«الحياة الفطرية» تطلق 26 كائناً مهدداً بالانقراض في متنزه السودة    أمير حائل يستقبل وزير السياحة    توال و 5SKYE تعلنان عن شراكة استراتيجية لتعزيز التحول الرقمي في السعودية    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعًا جديدًا من الخفافيش في المملكة    "مطار الملك فهد الدولي" يحقق المركز الأول في نسبة الالتزام بمعايير الأداء التشغيلي    رغم عدم تعليق موسكو.. أوكرانيا تتهم روسيا باستهدافها بصاروخ باليستي عابر للقارات    تفاؤل أمريكي بوقف إطلاق النار في لبنان.. خلافات بين إسرائيل وحزب الله على آلية الرقابة    اكتمال وصول الدفعة الأولى من ضيوف خادم الحرمين للعمرة والزيارة    الجنائية الدولية تصدر أوامر اعتقال بحق نتنياهو وجالانت وقائد بحماس    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    "تعليم البكيرية" يحتفي باليوم الدولي للتسامح بحزمة من الفعاليات والبرامج    أمين منطقة القصيم يتسلم التقرير الختامي لمزاد الابل من رئيس مركز مدرج    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    ندوة "حماية حقوق الطفل" تحت رعاية أمير الجوف    الذهب يواصل مكاسبه مدفوعًا بتصاعد التوترات الجيوسياسية وتراجع الدولار    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    أكاديمية طويق شريك تدريبي معتمد ل "Google Cloud"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    مدالله مهدد ب «الإيقاف»    9 مهددون بالغياب أمام «الصين»    وزراء داخلية الخليج يبحثون التعاون الأمني المشترك    «المرور»: الجوال يتصدّر مسببات الحوادث بالمدينة    وزير العدل: القضاء السعودي يطبق النصوص النظامية على الوقائع المعروضة    حمائية فاشلة !    الصقور السعودية    «المسيار» والوجبات السريعة    «كوكتيل» هرج    الخليج يتطلع لنهائي آسيا أمام الدحيل    البكيرية يتجاوز الجندل والعدالة يتألق أمام النجمة    البرلمان العربي يدين تهديدات كيان الاحتلال الإسرائيلي بضرب العراق    هوساوي يعود للنصر.. والفريق جاهز للقادسية    اكتشف شغفك    علاج فتق يحتوي 40 % من أحشاء سيدة    الاتحاد يستعيد "عوار" .. وبنزيما يواصل التأهيل    الغندور سفيرا للسعادة في الخليج    محافظ جدة يشرف أفراح الحصيني والقفيدي    الإعراض عن الميسور    «بوابة الريح» صراع الشّك على مسرح التقنية    الدرعية تضع حجر الأساس لحي القرين الثقافي والمنطقة الشمالية    «قرم النفود» في تحدٍ جديد على قناة «الواقع»    فيتو أميركي ضد قرار بمجلس الأمن بشأن غزة    مهرجان البحر الأحمر يعرض روائع سينمائية خالدة    إيطاليا تفرض عقوبات أشد صرامة على القيادة الخطرة    أرامكو تحصد 5 شهادات ماسية خلال حفل مستدام «أجود»    في مؤجلات الجولة الثامنة من" يلو".. قطبا حائل يواجهان الحزم والصفا    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    نواف إلى القفص الذهبي    الزميل أحمد بركات العرياني عريسا    رسالة إنسانية    " لعبة الضوء والظل" ب 121 مليون دولار    استهلاك عدد أقل من السجائر غير كافٍ للحد من الأضرار التي يتسبب بها التدخين    سعود بن بندر يستعرض تحول التعليم في الشرقية    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    أمير تبوك يستقبل المواطن ممدوح العطوي الذي تنازل عن قاتل أخيه    وزير الدفاع ونظيره الفرنسي يبحثان آفاق التعاون العسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ندوة خاصة شارك فيها فهمي هويدي ومحمد عمارة ونبيل عبدالفتاح - "الوسط" تطرح قضية حساسة ومهمة : من هم المتطرفون الاسلاميون وماذا يريدون ؟ ولماذا يلجأون الى اعمال العنف والارهاب ؟
نشر في الحياة يوم 07 - 09 - 1992


- هدف حسن الترابي انشاء حركة دولية اسلامية
- التطرف استثناء لأن الطبيعة الاسلامية تميل الى الاعتدال
هذا موضوع بالغ الحساسية بقدر ما هو بالغ الأهمية: التطرف والمتطرفون في العالم العربي والاسلامي. ما هو موقع "المتطرفين" الاسلاميين والحركات "المتطرفة" الاسلامية في منطقتنا؟ ما مدى نفوذهم وتأثيرهم؟ ولماذا يلجأون الى العنف وأعمال الارهاب؟ وما الفارق بين المتطرف والارهابي؟ وما هي الادوار التي يلعبها في هذا الاطار اشخاص كالدكتور حسن الترابي زعيم الجبهة القومية الاسلامية في السودان، او راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية، او الشيخ عباسي مدني زعيم الجبهة الاسلامية للانقاذ في الجزائر؟ وهل هناك اممية أو دولية اسلامية يحركها الترابي؟
هذه الاسئلة وسواها رأت "الوسط" ضرورة مناقشتها والرد عليها وطرح موضوع التطرف والمتطرفين في ندوة عقدتها في مكتبها في القاهرة وأدارها مدير المكتب عمرو عبدالسميع. شارك في هذه الندوة 3 مفكرين وخبراء في الشؤون الاسلامية هم: فهمي هويدي وهو كاتب وصحافي مصري متخصص منذ سنوات في كل ما يتعلق بالقضايا الاسلامية، الدكتور محمد عمارة وهو مفكر اسلامي مستقل، ونبيل عبدالفتاح رئيس وحدة البحوث الاجتماعية في مركز الدراسات الاستراتيجية في صحيفة "الاهرام".
بدأت الندوة بتقديم ورقة عمل اعدتها "الوسط" وتشكل مدخلاً الى النقاش:
نقترح تناول هذا الموضوع من خلال محورين رئيسيين يثير كل منهما قضايا وتساؤلات عدة على النحو التالي:
أولاً: خريطة القوى الاسلامية في العالم العربي، وموقع التطرف والمتطرفين فيها، فبديهي ان المدخل لمحاولة استقراء الوضع الراهن للتطرف والمتطرفين هو البحث عما اذا كانت هناك خريطة محددة يمكن الاسترشاد بها، خصوصاً أننا إزاء ظاهرة بالغة التعقيد. فهل هناك خريطة محددة من هذا النوع بالفعل؟ وما أبرز ملامحها، وهل يمكن رسمها حال عدم وجودها؟ ثمة اعتقاد بأن خريطة القوى الاسلامية في العالم العربي تشمل تيارين رئيسيين وآخرين هامشيين. ويتمثل التياران الرئيسيان في حركة الإخوان المسلمين من ناحية والقوى الاسلامية "الجديدة" التي تحمل رؤى مختلفة عن الإخوان لبعض قضايا السياسة والمجتمع والفقه، على رغم ان بعض هذه القوى ذو اصول اخوانية، والمقصود بها اجمالاً الجبهة القومية الاسلامية في السودان بزعامة الدكتور حسن الترابي وحركة النهضة في تونس والجبهة الاسلامية للانقاذ في الجزائر وحزب العمل بصورته الجديدة الحالية في مصر. وهناك اعتقاد أن هذين التيارين يزداد تنافسهما وأن هذه القوى الاسلامية "الجديدة" تمثل "دولية" جديدة في طور التكوين في مواجهة التنظيم الدولي للإخوان، وأن حسن الترابي ينشط سعياً إلى بناء هذه "الدولية" الجديدة التي قد تتميز عن تنظيم الاخوان بأنها يمكن ان تضم حركات قومية عربية وربما يسارية وليس فقط اسلامية.
اما التياران الهامشيان فأكثرهما أهمية تيار العنف ذو التوجهات "الجهادية" على رغم مسمياته المختلفة والتيار الشيعي المحدود وجوداً وتأثيراً.
وفي إطار هذه الخريطة بدا ان هناك اتجاهاً للتعاون بين القوى الاسلامية الجديدة وبين تيار العنف المتطرف بناء على ما اعتبره البعض شواهد معينة أبرزها:
- علاقة الجبهة الاسلامية في السودان، خصوصاً الدكتور الترابي ببعض فرق تيار العنف وبشكل خاص في مصر.
- ان جبهة الانقاذ في الجزائر ضمت في اطار تنظيمها تياراً من تيارات العنف.
- اما حزب العمل في مصر فقد فتح ابوابه لعناصر من تيار العنف. والسؤال: ما مدى دقة هذه الشواهد، وهل هناك بالفعل تعاون بين القوى الاسلامية الجديدة التي يعتبرها البعض اكثر تقدماً ومواءمة عن الاخوان، وبين قوى العنف التي تبدو الأكثر تأخراً وظلامية؟ وكيف يمكن تفسير هذا التعاون اذا كان قائماً بالفعل؟ وما تفسير شيوع الحديث عنه ما لم يكن موجوداً؟ وأخيراً هل لتزامن التصعيد الذي تشهده الجزائر ومصر دلالة في هذا المجال؟
ثانياً: الى أين وصلت العلاقة بين الأنظمة والقوى الاسلامية في البلاد العربية؟ الملاحظ ان هناك تدهوراً ملموساً في هذه العلاقات في الجزائر وتونس ومصر، وبدرجة أقل كثيراً في الأردن واليمن، كما حدث تدهور واضح في الكويت قبيل الغزو العراقي، وهو تدهور مرشح للاستئناف من جديد في الفترة المقبلة.
لقد كان التدهور أولاً في تونس بعد فترة قصيرة من التعايش الايجابي نسبياً في بداية عهد الرئيس زين العابدين بن علي، لكنه بلغ اعلى ذراه في الجزائر منذ كانون الثاني يناير الماضي، ويبدو انه يتزايد في مصر ايضاً حيث بدأ يشمل العلاقة مع الاخوان المسلمين كذلك، وليس فقط القوى المتطرفة، كما يمكن ملاحظة تدهور من نوع آخر في العلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية وحركة "حماس" في الأراضي المحتلة، وهو وثيق الصلة في هذه الحالة بعملية السلام. فما تفسير هذا التدهور الذي يبدو قاسماً مشتركاً لكن بدرجات متباينة؟ وهل يرجع الى تزايد مستوى التطرف لدى القوى الاسلامية، أم الى اتجاه بعض تلك القوى لتحدي الأنظمة نتيجة شعور بالمزيد من القوة؟ ام ان ممارسات بعض الانظمة هي المسؤولة عن التدهور؟ وما حدود مسؤولية عجز معظم القوى الاسلامية عن القبول بأسس اللعبة الديموقراطية، سواء بالخروج عليها من البداية او بعدم الالتزام باحترامها عند الوصول الى السلطة؟ وفي هذا السياق يبرز السؤال الكبير: الى اي مدى يمكن ان يصل هذا التدهور، وما الخسائر التي ستنجم عنه، وما السبيل الى تجنب المزيد من المواجهات العنيفة او الحد منها، وهل بقي مجال لحوار جدي بعد كل ما حدث؟
"الوسط": قرأتم التساؤلات المطروحة في ورقة العمل، ونود ان نتعرف أولاً على تصوراتكم لخريطة القوى السياسية في العالم العربي، وعلاقة هذه القوى بالتيار الاسلامي، ولنبدأ بأن يطرح كل منكم اجاباته على مجموعة التساؤلات المطروحة، على ان تكون هناك فرصة للتعقيبات بعد ذلك. من هو المتطرف؟
- فهمي هويدي: أحب ان اوضح في البداية ان التركيز على موضوع المتطرفين الاسلاميين مفهوم، ولكن ينبغي ان يكون واضحاً ان التطرف في الساحة السياسية لا يقتصر على الاسلاميين، فهو يشمل التيار العلماني ايضاً، وكذلك التيار القومي والتيار المسيحي. هناك تطرف علماني حقيقي، وأعني به هذا الموقف الذي يتعدى حدود الدعوة الى التمييز او الفصل بين الدين والدولة، ليشمل "إماتة الدين" في المجتمع. فمثلاً في تركيا الموظف الذي يضبط في يده "مسبحة" او يتم العثور في بيته على سجادة صلاة، او اذا شوهد يتردد على المسجد للصلاة، هذا الموظف يفصل من عمله. وهذا في الواقع ليس مجرد موقف علماني ولكنه عداء سافر للدين، على عكس ما يحدث في اندونيسيا مثلاً حيث نجد العلمانية في تصالح مع الدين. وهنا ينبغي ان نبين الموقفين التركي والاندونيسي، وأنا الاحظ ان الاسلاميين في خطابهم يقرون ان بينهم متطرفين ومعتدلين، ولكن العلمانيين - حتى هذه اللحظة - يرفضون الاعتراف بهذه الحقيقة، والمدهش ان العلمانيين عبر الموقف المدني الذي يدعونه، يتصرفون كقبيلة!
التطرف والارهاب
"الوسط": نريد ان نصحح هنا انه ربما كان المقصود بالمتطرف ذلك الشخص الذي يحمل السلاح ليفرض افكاراً معينة.
- فهمي هويدي: لا.. لا.. اطلاقاً، فالتطرف منه المادي ومنه المعنوي، تماماً كما ان هناك اغتيالاً مادياً وآخر معنوياً، والامر نفسه ينطبق على مفهوم الارهاب. وأنا لا استطيع ان انفي صفة التطرف عن شخص يكفّر شخصاً آخر او يكفّر المجتمع بأسره لمجرد انه لا يحمل بندقية، وما اريد ان اؤكده هنا هو ان ظاهرة التطرف على مختلف الجبهات، ينبغي ان تكون محل ادانة ودراسة، سواء كان هذا التطرف مادياً او معنوياً، مسيحياً او اسلامياً، قومياً او علمانياً، لأننا ان لم نتخذ هذا الموقف فلن نكون ضد التطرف والارهاب من حيث المبدأ، فليس من العدل ان نقف ضد تطرف فئة معينة ونقبل، في الوقت ذاته تطرف فئات اخرى. علينا ان نتخذ جميعا موقف الادانة المطلقة للتطرف والعنف والارهاب، ايا كانت صورته او مصدره. هذا موقف مبدئي لا يستثني احداً كما لا يستثني اي شكل من اشكال الغلو والارهاب. هذه نقطة. والثانية هي انني اريد ان اؤكد ان هناك ايضا تطرفاً مؤسسياً، اي داخل الحكومات، فتطرف الجماعات يقابله تطرف مؤسسات سياسية، في سياق الدعوة الى اتخاذ موقف مبدئي من التطرف بمختلف مصادره وأشكاله يجب ان نتفق على ان التطرف ليس مقصوراً على تيار معين من دون باقي التيارات.
ويمكننا القول ان الحديث عن التطرف الاسلامي في هذه الآونة هو من باب تناول حدث يطفو على السطح، وهذا التطرف لم ينشأ من فراغ، ولكنه افراز تراكمات معينة، والاسلاميون، بهذه المناسبة، لم يتشكلوا في مختبر او في غرفة معقمة ولكنهم نتاج تربة معينة، فكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً. ومن هنا فانه لا يصح ان نتصور ان الاسلاميين هؤلاء هم مجموعة من الارهابيين هبطت من السماء فأصيبت بلوثة التطرف من دون غيرها من المجموعات. فهذا يعكس تعسفاً في التقييم.
الاسلاميون نبت ينتمي الى هذه الأرض المليئة بالاشواك والمرارات والألغاز.
- نبيل عبدالفتاح: الافكار تولد افكاراً، وأنا اريد للندوة ان تأخذ طابعاً حوارياً بحيث لا تقتصر على ان يلقي كل منا خطاباً، وأنا عندي ملاحظة على ورقة العمل الخاصة بهذه الندوة، وملاحظتي ليست شكلية ولكنها تتعلق باللغة السياسية لتلك الورقة التي رفعت لواء الحوار ولكن خطابها الى المشاركين حمل على رغم ذلك - اذا جاز التعبير - نعوتاً وأحكاماً قيمية وسجالية.
العنوان "المتطرفون الاسلاميون في العالم العربي" ينطوي، في الواقع، على حكم قيمي، وهذه ملاحظتنا على استخدام تعبير التطرف، ليس بهدف ان يشمل جميع اطراف المجتمع السياسي او الثقافي في العالم العربي، وإنما استخدام التعبير ذاته يرجع الى ما ينطوي عليه من حكم قيمي، يصف تياراً سياسياً احتجاجياً بأنه متطرف، على رغم الاختلاف الكبير - لاعتبارات شتى - مع اساليب العنف او توظيفاته السياسية والطائفية. الا ان هذا النعت يصدر في الواقع عن نظام، في تقدير المعايير، حدد سلفاً من هو المعتدل ومن هو المتطرف، بحيث يعد كل من يخرج على هذه المعايير في السياسة والفكر وأمور المعاش متطرفاً. وفي ظني - وأرجو الا اكون مخطئاً - ان ذلك يصدر عن نسق مغلق حتى ولو بدا - في الشكل - منفتحاً. اختلف ايضا مع هذه الطريقة لأنها تصدر عن نظام للتفكير اعتبره نظاماً استعراضياً، وهذا لا ينطبق على ورقة عمل الندوة في ذاتها، وإنما في منهجية التفكير عندنا عموماً. هذه الطريقة ربما لا تؤدي الى الوصول الى موحدات والى جسور بين تيارات الفكر والعمل السياسي في العالم العربي، ومن ثم فأنا اتصور - وقد أبدو مختلفاً مع زميلنا الاستاذ فهمي هويدي - ان المسألة ليست ان تشمل صفة التطرف كل التيارات، وإنما نحن نستهدف في الحقيقة حصر نقاط الخلاف والاتفاق الاساسية بين تيارات الفكر والعمل السياسي. والمسألة بالغة التعقيد، ففي العالم العربي، وفي مصر تحديداً، غياب نظام موحد للمعايير او المرجعيات ارتبط بنشأة الدولة الحديثة. فمنذ مشروع محمد علي، ثم المشروع الليبرالي الذي ترجع جذوره الأولى الى عهد الخديو اسماعيل، وكل نظام جديد كان يعمد الى قطع الصلة بالنظام السابق، ولم يحدث ان عكس النظام ابداً الفكرة الاسلامية في كامل وضوحها ونضوجها. كانت هناك مغالطات على صعيد الواقع وخروج على اصول الدين وضوابطه، ومن ثم فإنني اتصور ان الطابع السجالي يطغى دائماً على الحوار او الجدل الذي يتم بين مفكرين او سياسيين ينتمون الى تيارات فكرية وسياسية مختلفة سواء في مصر او في بقية البلاد العربية، بشكل لا يؤدي الى نتائج حقيقية، وغالباً كل تيار يعيد انتاج افكاره.
ولذلك اتصور اننا في حوار، كل طرف فيه على استعداد للقبول بوجود الآخر كطرف، والاقرار بوجود الآخر معناه الاقرار بوجود حرية في تبادل الأفكار، وفي تغيير القناعات، وهذا يفتح الطرق امام حلول كثيرة تواجه اشكاليات الدين والسياسة في العالم العربي. وكل ظواهر ازمة الدولة والمجتمع في مصر، كحالة نموذجية من الحالات التي تتكاثر وتتكالب فيها الازمات في المرحلة الراهنة.
من يمارس العنف؟
"الوسط": ما زلنا نتحدث عن الملاحظات المنهجية. فهل لدى الدكتور محمد عمارة ملاحظات من هذا النوع؟
- محمد عمارة: لن اكرر ما قاله كل من الأخ فهمي والأخ نبيل، ولكني احب ان اميز بين مضمونين لمصطلحين مختلفين: مصطلح التطرف او الغلو ومصطلح العنف. فما يزعجني ليس ان يكون هناك فكر متطرف، فنحن نتحدث عن التطرف على انه البعد عن الوسطية، وحتى المعيار الوسطي الناس تختلف حوله، ومن ثم فانهم يختلفون كذلك حول الفكر المتطرف، ويتمثل هذا الاختلاف في الانقسام حول ما اذا كان هذا الفكر متطرفاً في الحقيقة أو لا. فأحياناً يكون للمجتمع موقف سلبي ازاء فكر معين باعتبار انه يعكس غلواً او تطرفاً ثم بعد فترة يصبح هذا الفكر وسطياً ومعتدلاً وتتبناه غالبية الناس، اريد ان اقول انه اذا كنا نؤمن بمنهج تعددية الفكر، فينبغي الا يزعجنا وجود تطرف فكري، انما المزعج حقاً هو اللجوء الى العنف لفرض هذا اللون من ألوان الفكر. وما يجب ان نقف ضده وندينه هو العنف، واستخدام العنف لفرض الآراء. اريد ايضاً ان احدد معنى الغلو او التطرف لأن هذه مصطلحات اطلقتها اجهزة الاعلام وصارت مألوفة لدى الناس من دون ان يكون لها معنى محدد.
الفكر الذي اراه مغالياً، على الأقل من وجهة نظري الشخصية، هو ذلك الفكر الذي يرفض مجمل الواقع الذي نعيشه، ويحكم على هذا الواقع بأنه كافر وجاهل. الواقع ليس كله ايجابيات، والفكر الذي ينتقد السلبيات والنواقص هو فكر جيد وتقدمي وينبغي ان يحظى بالمساندة، اما الذي ترفضه مؤسسات المجتمع وقنواته الشرعية فانه يلجأ الى العنف لأنه لم تعد هناك علاقة ما تربطه بهذا المجتمع. انا اريد ان اميز هنا بين العنف، وحتى الاغتيالات السياسية في تاريخنا، فهذه ظاهرة قديمة، وبين تحول العنف الى ايديولوجية لها فكر منظم ونظرية متبلورة وهذا لم يبدأ الا في النصف الأول من ستينات هذا القرن، وتحديداً من خلال مشروع سيد قطب الذي تبلور في كتابه "معالم الطريق" حيث تحدث عن ارتداد المجتمع عن الاسلام، وجاهلية المجتمع وكفر المجتمع ورأى انه لا بد من تغيير المجتمع جذرياً وبوسائل غير سلمية. وأنا اقول هذا لأرد على من يرون ان فكرة تكفير المجتمع واختيار العنف سبيلاً للتغيير ارتبطت بوقوع هزيمة حزيران يونيو 1967، والواقع ان هذه الظاهرة تبلورت عند اعظم لحظات انتصار مشروع القومية الناصرية.
ولكن ألم يلتصق العنف بجماعة "الاخوان المسلمين" قبل هذا التاريخ؟
- محمد عمارة: هذا ما اشرت اليه عند حديثي عن ضرورة التمييز بين وجود حالات للعنف وبين تحول هذه الحالات الى ظاهرة تستند الى نظرية، هذا هو التطور الذي حدث في النصف الأول من الستينات، اما العنف الفردي والاغتيال السياسي فهما موجودان من قبل ان تظهر جماعة الاخوان الى الوجود، وعندنا مثل في اغتيال بطرس غالي رئيس وزراء مصر وغيره.
العنف كان موجوداً وتمثل في حالات فردية، ولكنه بعد ذلك تحول الى ظاهرة تستند الى قواعد نظرية متبلورة، اي انه تطور نوعياً، وهنا اريد ان اشير الى الأسباب التي ادت الى تحول العنف الى ظاهرة نظرية، ومنها العنف الذي مارسته الدولة ضد التيار الاسلامي لأنه هو الذي طرح قضية تكفير المجتمع عبر طرح التساؤل: هل السلطة التي مارست هذا العنف مؤمنة؟
عنف السلطة هذا هو الذي انتقل بالقضية من كونها تعكس اعمالاً فردية، الى كونها تعكس ظاهرة. ومن الأسباب ايضاً ان المشروع الناصري، في لحظات انتصاره، اختار التطور الاشتراكي وهذا من وجهة نظر الاسلاميين اختيار لنمط حسن السمعة، اذ ان الليبرالية الرأسمالية كانت مدانة لديهم لأنها تعكس تاريخ الاستعمار. وظاهرة العنف تتصاعد في مجتمعاتنا مع تصاعد هيمنة الغرب والنموذج الغربي، بعد هزيمة 1967. وتغلغل المشروع الصهيوني، ومعه النموذج الغربي في احشاء الامة تنامت الظاهرة وانتشرت. واليوم في ظل النظام العالمي الجديد وتصاعد هيمنة الغرب، من المتوقع ان تتصاعد ظاهرة العنف المنظم وتزداد انتشاراً. وهذا يفسر ان الظاهرة الاسلامية لم تعد مقصورة على مجرد الجماهير ولكنها امتدت لتشمل التجمعات النخبوية في الأمة، النقابات المهنية وهيئات التدريس في الجامعات. النخبة اليوم تنحاز للظاهرة الاسلامية.
هل تنحاز اليها بصفتها منظومة من الافكار ام بصفتها تياراً اجتماعياً... كما شرح الاستاذ نبيل؟
- محمد عمارة: حتى ولو كانت الظاهرة تعبيراً عن تيار احتجاجي فاني اتساءل: على ماذا يحتج؟ انه يحتج على نمط فكري معين، على ممارسات معينة، ويبشر، في الوقت نفسه، بنمط فكري معين وممارسات معينة.
الاعلام يزيف ويضخم
التيار الاحتجاجي عادة ينخرط في حزب معين ليبلور ما يحتج عليه وما يبشر به.
- محمد عمارة: التيار الاحتجاجي لا يقدم نفسه كبديل، وأنا اذكر انه لا بد من رصد التمييز بين التطرف الفكري وبين العنف، ولا بد من التمييز بين العنف كحالات فردية والعنف كظاهرة لها نظرية وأسباب أدت الى نشوئها، وأنا مع الأخ فهمي في ان الغلو في الجانب الاسلامي مقصور على شريحة محدودة العدد والتأثير. وأرى ان الاعلام، سواء الغربي او المحلي، يضخم من تأثير هذه الشريحة الى حد كبير، وهذا دأب الاعلام حتى في حوادث الاغتصاب التي نعلم جميعاً انها محدودة جدا في المجتمع المصري الا ان تناول الاعلام لها جعل الناس تتصور ان مصر تحولت الى غابة. حوادث العنف الطائفي محدودة جداً والاعلام بتضخيمه لها يشرع الطائفية والتمييز الطائفي في قلوب الذين لا علاقة لهم بهذه الاحداث. تعداد سكان لبنان لا يتجاوز بضعة ملايين يعيشون وسط 200 مليون عربي وبليون مليار و500 مليون مسلم، والحرب الاهلية في هذا البلد بدأت بحوادث محدودة وفردية، ولكن الاعلام على مدى 15 سنة تمكن من زرع الطائفية في محيط لبنان. والدور الذي يلعبه الاعلام في تضخيم ظاهرة وشريحة التطرف الاسلامي كبير جداً ومدمر، لأن كل بيت لا علاقة له بالعنف الطائفي يتوجس اليوم خيفة مما ينشر حول هذه الاحداث. وأقول ان الاعلام ايضا يزيف وأتمنى ان يتصدى باحثون لاجراء دراسة حول ما قالته اجهزة الامن والنيابة العامة عن القضايا التي اتهم فيها التيار الديني، مقارنة بأحكام القضاء في هذه القضايا والتي جاءت بنسبة 99 في المئة في مصلحة عناصر التيار الديني حيث تمت تبرئتهم مما نسب اليهم من تهم. نحن نمارس التضخيم والتزييف ويأتي القضاء بعد ذلك ليبرئ في سطرين المتهمين الذين طالما تحدثت عنهم اجهزة الامن والاعلام باعتبارهم جناة، وفي النهاية ما يرسخ في اذهان الناس هو ما تقوله اجهزة الاعلام وليس ما يقوله القضاء. الجماعة الاسلامية في منطقة عين شمس اتضح، بناء على تحقيق صحافي اجراه احد محرري جريدة "الاهرام"، انهم انشأوا في المنطقة سوقاً لبيع السلع للناس بأسعار رخيصة، بالاضافة الى خدمات اخرى يقدمونها طوعاً. الشيخ عمر عبدالرحمن مفتي تنظيم الجماعة الاسلامية الذي صوره الاعلام على انه شيطان حوكم امام القضاء غير مرة، وكان دائماً يحصل على حكم بالبراءة من كل ما هو منسوب اليه. الاعلام دائماً يلعب دوراً غير عادي في تضخيم الامور، وأنا بحكم متابعتي لما تبثه وتنشره وسائل الاعلام لاحظت ان هيئة الاذاعة البريطانية ظلت على مدى 15 سنة تضع احداث لبنان في صدور نشراتها، هذه السياسة اذا كانت مفهومة بالنسبة الى الاعلام الغربي فانها نفسها تشكل مأساة عندما يتبعها اعلامنا المحلي.
الجانب الآخر من الغلو هو الجانب العلماني ولا اتهمه كله بالغلو، ولكنه يضم شريحة صوتها عال وموجودة في مؤسسات الثقافة والاعلام وتغالي غلواً غير عادي. وسأضرب لكم بعض الامثلة، عندما تكون هناك كتابات تتحدث بأسلوب غير لائق عن الاسلام وعن الشريعة الاسلامية هذه امور تصم اذن اي مسلم. انا اقول انه اذا وصل الغلو العلماني الى حد الطعن في الدين وليس في الجماعات الدينية عبر مؤسسات الدولة فان التدين الاسلامي سيكون مريباً ومخيفاً ومثخناً بالجراح.
أرجو ان نمر على موضوع التطرف بسرعة لنتحدث عن خريطة القوى الاسلامية في العالم العربي، والدكتور عمارة حدثنا عن التطرف العلماني وأعتقد انه لم يسمع، كما لم نسمع جميعا، عن وجود جماعات علمانية متطرفة مسلحة.
- محمد عمارة: وما اهمية السلاح في الموضوع؟
اهميته تكمن في انه يخلق فزعاً عاماً.
- نبيل عبدالفتاح: في تقديري يجب ان نتعامل مع الافكار المطروحة كخيارات، حتى ولو كانت خيارات سياسية، ولكن يجب ان تملك كل مجموعة القدرة على تنفيذ خيارها في اطار سياسي ينظم تعامل القوى المختلفة مع بعضها البعض. وأعتقد ان دائرة الاهتمامات المتبادلة التي يمكن ان تبدأ باللفظ ستقودنا الى حلقة مفرغة، ومن ثم انا اتصور ان ظواهر التطرف - اذا جاز استخدام هذا التعبير الذي اتحفظ عليه كثيراً - كلها ظواهر اجتماعية نشأت عن غياب الحوار في المجتمع، وغياب القنوات السياسية القادرة على استيعاب مجمل الضغوط والمشاكل الاجتماعية، وإيجاد مسارات محددة لحلها. نحن اذن ازاء ظواهر اجتماعية اكثر من كونها دينية علمانية، ومن هنا فانني لا استطيع ان افسر، علمياً، ما يسمى بالعنف ذي الوجوه الدينية في المجتمع السياسي في مصر، الا من خلال تفسير اجتماعي ثقافي يتعدى مجرد صراع النصوص على الساحة السياسية.
- محمد عمارة: انا، كرجل مشتغل بالفكر، لا بد ان اميز بين العنف الفردي والعنف الثوري، لأنني انتمي الى تيار فكري يرى ان هذا المجتمع لا بد من "تثويره"، وان الثورة هي السبيل لتغيير جذري في هذا الواقع. لكن العنف الفردي العشوائي الذي يحدث الآن يجب ان يدان.
- نبيل عبدالفتاح: ولكن ما يدعو اليه الدكتور عمارة من شأنه ان يؤدي الى تفجير "عنف الدولة".
وبذلك يتجاوز تيار العنف الثوري الذي يتحدث عنه الدكتور عمارة النظام القانوني نفسه.
- محمد عمارة: انا اتحدث كرجل مشتغل بالفكر، وليس كرجل دولة، ومن منطلق حق كل انسان في ان يبشر برؤيته الفكرية، لا استطيع ان اصادر فكراً يرى ان "الثورة" هي طريق التغيير الجذري.
ولكن ما الذي جعلك تعتقد ان الموجود على الساحة الآن مجرد فكر او انفعالات فردية، وليس منهجاً ثورياً؟
- محمد عمارة: لأنه اذا اتيحت لمختلف تيارات الفكر ومنها التيار الذي يقول بأن الثورة هي سبيل الاصلاح فرصة العمل العلني فان التيار الذي يلجأ الى العنف للتغيير سيذبل وسيصبح جمهوره محدوداً للغاية، اذا اتيح - بجدية وفاعلية وطهارة - العمل من خلال القنوات الشرعية فان الجماهير المتعاطفة مع التيار الاسلامي ستختار الانحياز الى الفئة المعتدلة في هذا التيار.
التطرف استثناء لا قاعدة
"الوسط": نريد الآن ان نتحدث عن خريطة القوى الاسلامية.
- فهمي هويدي: الحديث عن خريطة القوى الاسلامية سيكون الى حد كبير انطباعياً اكثر منه "معلوماتياً"، فالخريطة ليست واضحة المعالم، وأزمة الديموقراطية هي المسؤولة عن ذلك حيث لم يتح لمختلف القوى السياسية ان تتشكل وتتبلور بحيث نرى اشخاصاً وكيانات وأفكاراً، ومن ثم فاننا اذا دخلنا في ساحة الانطباع فاننا في الحقيقة ندخل الى ساحة لا تعتمد على معايير علمية واضحة او معلومات مسبقة. واحد مثلي يعيش بدرجة او بأخرى في مساحة على المسرح الاسلامي وعلى صلة وثيقة بالتيار الذي يزعم انه تيار الاعتدال والحوار قد يرى الصورة من هذه الزاوية تبعث على كثير من التفاؤل وقد يخرج بانطباع هو ان الجزء الذي يراه هو الذي يشكل غالبية الواقع. وآخر سواء كان ناقداً للحركة الاسلامية او متابعاً لها من خلال الصحف سيرى كل سيئات هذه الظاهرة، ومن ثم قد يتصورها كابوساً كبيراً يهدد الجميع، من البلاد الى العباد. ومن هنا انا اخشى ان نتدارس انطباعاتنا، وان يحكم كل منا على القدر الذي يراه من الصورة، وحتى نخرج من هذه الاشكالية فأظن ان هناك معياراً منطقياً في المسألة، هذا المعيار يتمثل في ان التطرف بطبيعته استثناء للقاعدة، لا نستطيع ان نقول ان هناك امة متطرفة، ولكننا نقول هناك جزء من التطرف موجود في المجتمع. وأريد ان أقول ان وجود نسبة من التطرف في المجتمع يعتبر امراً صحياً، اي ان المجتمع في حالة طبيعية.
الاميركيون يقولون ان المجتمع لكي يكون صحيحاً لا بد ان يضم خمسة في المئة بين شعبه ممن يطلق عليهم "الكريزي بيبول" او المجانين او المهووسون او المتطرفون في آرائهم، وذلك حتى يصبح المجتمع انسانياً. والمهم أمران: ان تظل نسبة التطرف ضئيلة. ففي الولايات المتحدة توجد جماعات تطرف عنصري وفكري كثيرة مثل "المورمونس" و"الكلوكلوكس كلان" ولكنها لا تؤثر بشكل عام في صحة المجتمع كأنها نسبة من الجراثيم في جسم الانسان تحصنه ضد هجوم فيروسات معينة، والامر الثاني هو كيف يتعامل المجتمع مع هذه الظواهر؟ هل يتعامل معها من موقع الالتصاق والاستيعاب والتوظيف؟ التطرف كان وراء وجود اسرائيل وبقائها، فالذين يعتدون بشكل مستمر على المسجد الاقصى ومنازل العرب، ويقيمون مستوطنات في الأراضي المحتلة هم المتطرفون. التطرف في اللغة العبرية موظف في اطار مشروع. اذن كفاءة المجتمع والسلطة تكمن في كيفية التعامل مع خلايا التطرف سواء باستيعابها او توظيفها لمشروع كبير، اي انه اذا لم يتوفر مثل هذا المشروع فان ذلك يكون مؤشراً على ان المجتمع يعاني من ازمة، في حال وجود مشروع يمكن ان يصبح التطرف احد قنوات الاداء الايجابي الذي يخدم حلم وعافية المجتمع.
اذا عدنا الى الساحة الاسلامية يجب ان ننظر الى التطرف على انه استثناء، وليس اصلاًَ، وانه قصير العمر مثل فكرة التكفير التي شكلت في بداية السبعينات ظاهرة في مصر، ولكنها بمرور الوقت انحسرت.
التكفير عند جماعة "الجهاد" والجماعة الاسلامية ليس فكراً، بل انهما تعلنان صراحة في ادبياتهما انهما ضد فكرة التكفير، ولكنهما تشتبكان مع المجتمع لأسباب اخرى لجاهليته، وليس لكفره. ومن هنا اؤكد ان خريطة القوى الاسلامية قائمة على ان التطرف استثناء وليس قاعدة، وانه قصير العمر، وان الطبيعة الاسلامية اكثر ميلاً للاعتدال. ومن هنا انا اوافق - بشكل نسبي، وليس مطلقاً - على المنهج الذي تطرحه ورقة ندوتنا هذه، وأقترح تعديلاً بسيطاً يؤكد ان الساحة الاسلامية تضم جماعات اعتدال سياسي وجماعات تطرف سياسي. ورقة الندوة تشير الى جماعات غير "مسيّسة" على رغم ان لهذه الجماعات وزناً في الساحة. وتضم ايضاً اتجاهات متطرفة، منها جماعات: "التصوف" و"التبليغ" و"السلفيون"، وهذه لا تشتغل بالعمل السياسي، ولها جماهيرها في مصر ودول عربية اخرى، ولكن اذا قصدنا الحديث على التيارات الاسلامية "المسيّسة" فاننا نستطيع تقسيمها الى تيارات اعتدال وتيارات تطرف. وعند الكلام عن ظروف تيارات التطرف فانني اؤكد ضرورة الربط بين ازمة الديموقراطية في العالم العربي وظهور تيارات التطرف، والقاعدة هي انه كلما زادت مساحة الآراء الديموقراطية والمشاركة الديموقراطية كلما تقلصت مساحات التطرف. وببساطة فإنه عندما تكون الشرعية عاجزة عن استيعاب مختلف القوى على الساحة السياسية فانه تنشأ بالضرورة قنوات سرية، وحيث يكون الظلام تنمو الافكار الشاذة والمنحرفة التي لا يمكن ملاحظتها او السيطرة عليها.
دور الترابي
"الوسط": حكم الجبهة الاسلامية في السودان بقيادة حسن الترابي يلغي - تحت لافتة المؤتمرات الشعبية والاجتهاد الديموقراطي - التعددية.
- محمد عمارة: موضوع الترابي لا شأن لي به.
- نبيل عبدالفتاح: بالنسبة الى قضية الترابي احب ان اؤكد ان هناك فرقاً بين موقف الاسلام، وبين ما يفعله بعض الاسلاميين، اي انني عندما اقول بأن للتعددية اصلا عقيدياً في الاسلام، فانني ارجو الا يحتج البعض بأن فلاناً فعل كذا وكذا، اذا ثبت ان فلاناً من الناس تصرف بما يتعارض مع ما نعتبره اصلاً اسلامياً فانه يكون مخطئاً، لا ينبغي ان يعد احتجاج بالفعل على المبدأ، والا فاننا جميعاً نعلم ان اخطاء كثيرة ترتكب باسم الديموقراطية. المشكلة ان الناس تحتج على الافكار او على النصوص بالممارسات، والممارسات اختيارات بشر تعبر عن مصالحهم وأهوائهم، ومن ثم: هل يجوز، في تقييم الحركة الاسلامية او التصور الاسلامي، الفصل بين سلوك الجبهة القومية الاسلامية في السودان، او سلوك احد تيارات الاسلام الراديكالي في العالم العربي، او سلوك حزب الله في لبنان والمنظمات الاسلامية السياسية الاخرى؟ من الصعوبة بمكان الفصل بين الفكرة، نظرياً وتطبيقاً، والتيار الراديكالي الاسلامي يعي هذه المسألة تماماً التي هي انعكاس لاجتهادات وأهواء ومصالح.
- محمد عمارة: عندنا موقف نظري اسلامي مع التعددية ولنناقش موقف الحركات الاسلامية حركة حركة لنرى اذا كانت خرجت على مبدأ التعددية ام لا. "الاخوان المسلمون" مع التعددية وشاركوا في الانتخابات البرلمانية وقبلوا باللعبة الديموقراطية، هذه اكبر حركة موجودة في العالم الاسلامي على مستوى الجماهير ومستوى النخب هي حركة دولية اممية، وهذه ميزة كبرى - فكونها تنظيماً دولياً هذا في حد ذاته تعددية. موقف الحركة من حرب الخليج كان منقسماً بمعنى انها اعطت للإخوان في الكويت الحق في ان تكون لهم رؤية متميزة، وهذا ايضا احد الوان التعددية في الممارسة داخل التنظيم. جبهة الانقاذ الاسلامية في الجزائر لم تقبل فقط بالتعددية بل انها ايضاً فتحت الباب امام البلاد لتعرف التعددية السياسية للمرة الاولى منذ الاستقلال، ولكن الحكم في الجزائر نكّل بالجبهة وبرموزها، اي ان الذين يتحدثون عن الديموقراطية هم أول من سعى الى وأدها عندما رأوا انها ستأتي بالاسلاميين الى الحكم. راشد الغنوشي في تونس حصل مرشحوه المستقلون في الانتخابات على عدد لا بأس به من الاصوات البعض ذكر انها بلغت 17 في المئة وذكر البعض الآخر انها تعدت 30 في المئة، وبعد شهر عسل قصير نظمت السلطة حملة ضد الغنوشي. نأتي الى الترابي الذي تسلط عليه الاضواء الآن. الجبهة القومية في السودان في ميثاقها الشهير تعد اول من نظر للتعددية العرقية والثقافية والقومية في السودان وذلك قبل سنوات طويلة من وصولها الى السلطة، السودان اليوم بوابة لتنظيمات نهاياتها ليست معروفة حتى هذه اللحظة، والسودان اليوم يعيش للأسف وضعاً استثنائياً.
وهل هذا الوضع في رأيك يبرر اعدام معارضي السلطة من دون محاكمة؟
- محمد عمارة: هذه قضية اخرى انا بالطبع مع ضرورة ان يحصل كل متهم على حقه في الدفاع عن نفسه في اطار محاكمة عادلة. عندما تحاول مجموعة مسلحة بالمدافع والدبابات قلب نظام الحكم في السودان بالقوة، فمن الطبيعي ان يتم التصدي لها بحزم من جانب السلطة، ويتمثل هذا التصدي في تصوري في محاكمات عادلة حتى ولو اقتضى الأمر إجراء هذه المحاكمات سراً على ان يتم تسجيلها بالصوت والصورة لتعرض بعد ذلك على من يهمه الاطمئنان على سير العدالة في هذا البلد. وإذا كان الترابي يحاول تطبيق تجربة المؤتمرات الشعبية فهذا لأنه متحالف مع التيار القومي وحركات اسلامية كثيرة، وأنا لست ممن يزعجهم الفكر الاسلامي في السودان. الترابي متهم "بالهرطقة" من جانب تيارات اسلامية عدة لأن له اجتهادات تشمل الاصول، وأنا مندهش من نظرة البعض اليه على انه متطرف وفي اعتقادي انه لا بد ان ننتظر وقتاً كافياً حتى نستطيع الحكم على التجربة السودانية.
- نبيل عبدالفتاح: في عهد الرئيس جعفر نميري كان السودان يعيش ظروفاً عادية، ومع ذلك كانت السلطة لا تتوانى عن ضرب معارضيها.
- محمد عمارة: لا أريد الدخول في تفاصيل فترة حكم نميري، وأنا سبق لي ان هاجمته اثناء حكمه في ميدان عام في الخرطوم.
- نبيل عبدالفتاح: ولكن ينبغي ان لا ننسى ان الجبهة القومية الاسلامية وصلت الى السلطة في السودان من خلال انقلاب عسكري.
"حركة دولية اسلامية"
- محمد عمارة: الكلام في هذه القضية سيجرنا الى أمور بعيدة عن موضوع الندوة، وعموماً السودان ليس البلد العربي الوحيد الذي يحكمه العسكر.
"الوسط": اعتماد الترابي على العسكر للوصول الى الحكم هو الذي يسهل الحوار بينه وبين الاتجاه القومي؟
- محمد عمارة: هذه قصة بعيدة عن موضوعنا واقترح اذا اردتم ان نواصل الندوة ان يكون الكلام حول خريطة قوى الاسلام السياسي.
نتحدث عن الخريطة.
- فهمي هويدي: خريطة الحركة الاسلامية في مصر ليست قاصرة على جماعات "الإخوان المسلمين" و"الجهاد" و"الجماعة الاسلامية". فبين هذه الحركات توجد رقعة هائلة من الحضور الاسلامي غير ممثلة وليس متاحا التعبير عنها. الاخوان لا يمارسون من الناحية القانونية اي نشاط منذ سنة 1954، وهنا مساحة يقف فيها الدكتور محمد عمارة والاستاذ طارق البشري وهو مفكر اسلامي يشغل منصب نائب رئيس مجلس الدولة والدكتور كمال أبو المجد وهو وزير سابق محسوب ايضا على تيار الفكر الاسلامي المعتدل وناس كثيرون أنا آخرهم لا ينتمون الى مربع الاخوان ولا الى مربع "الجهاد" او "الجماعة الاسلامية"، إذن الخريطة المعلنة للقوى الاسلامية في مصر لا تعبر بدقة عن الواقع بسبب ظروف سياسية وقانونية معروفة تحول دون ذلك التعبير الدقيق، ربما انا لا اصلح للتصدي لتشكيل حزب وربما يصلح الدكتور عمارة ان يكون زعيم حزب. ولكن ما اريد ان اؤكده هو ان الساحة الاسلامية لم تتبلور وتبلورها غير ممكن، وكل واحد ممن ذكرتهم وممن لم اذكرهم من غير المنتمين الى الجماعات المشار اليها له جمهوره ومنابره ولكن ينظر اليه في النهاية على انه فرد وليس تياراً، وهذا يعكس ازمة الديموقراطية، هذه الأزمة التي لا تتيح لأفكار اي من هؤلاء ان تتبلور في كيان جمعي ملموس يقف نداً ومنافساً لجماعة "الإخوان المسلمين" وغيرها من الجماعات الاخرى، والبعض يسمي الاسلاميين غير المنخرطين في هذه الجماعات مستقلين، وهذه تسمية خاطئة لأنها تعبر عن وعاء سياسي، في حين ان لهؤلاء حضوراً اجتماعياً وثقافياً مهماً، ايضاً اريد ان الفت الانتباه الى ان الحالة الاسلامية مختلفة في كل بلد عن الآخر بشكل يصعب معه وضع الجميع في قوالب واحدة، حتى مربع ما نسميه بالاعتدال. الحركة الاسلامية في السودان نشأت في ظل ظروف تاريخية معينة وعلى مدى سنوات طويلة رفضت ان تعتبر نفسها حزباً، فهي كانت دائما تنحو الى ما يسمى بالعمل الجبهوي وتقييم هذا من الناحية السياسية موضوع آخر. وللحركة الاسلامية في تونس خصوصية شديدة ايضاً، تونس بلد صغير والحركة الاسلامية فيه تبلورت في وقت متأخر تحديداً في اوائل السبعينات، فأول ميثاق لها تم الاعلان عنه في العام 1971 أو 1972 وأعضاؤها استفادوا كثيراً من التجربة الاسلامية في مصر وسورية والاخيرة عاش فيها الغنوشي لفترة من الزمن وهم تفاعلوا مع واقعهم العربي والتحدي الذي يواجههم متمثل في اوروبا الغربية، فرنسا على وجه الخصوص، فأخرجوا هذه التوليفة المتمثلة في حزب النهضة والتي يعتبرها الأخ نبيل استثنائية، ولكني اعتبر انهم قدموا نموذجاً كان حاسماً منذ البداية في خياره الديموقراطي، على رغم بعض اعمال العنف التي ارتكبها شباب هذا الحزب.
انخراط حركة اسلامية في حزب سياسي يشارك في اللعبة الديموقراطية لا يقتصر على "حزب النهضة"، ففي مصر نموذج لذلك يتمثل في حزب العمل.
- فهمي هويدي: ولكني اتحدث عن التجربة التونسية بالذات، فأنا اعتقد، وسبق ان كتبت ذلك في مقالات عدة انه بعد 15 او 20 سنة سيبرز جيل في حزب النهضة الذي هو في الأساس حركة اسلامية، ليقول للجيل الأكبر اي ديموقراطية هذه التي تتحدثون عنها وتتكالبون على الانخراط فيها بينما هي ترفضكم؟ وهذا حدث عندما قامت مجموعة من شباب النهضة بمهاجمة احد مقار الحزب الدستوري الحاكم في العاصمة التونسية وإشعال النار فيه، مجموعة من الشبان فاض بهم الكيل ويئسوا من الديموقراطية. ولكن هذا التصرف يظل استثنائياً. وبالنسبة الى قناعات الحركة الاسلامية في تونس، لكل مجتمع خصوصيته في حالته الاسلامية ويصعب وضع الجميع في وعاء واحد، ومن هنا فإنني لست مع من يتحدثون عن تجربة الترابي ومؤتمراته الشعبية وما اذا كانت حركته تتقاطع مع تنظيم الاخوان المسلمين الدولي أم لا. وأنا اعتقد ان فكرة المؤتمرات الشعبية التي دعا اليها الترابي متأثرة بعاملين: أولاً: العمل الجبهوي الذي كان حريصاً منذ البداية على ان تعمل جبهته في ظله باستمرار، بدليل ان الجبهة تضم عناصر يسارية وشيوعية وقومية، وثانياً ليؤكد انه لا يتزعم مجرد حركة اسلامية بل حركة تتحرك على مساحة أوسع كثيراً من تلك التي تشغلها حركة الإخوان المسلمين.
- نبيل عبدالفتاح: أعتقد ان هدف الترابي هو انشاء حركة اممية او دولية اسلامية من نوع مختلف قد لا تتقاطع في الوقت ذاته مع حركة الاخوان المسلمين وإنما تمس بعض جوانبها، بحيث تضم هذه الدولية، اذا جاز التعبير، تنظيمات ذات طابع راديكالي، هل هذا يشكل جزءاً من التناقضات الموجودة داخل حركة الاخوان المسلمين؟ أم انها محاولات لبناء قوة في الاطراف على حساب المركز؟
- فهمي هويدي: الجبهة القومية الاسلامية في السودان تضم تياراً اخوانياً اسسه الاستاذ صادق عبدالماجد ليكون امتداداً في السودان لحركة الاخوان المسلمين في مصر، وإضافة الى هذا التيار هناك تيار آخر يوازيه، والاثنان منذ البداية ليسا على وفاق، والبعض يعتقد ان عدم الوفاق بين التيارين نابع أساساً من موقف الجبهة من سياسات جعفر نميري، ولكني على يقين من ان الخلاف يعود الى المنبع او المرجعية التنظيمية، فأحدهما يتخذ من حركة الاخوان المسلمين مرجعية اساسية والآخر يرفض ذلك باعتبار ان المرجعية يجب ان تتمثل في الواقع السوداني، وهذا الاخير توجهاته تماثل الى حد كبير توجهات جبهة الانقاذ في الجزائر التي سموها حركة "الجزأرة" لأنها نابعة من التربة الجزائرية.
- محمد عمارة: اتجاه جبهة الترابي في السودان الى مد الجسور مع التيار القومي لا يتناقض مع توجه "الاخوان المسلمين" لأن الاخوان الآن يشتركون في حوار مع القوميين في مصر.
- نبيل عبدالفتاح: والاثنان، التيار الاسلامي والتيار القومي، يجمعهما التوجه الشمولي.
- محمد عمارة: الامر ليس كما تصوره، وفي اعتقادي الحوار بين الاسلاميين والقوميين يعبر عن قبول التيار الاسلامي بمبدأ التعددية. "الاخوان المسلمون" في مصر يمدون جسور الحوار مع كل الاحزاب، تماماً مثلما تتحاور جبهة الترابي في السودان مع اليساريين والشيوعيين.
الاسبوع المقبل:
الحلقة الثانية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.