يبدو ان ما يسمى عملية "اعادة الأمل" في الصومال، هي اللبنة الأولى في صياغة قاعدة جديدة من قواعد القانون الدولي، ونعني بها القاعدة التي تخول لپ"المجتمع الدولي" حق التدخل بكل الوسائل، بما فيها القوة المسلحة، في الشؤون الداخلية لدولة ما ذات سيادة، اذا ما توافرت مجموعة من الاسباب والدوافع الانسانية، لانقاذ شعب هذه الدولة من السقوط في هوة الجوع والموت والحرب الاهلية، وحيث ينعدم وجود سلطة مركزية قادرة على فرض سيطرتها وقوانينها وممارسة صلاحيتها ومسؤولياتها ازاء مواطنيها. القاعدة، في حد ذاتها، ممتازة. وتتجاوب - نظرياً - مع مبدأ حماية الانسان، من حيث كونه انساناً، اياً كان لونه او دينه او اتجاهه السياسي او مركزه الاجتماعي او مدرسته الفكرية او جنسيته. وهو المبدأ الذي يلخص ملاحم النضال البشري المتعددة والمتعاقبة وتضحيات الناس في كل مكان من الكوكب على امتداد العشرين قرناً الاخيرة من تاريخ الانسان. ولكن ماذا عن القاعدة في التطبيق العملي؟ إن أول تطبيق محدد لهذه القاعدة الجديدة، وربما يكون من الاصح القول انه أول امتحان عملي لها، يتجسد في عملية "اعادة الأمل" للصومال الممزق الذي شارفت دولته ومؤسساته وشعبه على حافة الهلاك، بالمعنى الحرفي للعبارة. لم تفلح كل الجهود التي بذلتها كل من الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الافريقية والأممالمتحدة، في وقف سعار الاقتتال القبلي والطائفي والسياسي بين مختلف القوى الصومالية المتصارعة، والتي تولدت منها مئات المافيات والعصابات المسلحة لسرقة معونات الغذاء الدولية للشعب الجائع والاتجار البشع بها. وقد مهدت أجهزة الاعلام العالمية، على اختلاف اتجاهاتها، الميدان والمناخ، لأي تدخل قوي وحاسم من جانب اية قوة قادرة لانقاذ الصوماليين من براثن المأساة المهولة، ولم يعد هناك فرد واحد في العالم، ازاء الصور الاعلامية الحية للموت البشع، وهو يلتهم بلا رحمة ما بقي من عظام الاطفال ولحم النساء والرجال، لا يساند اي فعل من اي مصدر كان، يستهدف الانقاذ بأي ثمن، ابتداء من بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة حتى صوفيا لورين فاتنة السينما، ومن بابا روما الى شيخ الأزهر، وحتى من اسحق رابين الى ياسر عرفات. وبعد انتظار طويل، قاس ومؤلم، كاد خلاله الديبلوماسي الجزائري القدير سحنون، ممثل الأممالمتحدة في الصومال، ان يموت يأساً وكمداً مع الشعب الصومالي، بدأت تتضح الخطوط الأولى لسيناريو مثير للاهتمام. كانت البداية قراراً عاماً من دون تفاصيل، من مجلس الامن يعطي الضوء الاخضر للتدخل. وقبل ان يجف مداد القرار، او يحدد مجلس الامن كيفية التدخل وشروطه، بادر الرئيس الاميركي السابق بوش الى تحريك اكثر من 20 ألف جندي الى الصومال. وبعد اقتحام القوات الاميركية الصومال، تتابعت قوات اعضاء نقابة الخمسة الكبار في مجلس الامن، باستثناء روسيا والصين، وتلا ذلك وصول قوات من دول العالم الاخرى، وأخيراً ارتفع علم الأممالمتحدة ليظلل كل القوات في النهاية. لا اعتراض على التحرك ولا على اهدافه. لكن عدم الاعتراض لا يجعلنا نتجاهل طبيعة وأسلوب الحركة. ووجوب ان نتوقف بالدراسة والتأمل عندهما، تحسباً للمستقبل، بل والحاضر الماثل أمام عيوننا أيضاً. نلاحظ أول ما نلاحظه ان ما اصبح يعرف باسم ارادة المجتمع الدولي، ينحصر تحديداً في الولاياتالمتحدة الاميركية بالدرجة الأولى، ونقابة الاعضاء الآخرين الدائمي العضوية في مجلس الامن، بالدرجة الثانية، من دون بقية خلق الله من دول وشعوب العالم. والدلالة الخطيرة، هنا، ان كل النظام الدولي والأممالمتحدة، جمعية عامة او مجلس امن، جرى اختصاره في اميركا وفرنسا وبريطانيا فقط، حيث ان العضوين الآخرين الدائمين بمجلس الامن، وهما روسيا والصين، خف وزنهما الى درجة اللحاق الملهوف بالذيل الاميركي في أغلب الاحوال، في دهاليز الساحة الدولية. أين، بالدقة، يكمن الخطر؟ في تقديري ان هذا الخطر يتبدّى في وجهين: الأول: ان تفسير قاعدة التدخل بدوافع انسانية في شؤون بلد ما، بات محتكراً، نظرياً وعملياً، للولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، وهذه الدول الثلاث، على رغم ما قد يكون بينها من خلافات او حتى صراعات، تجتمع على قواسم مشتركة واحدة في ما يخص العالم الثالث ودوله على وجه العموم. وبالتالي فان تفسير القاعدة وتطبيقها مرتبطان عضوياً بالمصالح الخاصة لهذه البلدان الثلاثة وحدها، سواء كانت هذه المصالح استراتيجية او تكتيكية، ولا يكتسبان قواماً دولياً عاماً نابعاً من المصالح الحقيقية الشاملة للانسانية او النظام الدولي ككل. ومن هنا تغدو القاعدة الجديدة الصحيحة في حد ذاتها، مجرد ستار للمصلحة الخاصة لدولة من هذه الدول الثلاث المتميزة او لها مجتمعة. الوجه الثاني للخطر، يتعلق - طالما بقي تفسير القاعدة وتطبيقها حكراً على الدول الكبرى الثلاث - بالطابع الانتقائي لأعمال القاعدة كما يقول القانونيون. كيف؟ تواكب محنة الصومال - على سبيل المثال - محنة البوسنة والهرسك ازاء المجازر الرهيبة التي يرتكبها الصرب المتعصبون ضد شعب البلد الصغير الحديث الاستقلال، وكذلك محنة الشعب الفلسطيني في مواجهة عمليات الارهاب واقتلاع الناس من وطنهم والقتل اليومي، على أيدي الجيش الاسرائيلي والمستوطنين المتعصبين. الاعلام العالمي، بجميع اتجاهاته، الاممالمتحدة، المنظمات الدولية، تكشف وتعري وتدين، من دون انقطاع، الاهدار الآدمي المفزع والاغتيال الجماعي الوحشي ووأد الناس جوعاً في البوسنة والهرسك وفلسطين. وتتوافر في هاتين الحالتين المتفجرتين بالدم والهول، جميع الدوافع والاسباب والشروط التي دفعت بالولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا الى استصدار قرار قوي ملزم "للمجتمع الدولي" بالتدخل بكل الوسائل، بما فيها القوة العسكرية للانقاذ الانساني للصومال، ويحدث التدخل فعلاً بأقصى سرعة في أقل من يوم واحد. بيد انه على رغم الارادة العارمة للرأي العام العالمي والغالبية العظمى لاعضاء الأممالمتحدة، فان الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا، لا تحرك ساكناً أو اصبعاً واحداً، وأقصى ما تفعله ان تناشد الجميع القتلة والمقتولين، ان يتحلوا بضبط النفس ويحاولوا تسوية مشاكلهم بالطرق السلمية في ما بينهم. الاكثر من ذلك، تخرج علينا واشنطن بپ"مقولة حكيمة" تدعي فيها ان التدخل في محنة البوسنة والهرسك يبدو صعباً تقنياً، ان لم يكن مستحيلاً، فضلاً عن انه ليس في مصلحة الشعب البوسني المحاصر بالجوع والاغتصاب والتدمير وسفك الدماء. المقولة الحكيمة نفسها لا تنأى واشنطن عن تردىدها بشأن محنة الشعب الفلسطيني، الذي لا يمضي يوم منذ اكثر من أربعين عاماً، من دون سقوط عشرات القتلى منه وتهديم منازله وإحراق مزارعه وتكسير عظام اطفاله وطرده المنظم من ارضه، وكان آخر عمليات الطرد القاء 415 مواطناً فلسطينياً الى الجوع والأرض الجرداء، وتحت صقيع الموت. كسر الاحتكار لا أميل الى تفسير هذا التجاهل الاميركي - الفرنسي - البريطاني، تفسيراً دينياً، بمعنى ان المسيحية الاميركية - الفرنسية - البريطانية، لا تعير اهتماماً لشعوب البوسنة والهرسك وفلسطين، لأنها شعوب مسلمة. في تقديري ان مثل هذا التفسير قاصر وسطحي، ويفرغ القضية من مضمونها "السياسي - المصلحي" في الأساس. من جهة، وضرورة احترام القاعدة الدولية. نظرياً وتطبيقياً، باعتبارها قانوناً عاماً وليس قانوناً خاصاً لبشر من دون بشر آخر من جهة ثانية. والاحتجاج بهذا التفسير ضار، ذلك انه يمكن بسهولة دحضه واقعياً، فالصومال الذي تم التدخل لانقاذ شعبه انسانياً، بلد عربي مسلم، والبوسنة والهرسك التي يغلب عليها الاسلام تضم اقليات كرواتية مسيحية تعاني ما يعانيه المسلمون، كذلك الامر في فلسطين، اذا كانت غالبية الشعب مسلمة، فهناك ايضا فلسطينيون مسيحيون ينزل عليهم سواء بسواء سيف القتل وحصار الجوع ومعول الهدم. لا، التفسير الحقيقي هو أن نفتش عن المصلحة في التدخل، الذي يجري تحت شعار القاعدة الانسانية الجديدة من قواعد القانون الدولي. هناك مصلحة اميركية - فرنسية - بريطانية مشتركة من التدخل في الصومال مضمونها ضمان اعادة ترتيب القرن الافريقي، والعالم على مشارف نظام جديد، هذا فضلاً عن الاحتمالات الكبيرة لليورانيوم في باطن الصومال. أما في البوسنة والهرسك فالمصلحة الاميركية - الفرنسية - البريطانية أكثر ميلاً وتحيزاً للصرب باعتبار ما يمثلونه من قوة ووزن في ترتيب اوضاع منطقة البلقان بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الانظمة الشيوعية وانهيار الاتحاد السوفياتي. كذلك الامر في فلسطين. لا تزال المصالح الاميركية - الفرنسية - البريطانية تصب بقدر أو بآخر الى جانب اسرائيل، وعلى رغم تآكل الدور الاسرائيلي التقليدي لصالح الغرب عامة بعد نهاية الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفياتي، فان اسرائيل تظل القوة الاكثر ضماناً نسبياً للغرب، على الاقل حتى اشعار آخر. اذا كان هذا التحليل صحيحاً، وإذا كانت قاعدة التدخل من جانب المجتمع الدولي ضرورية في حالات الانقاذ الانساني للشعوب، فانه يبدو ملحاً في تقديرنا ان نصحح، بقوة الكم التصويتي للعالم الثالث في الأممالمتحدة، وبقوة الوحدة النوعية لقواه، وهي على وشك ان تدخل نظاماً دولياً جديداً، مفهوم القاعدة وحدودها وأهدافها وشروط ووسائل تطبيقها. وهذا يعني أول ما يعني، كسر ذلك الاحتكار الذي اغتصبته الولاياتالمتحدة ونقابة الخمسة الكبار في مجلس الامن، لتمثيل ارادة المجتمع الدولي، وللتفسير الخاص والتطبيق الانتقائي للقاعدة الدولية. وفي هذا المجال، نطرح كخطوة ملحة وعاجلة، ألا يصبح قرار مجلس الامن، في شأن تفسير وتطبيق قاعدة التدخل، قابلاً للنفاذ الا اذا حصل على 51 في المئة على الاقل من اصوات اعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي هي المعبرة - وفقاً للقانون الدولي - عن ارادة المجتمع الدولي. كما يحق لپ51 في المئة من اعضاء الجمعية العامة ان يبادروا بالطلب الى مجلس الامن بأعمال القاعدة والتدخل للانقاذ الانساني، في الحالات التي يكون المجلس تجاهلها على رغم استيفائها - وفقاً للسوابق - شروط التدخل. وفي تقديرنا ان ما نطرحه، هنا ليس في حاجة الى تعديل لميثاق الأممالمتحدة، نعرف صعوبته، وربما استحالته في الظروف الراهنة على الاقل، وإنما يجري، استلهاماً لروح الميثاق، تقنينه كعرف جديد، ينضم الى قائمة الاعراف الاخرى العديدة التي تم استنباطها خلال حياة وتجارب الاممالمتحدة من قبل. * كاتب ومفكر سياسي مصري.