففي مصر تشير بعض المصادر الى ان عدد المساجد الاهلية يزيد اربعة او خمسة اضعاف على عدد المساجد الحكومية ثلاثة عشر الف مسجد، اما في الجزائر، فعلى الرغم من رصد حركة بناء المساجد الرسمية من 4474 مسجداً بين 1962 و1972 الى 5289 في 1980، الا انه لا يوجد ثبت بعدد المساجد الحرة المناظرة بواسطة وزارة الشؤون الدينية وان قدر عددها جزافياً ببضعة آلاف. ومن المفهوم انه مما يتجاوز طاقة الدولة القيام باستيعاب هذا العدد الضخم من المساجد واخضاعه للاشراف الحكومي المباشر، بسبب ارتفاع تكلفة عملية الضم حوالي ستة آلاف جنيه سنوياً للمسجد الواحد، واهم من ذلك نقص الكوادر الدينية المؤهلة للوعظ والارشاد، تلك النقطة الاخيرة تصدق بوجه خاص على الجزائر، وتفسر مسلك الحكومة ازاء المساجد الحرة والذي تراوح ما بين التهديد باغلاقها مسجد الوفاء بالعهد والمنظر الجميل، وبين اتخاذ قرار هدمها مسجد السنة في قرية العلمة قرب سطيف، لكن المطلوب اخضاع تلك المساجد من الرقابة والتفتيش الدوري غير المباشر على نحو يضمن الا تصبّ رسالتها في غير وجهها الصحيح. يرتبط بذلك ايضاً الاعداد الديني لأئمة المساجد الحكومية ذاتها وتحسين اوضاعهم الاقتصادية، خاصة مع شيوع ظاهرة المدرس الذي تعرفه الجزائر في اكثر من تطبيق واحد، لأن مؤدى غياب الرقابة الحكومية باختصار هو السماح بانتقال ثقافة العنف من مقاعد الدراسة الى صفوف المصلين في تلاحم عضوي واضح بين الدور التربوي للمسجد والمدرسة. وفي الاتجاه نفسه تبدو اهمية تنشيط دور المؤسسة الدينية الرسمية التي ادى الفهم الخاطئ لدورها في تدعيم شرعية النظام الى افتقادها لمصداقيتها على مستوى العوام. وليس مطلوباً من المؤسسة الدينية الرسمية ان تتبنى كل شعارات النظام وترددها. فمثل هذا الموقف يوقع قياداتها احياناً في حرج بالغ بين قناعاتها الذاتية من جهة وحاجتها الى ممالأة السلطة من جهة اخرى، الامر الذي يخرج علينا بفتاوى من قبيل: "نعم ندين الاغتيال ولكن"، او "نعم نشجع السياحة ولكن". هناك احدى الدراسات الاكاديمية المهمة حول الدور السياسي للازهر تكفلت بتحليل بعض مظاهر التناقض في سلوك المؤسسة الدينية الرسمية واثر هذا التناقض على تفريغ وظيفتها من مضمونها في قضايا من قبيل علاقة الدين بالسياسة او الصلح مع اسرائيل او قانون احكام الاسرة. دور الإعلام أما المؤسسة الاعلامية فانها تمثل الحلقة الاخيرة في المحور التربوي - التعليمي والمطلوب هو ان يتحقق قدر من التجانس بين ترتيب عناصر المنظومة التحتية من المدرسة الى المؤسسة الاعلامية مروراً بالمسجد. واتصور ان ذلك يمكن ان يتحقق بالتحرك على مستويين اثنين: المستوى الاول هو بيان الموقف الديني من كبريات القضايا السياسية والاجتماعية وعدم التركيز على توافه الامور التي تساعد في تغييب العقل وتفتح الباب على مصراعيه امام التطرف. نحن نحتاج الى شرح واف ومتعمق لبعض النصوص التي تحدد علاقة المسلم بغير المسلم وردها الى سياقاتها الزمانية والمكانية ونحتاج الى الانفتاح على ذلك التفسير الاسلامي لفكرة انتفاء "التقسيم الاجتماعي للعمل" في ظل الاسلام والاقرار بارتباط العمل بحدود القدرة والاستطاعة. نحتاج ايضاً الى رفع التناقض او الخصومة بين الديموقراطية والاسلام وقس على هذا. نموذج لذلك الشرائط المسجلة لبعض غلاة الوعاظ التي تجد لها سوقاً رائجة في مصر كما في الجزائر. نموذج لذلك ايضاً الصحف الحزبية التي تسيء الى قيمة الحرية فاذا هي تؤلب الطوائف ضد بعضها البعض وتستقطب قيادات التطرف للكتابة فيها من وراء سجونهم فمن الاهمية بمكان ان يجري ترسيم حد قاطع وصريح بين ما يصح الاختلاف حوله وما لا ينبغي تحت اي ظرف أن يطاله خلاف. وفي ما يتعلق بالمحور الاجتماعي - السياسي فان القيمة الاساسية المراد تعميقها او ربما غرسها ابتداء تتمثل في قيمة الانتماء الوطني اذ كيف نفسر مشاعر العداء تجاه المرافق العامة والرموز الوطنية الا بكونها تعكس ازمة حادة في الهوية تحمل اصحابها على "تكفير الدولة" و/أو المجتمع؟ كيف نفسر التواصل بين حركات العنف الديني عبر الحدود في الوقت الذي تخاصم بيئتها ومحيطها الاصلي الا من حيث كونه يعبر عن تشويش في مستويات الانتماء ومراتبه؟ تلك قضية المؤسسات التنفيذية التي تضاعف من وقع الازمة الاقتصادية على المواطن العادي عن طريق اتباع اسلوب التنمية غير المتوازنة. ومرة اخرى ليس من المتصور ان يلتزم المواطن الحياد - دع عنك الانتماء - قبل الدولة في الوقت الذي تتحيز هي نفسها ضده. وفي تلك الحدود تلحظ احدى الدراسات المهمة بعض مؤشرات الخلل السابقة والتطبيق على مصر، فتشير الى انه في مقابل 11 جامعة متعددة الفروع في الوجه البحري لا يتمتع الصعيد بأكثر من جامعتين اثنتين، كذلك فانه في مقابل عشرات الاذاعات لسيناء والدلتا والقاهرة لا يظفر الصعيد بأكثر من بضع سويعات للبث الاذاعي في اليوم الواحد هذا فضلاً عن انه في مقابل خمس قنوات تلفزيونية في الوجه البحري فانه ليس للصعيد قناته التلفزيونية الخاصة وتلك ظاهرة ترتبط بالتأكيد بالتركز الشديد في اعمال العنف الديني في مدن وقرى الصعيد كصنبو والكودية ومنشية خشبة وكحك وأبو الهدر وبلوط والحميدات والحجيرات ولا سبيل لمواجهة ذلك الا باعادة نظر شاملة في اسلوب التنمية الاقتصادية. الانتماء والهوية لكن القضية ايضاً قضية التنظيمات السياسية الوسيطة من احزاب وجماعات مصالح تشغلها صراعاتها الداخلية او البيئية عن اداء دورها الاصيل في دمج المواطنين في العملية السياسية والقيام على تمثيل مصالحهم، ونحن عندما نقول ان ثمة عقبات حقيقية تعترض تسليم الجماعات الاسلامية بمفهوم الديموقراطية، وعندما نطالب عقلاء الامة بأن يتعاونوا على تذليل العقبات وتيسيرها فان هذا ينطوي منطقياً على توفير القنوات المناسبة لاستيعاب المشاركة الاسلامية بشكل مباشر او غير مباشر، ومثل ذلك يصح ان يقال بخصوص الاغلبية الصامتة التي لا تقف بالضرورة داخل المربع الاسلامي لكنها تحجم عن المشاركة لغياب ما يفجر قدرتها على العطاء. وعلى الرغم من ركام السلبيات والاحباطات فان مشروع بناء المئة مدرسة الذي تبنته قرينة الرئيس المصري وصادف قبولاً شعبياً طوعياً جارفاً هو نموذج للقدرة على تجييش المشاعر الوطنية وتجديد روح الانتماء، مثل هذا النموذج خليق بان يتكرر وان تتبناه جبهة عريضة من الاحزاب والقوى السياسية من خلال تشجيع الاكتتاب لصالح اقامة مشاريع صغيرة تفتح آفاق العمل امام المزيد من الشباب او عبر اقامة صندوق للتكافل الاجتماعي يقوم على تعويض الاسر المضارة من اعمال العنف والتطرف. كذلك فان قضية الانتماء هي قضية المراكز الشبابية والاندية الرياضية ففي ظل الظروف الراهنة تتحول تلك الدور الى معاقل للعنف المنظم يتلقى فيها اعضاء الجماعات الاسلامية المتطرفة تدريبهم تحت ستار ممارسة الرياضة او هي في القليل تعاني من قصور شديد على نحو لا يمكنها من افراز بطولات حقيقية تكون رمزاً لبلادها. وفي هذا السياق تشير احدى الدراسات الى انه في الوقت الذي يمثل الشباب اكثر من نصف سكان مصر - حوالي 28 مليوناً من اجمال 55 مليون نسمة - فان الموازنة المرصودة لهم لا تكاد تجاوز ثلاثة عشر مليون جنيه وحتى في حدود النجاحات الرياضية المحدودة التي صادفتها نماذج بذاتها في الجزائر من خلال ابطال مثل نور الدين مرسلي وحسيبة بولمرقة فان تلك النجاحات ظلت حبيسة الجهود الفردية ولم ترتبط بآلية مؤسسية معينة، وهنا فان المطلوب هو الاهتمام بتلك المراكز الشبابية والاندية الرياضية اهتماماً يرتفع بموازناتها المالية ولا يبعد بها عن طائلة الاشراف والرقابة. المحور الاخير هو المحور الامني - القانوني وجوهره فرض هيبة الدولة واعمال سيادتها. ومن الممكن القول ان التقدم على المحورين السابقين يختزل الجهد المبذول على هذا المحور ويضعه على بعض الملاحقات الفردية المتناثرة فالسؤال المثار هنا هو: كيف السبيل الى اقناع المواطن العادي بأن الدولة قادرة على حمايته في الوقت الذي لا تتمتع هي نفسها بالقدرة على حماية رموزها الامنية او السياسية او الفكرية؟ ان شقا من العقد الاجتماعي المبرم بين المواطن وبين السلطة ينطوي على تأمينه على حقوقه الاساسية وفي مقدمتها حق الحياة اما وقد اتسع نطاق العنف الديني وتشعبت مظاهره فان هذا الحق ذاته اصبح محلاً للنظر وتلك قضية الجهاز الامني الاساسي الذي يستهدف من قبل عناصر التطرف لاشاعة جو من البلبلة والفوضى وعدم الثقة، ومن هنا ففي مواجهة ارتفاع مستوى تدريب عناصر التطرف الديني وتعدد مصادر تمويلها لا بد من الارتقاء بامكانات وتجهيزات رجال الامن كما انه لا بد من تدعيم وضعهم الاقتصادي وزيادة الموازنة الامنية في عمومها. تلك ضرورة لا تخضع للمزايدة او تقبل المساومة فلا يمكن التعامل مع من يرفع السلاح في وجه الدولة الا بالاسلوب نفسه الذي اختار ان يستخدمه. لكن قضية هيبة الدولة هي ايضاً قضية الجهاز القضائي بما يرتبط بذلك من تشريعات واجراءات للتقاضي. وقد شهدت مصر والجزائر في النصف الثاني من عام 1992 تطوراً تشريعياً مهماً تمثل في اصدار "قانون الارهاب" الذي عني بتشديد العقوبة على انتهاك الحريات الشخصية والوطنية والسلام الاجتماعي كما وسع من دائرة الاسلحة المجرمة فضلاً عن كونه قد سمح بالكشف عن الحسابات السرية للمتهمين في تلك النوعية من القضايا لتعيين مصادر تمويلهم. والجديد في الامر انه بينما حملت اكثر من حركة من حركات حقوق الانسان على هذا القانون فان بعضها تمسك باعتباره نوعاً من الاستثناء المطلوب لمواجهة ظرف استثنائي الرابطة الجزائرية لحقوق الانسان هذا الى ان البعض الآخر قد ادان وللمرة الاولى ممارسة التنظيمات الاسلامية المتطرفة بحسبانها تهدد امن البلاد وسلامتها المنظمة المصرية لحقوق الانسان. وعلى صعيد آخر انتظمت في مصر في العام ذاته اول محاكمة عسكرية لاحد التنظيمات الاسلامية المتطرفة على نحو اختزل اجراءات التقاضي وانزل بأكثر المتهمين عقوبات رادعة لكن يبقى ان النقطة محل الاعتبار تتعلق باعادة النظر في اماكن تنفيذ العقوبة والتي عادة ما تمثل مراكز اشعاع للتطرف بحكم كونها تجمع المدانين في قضايا العنف الديني الى المدانين فيما دون ذلك من قضايا. بمثل تلك التراتبية في الانتقال بمستويات التعامل مع ظاهرة العنف الديني من التكوين الى الادماج الى التأمين يمكن ان يتحقق التقدم في احتواء تلك الظاهرة من الداخل وتقليل التأثيرات الاقليمية والدولية غير المواتية ما امكن. * خبيرة في شؤون الشرق الاوسط واستاذة العلوم السياسية في كلية الاقتصاد جامعة القاهرة.