لا يخلو قرار الرئيس بوش بارسال القوات الاميركية الى الصومال من مخاطرة، كما لا تخلو مهمة هذه القوات من عناصر الابهام والغموض، ويصبح السؤال حول ما اذا كانت ثمة مصالح اميركية تتوازن مع حجم هذه المخاطرة شديدة الاهمية لفهم طبيعة المهمة وآفاقها المستقبلية، ودلالاتها بالنسبة الى تطور النظام الدولي. فمهمة القوات الاميركية والمتعددة الجنسية طبقاً لقرار مجلس الامن الرقم 794 الصادر في الثالث من كانون الثاني يناير هي "انشاء بيئة آمنة لعمليات الاغاثة الانسانية في الصومال بأسرع ما يمكن"، وتعمل هذه القوات بناء على تفويض من مجلس الأمن، بالمشاركة مع الامين العام والدول الاعضاء بالمجلس، باستخدام "كل الوسائل الضرورية لانشاء بيئة آمنة بأسرع ما يمكن"، وعلى أساس "الترتيبات الضرورية لقيام سيطرة وقيادة موحدة للقوات المعنية". ويتبين من نص قرار مجلس الامن ان الهدف السياسي من مهمة القوات الاميركية والمتعددة الجنسية هو تأمين امدادات الاغاثة الضرورية لانقاذ نحو مليوني صومالي يتعرضون للمجاعة بسبب الاعاقة العمدية والسطو المسلح على امدادات الاغاثة التي تقدمها الأممالمتحدة والدول والبعثات والمنظمات الانسانية. ومصدر الغموض هنا مزدوج، فمن ناحية لا يتصور ان تؤدي هذه القوات مهمتها لفترة قصيرة من الزمن لكي تعود الامور الى ما هي عليه حالياً في الصومال من فوضى شاملة وتحلل كامل لمؤسسات المجتمع والدولة وسيادة العصابات المسلحة والمتناحرة، فانقاذ الشعب الصومالي من المجاعة وتأمين الاغاثة الانسانية له يقتضي في حقيقة الامر نزعاً شاملاً لسلاح العصابات والمنظمات العسكرية التي تحكم الاقاليم الثمانية عشر، خصوصاً المدن الرئيسية، ومثل هذه المهمة قد تحتم صدامات عسكرية متصلة تتخذ آليات حرب المدن بصورة رئيسية. ومن المشكوك فيه ان القوات الاميركية مستعدة لمواجهة آليات حرب المدن، وربما حرب استنزاف طويلة، فالمشكلة هنا هي انه يصعب الانتصار في هذا النوع من الحروب في الحالة الصومالية، فالقوات الاميركية لا تواجه موقفاً مشابهاً لحرب الخليج مثلاً أو حرب المناطق المفتوحة، وهي لا تواجه في الوقت نفسه بنية عسكرية متماسكة يمكن تصفية قدراتها التدميرية بضربها وشل وتعطيل او تحطيم هيكلها الخاص بالسيطرة والقيادة، بل تواجه نحو 14 تنظيماً عسكرياً مستقلاً كل منها يخص قبيلة أو عشيرة، وهذه التنظيمات ذاتها تتسم بالانخفاض الشديد المستوى: الانضباط، وهي لذلك دائمة الانشقاق والتخالف، وتشكل في مجموعها عاصفة من الغبار تقوم في مستنقع من الاسلحة الصغيرة، حيث كل مجموعة صغيرة جيش مستقل يتعايش جزئياً أو كلياً على استخدام العنف. ومن ناحية ثانية، فان نزع سلاح المنظمات العسكرية الكثيرة في الصومال لن يمثل في حد ذاته انجازاً كبيراً ما لم يرتبط باعادة بناء هياكل الدولة والمجتمع، وتأمين فعاليتها ولو لمرحلة انتقالية، ولهذا فان الخبراء المشتغلين بالصومال او بمساعدة الصومال يصرون على ان العمليات العسكرية الدولية اللازمة لتأمين امدادات الاغاثة يجب ان تكون جزءاً من برنامج شامل لاعادة البناء قد يستغرق تنفيذه نحو خمس سنوات في الأقل. ويتناقض هذا الافق الزمني الممتد نسبياً واللازم لنزع سلاح المنظمات العسكرية وتأمين امدادات الاغاثة على المدى الأطول، وإعادة بناء هياكل الدولة والمجتمع في الصومال مع ما اعلنه الرئيس الاميركي من رغبته في اعادة الجنود الاميركيين قبل نهاية مدة رئاسته للولايات المتحدة، اي قبل 20 كانون الثاني يناير المقبل، فمن المستحيل انجاز هذه المهمات في غضون شهر واحد، أو ضعف هذه المدة القصيرة. ومع ذلك فقد يكون من الممكن انجاز الجزء الأكثر صعوبة من مهمة القوات المتعددة الجنسية اذا ما تصورنا ان تبدأ فوراً ومنذ وصولها بعملية عسكرية هجومية هدفها تحطيم البنية العسكرية للمنظمات الكبيرة، وبصفة خاصة المؤتمر الصومالي الموحد والجبهة الوطنية الصومالية والحركة الوطنية الصومالية، وقد يقتضي ذلك التصرف بناء على نموذج سياسي معقد يفترض ان المنظمات الكبيرة ستراوغ حتماً باعلان قبول التعاون مع القوات الدولية الى حين تمضي الى حال سبيلها لكي تعيد هذه المنظمات سيطرتها من جديد على مختلف مناطق الصومال وأحياء المدن الكبرى فيها، خصوصاً مقديشو. غير انه مهما كان النموذج السياسي او الاستراتيجية العسكرية المطبقان في الصومال من قبل القوات الاميركية والدولية بالاتفاق مع لجنة التسيير التي انشأها قرار مجلس الامن الرقم 794 فقد يكون من المحتم استنتاج ان هذه القوات - أو جزءاً كبيراً منها على الأقل - ستستمر في اداء عملها في الصومال لفترة طويلة، حتى بعد ان يكون الرئيس بوش ذهب وتولى الرئيس الأميركي الجديد بيل كلينتون مهامه كما ان من المحتم استنتاج ان هذه القوات ستواجه خسارة بشرية ليست هينة بسبب ارجحية حدوث حرب استنزاف طويلة في بلد يحمل فيه الاطفال السلاح ويستخدمونه دون رادع أو خوف. وفوق ذلك فان من المحتم - في ما يبدو - ان تقبل الولاياتالمتحدة ما يحتمه الوضع في الصومال من بقاء لقواتها لفترة اطول بكثير مما اعلن في بداية العملية، مع ضغط التداعيات المتوقعة وغير المتوقعة المرتبطة بوجود هذا العدد الكبير من الارادات العسكرية الصومالية، والطابع المراوغ لأكبرها، وهي تلك التي يقودها الجنرال فارح عيديد، الذي قد يقبل كارهاً التعاون بهدف كسب الوقت لا أكثر. المصالح الاميركية اذا كان هذا كله يفرض تضحيات اميركية كبيرة، فهل تعد المصالح الاميركية في الصومال كبيرة بما يتوازن مع هذه التضحيات؟ ان بعض المدارس الفكرية والسياسية في العالم العربي ترى ان للولايات المتحدة مصالح استراتيجية عسكرية كبيرة بما يتجاوز بكثير حجم التضحيات المحتملة التي قد تتكبدها، بل ان هذه المدارس تذهب جرياً وراء مذهب "التفسير التآمري" للأحداث الدولية الى ان الولاياتالمتحدة - والدول الكبرى عموماً - ربما تكون وراء ما أصاب الصومال من تحلل شامل وتآكل كامل لمؤسسات المجتمع والدولة، والمفترض - وفقاً لهذا التفسير - ان الولاياتالمتحدة والقوى الغربية الاخرى فعلت ذلك بالتلاعب بالانقسامات القبلية والعشائرية في الصومال، اما الهدف فيكمن في نهاية المطاف في الرغبة في السيطرة على الصومال كموقع استراتيجي مهم يتحكم في مداخل البحر الاحمر، ويتصل اتصالاً حيوياً بأمن المصالح الاميركية في الخليج العربي. والحقيقة ان هذا الاختزال لمصالح الولاياتالمتحدة يستجيب لحالة نفسية فريدة اصبحت تمسك بتلابيب الفكر السياسي العربي عموماً، وقطاعه المعارض من شتى المذاهب السياسية بوجه خاص، فقد صار العالم الخارجي عموماً والقوى الغربية الكبرى، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة، مصدراً لقلق عاصف وفقدان كامل للثقة والامان وتطير مستديم يتوقع الشر من وراء كل موقف وحدث تتدخل او تتداخل فيه هذه القوى، ويصل الامر احياناً الى تناقض مستحكم، اذ يدان الغرب وتدان الولاياتالمتحدة خصوصاً اذا تدخلت وإذا لم تتدخل في الازمات الدولية الكبيرة والازمات العربية المحلية والاقليمية على وجه التحديد، والواقع انه قد تكون لهذه الحالة السيكولوجية المميزة مبررات قوية، غير ان وجه الخطورة فيها يأتي من استرسال التيارات الفكرية التي تعتريها هذه الحالة وراء ردود فعل غريزية تفقدها القدرة على التقدير المستقل لكل موقف، وبيان ما فيه من نتائج بعضها سلبي والآخر ايجابي بحيث ينهض رد الفعل - بعد ان فقدنا القدرة على الفعل - على تقييم متكامل لمحصلة المواقف الغربية. وبسبب هذا الميل لاختزال الموقف الاميركي في الرغبة في السيطرة الاستراتيجية رفض السودان مثلاً قرار مجلس الامن باستخدام القوة في الصومال، وترفض مع السودان ايضا التيارات القومية وتيارات الاسلام السياسي الاصولي في انحاء متفرقة من العالم العربي. ولا شك ان للولايات المتحدة مصالح كبيرة وراء ارسال قواتها الى الصومال، ولكنها مصالح اشمل بكثير من مجرد الاهداف الاستراتيجية، بالمعنى العسكري الضيق، ويمكننا ان نرتب هذه المصالح، وفقاً لأهميتها وتأثيرها على القرار الاميركي كما يأتي: أولاً: تأكيد مكانة الولاياتالمتحدة كقوة عظمى وحيدة في النظام الدولي، وهذه المصلحة ليست استراتيجية عسكرية وإنما هي ذات طبيعة سياسية بالمعنى الشامل، فالمكاسب الحقيقية المتوقعة من تأكيد القيادة الاميركية المنفردة للنظام العالمي عبر عملية او عمليات، مثل التأمين العسكري لامدادات الاغاثة للصومال، لا تأتي من الصومال ذاته، ولا من المناطق ذات القيمة الاستراتيجية المتصلة به، بقدر ما تأتي من منابع ومصادر اخرى وتتحقق في اشكال اقتصادية وسياسية في مناطق اخرى من العالم. ثانياً: المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، ولم تخف الولاياتالمتحدة ان لها مصالح استراتيجية في الصومال. فقد صرح هيرمان كوهين مساعد وزير الخارجية الاميركي للشؤون الافريقية علناً في تموز يوليو من العام الماضي بأن بلاده بحاجة الى تسهيلات في ميناء بربرة الصومالي، ولكنها ترى ضرورة وجود حكومة مركزية للاتفاق معها في هذا الشأن، ومن المعروف ان ميناء بربرة الواقع في شمال الصومال قريب من مداخل البحر الاحمر يتمتع بأهمية كبيرة بالنسبة الى الاستراتيجية البحرية الاميركية في المحيط الهادي والسواحل الجنوبية لغرب آسيا العربي، ومع ذلك فانه لا ينبغي المبالغة في أهمية وجود تسهيلات بحرية اميركية في هذا الميناء او في الصومال عموماً لأسباب عديدة، فقد كانت للولايات المتحدة تسهيلات قائمة في هذا الميناء، وكانت هجرته بارادتها تقريباً، خصوصاً بعد نهاية الحرب الباردة وانقضاء التحدي البحري السوفياتي في المحيط الهادي، وثانياً صار للولايات المتحدة اكثر من موقع جديد لا يقل أهمية ان لم يزد عن السواحل الصومالية. ثالثاً: المصالح الاجتماعية والانسانية للولايات المتحدة في الداخل والخارج، ولا يمكن اعتبار القول بوجود مصالح انسانية للولايات المتحدة بأنه نوع من المبالغة او الدعاية بالضرورة، فمكانة وقوة الولاياتالمتحدة، او أية دولة كبرى اخرى، لا تستمد فقط من قدرتها على العمل العسكري وإنما ايضاً من استجابتها لحاجات ورغبات عالمية عامة وقدرتها على اقناع الآخرين بجدارتها الاخلاقية، وتزيد أهمية هذا العامل بالنسبة الى الولاياتالمتحدة في اللحظة الراهنة بسبب عدم قدرتها على التدخل الامني في مناطق وأزمات اخرى من العالم مثل البوسنة والهرسك مثلاً، وعن طريق العمل في اطار المشروعية الدولية الممثلة في الأممالمتحدة في الصومال تستطيع الولاياتالمتحدة ان تؤكد استمرار قدرتها على التدخل لحماية اهداف انسانية عامة ومقبولة من عموم التجمع الدولي على رغم جلاء عجزها في مواقع مهمة اخرى. وتتضاعف أهمية هذا الاعتبار بأخذ العوامل الداخلية في الاعتبار، وهنا نذكر على وجه الخصوص ان الجماعة الافريقية - الاميركية كانت اتخذت موقف المعارضة من التدخل الاميركي في الخليج. وهكذا شاءت الادارة الاميركية ان تؤكد لهؤلاء انها قادرة وراغبة في التدخل في افقر دول العالم من دون استثناء تقريباً، ما دام ان هذا التدخل يتم لأغراض انسانية، وهي اغراض تلتقي مع رغبة هذه الجماعة في بناء علاقات اميركية أقوى وإبراز مواقف اميركية أقوى في افريقيا. هذه المصالح كلها تتضافر في كل واحد. والسؤال الحقيقي المطروح علينا هو: هل يستجيب الموقف الاميركي حيال الصومال لمصالح عربية عليا في الوقت نفسه بما يرفع التناقض - ولو موقتاً - بين المصالح الاميركية والمصالح العربية؟ نستطيع ان نكتفي - اجابة عن هذا السؤال - بأنه ليس هناك مصلحة عربية اسمى في الصومال في الوقت الراهن من انقاذ الشعب الصومالي نفسه من الموت والفناء بسبب الجوع والفوضى والأنانية وضيق الافق والاجرام الذي وسم تصرفات لوردات الحرب هناك في العامين الاخيرين. * خبير في العلاقات الدولية في مركز "الأهرام" للدراسات الاستراتيجية.