مع الهواجس التي أوجدها الغزو العراقي، والهموم التي تثيرها عملية اعادة الاعمار والتأهيل، سيكون على الكويت ان تواجه، في السنوات القليلة المقبلة، مشكلة مالية، هي الاخطر حتى الآن، بالنسبة الى بلد نفطي كان ينعم، حتى سنتين خلتا باوضاع مالية قوية، جعلته واحداً من افضل البلدان استقراراً اقتصادياً، ليس فقط في منطقة الخليج والشرق الاوسط، وانما في العالم بأسره. وتتمثل المشكلة التي تعاني منها الكويت منذ تحرير البلاد ومباشرة تنفيذ خطط اعادة الاعمار، بضخامة النفقات العامة مقارنة بالعائدات والايرادات التي تحصل عليها الحكومة، وارتفاع محفظة الديون سواء الديون الداخلية او الديون الخارجية، اضافة الى الخسائر التي تكبدتها في الاستثمارات في الخارج. ويقدر العجز المالي في الموازنة العامة بحوالي ملياري دينار كويتي 8.6 مليار دولار، وهو العجز الناتج عن ايرادات نفطية لا تتجاوز قيمتها 2 مليار دينار سنوياً 8.6 مليار دولار في مقابل نفقات تصل الى 4 مليارات دينار 6.13 مليار دولار. وتضاف الى ارقام النفقات فوائد الديون التي حصلت عليها الكويت من الاسواق المحلية والعالمية في السنتين الماضيتين، وهي تبلغ بين 9 و10 مليارات دينار بين 6،30 و34 مليار دولار، من بينها 17 مليار دولار للمديونيات الصعبة، و48.4 مليار دولار سندات خزينة، اضافة الى 5.5 مليار دولار قيمة القرض الذي حصلت عليه الكويت من مصارف اجنبية، وتصل فوائده الى 6.1 مليار دولار الى حين انتهاء فترة سداده. واضطرت الحكومة الكويتية، الى جانب الاقتراض من السوقين المحلية والخارجية، الى تسييل جزء كبير من استثماراتها في الخارج. وتقدر تقارير غير رسمية قيمة الاستثمارات التي تم تسييلها في السنتين الماضيتين بما تزيد قيمته على 40 مليار دولار، اي ما يمثل حوالي 50 في المئة من القيمة الكلية لهذه الاستثمارات. وتتردد معلومات غير نهائية عن اتجاه الحكومة الى تسييل مزيد من الاستثمارات الخارجية كخطوة لابد منها لمواجهة اعباء الانفاق العام الذي تحتاجه، فيما تقدر قيمة الممتلكات الكويتية القابلة للتسييل في الوقت الحاضر بحوالي 15 مليار دولار، فيما قيمة الممتلكات غير القابلة للتسييل لاعتبارات تتعلق باوضاع السوق توازي القيمة نفسها، من دون الاخذ في الاعتبار احتمالات وجود اوضاع مماثلة للاوضاع القائمة حالياً في اسبانيا حيث خسرت الكويت حوالي 5 مليارات دولار، هي قيمة استثماراتها في شركات اسبانية، اظهرت التحقيقات القضائية والادارية انها اصبحت تساوي خسائر مساوية لقيمتها الاساسية. وتتمثل خطورة ملف الاستثمارات الكويتية في اسبانيا، الى جانب الخسائر التي واجهتها الحكومة، في احد جوانبها، في اوجه الفساد الذي تم اكتشافه وادى الى الخسائر التي تحققت والى احتمال ان يكون بلغ استثمارات كويتية في دول اخرى، او في الداخل. وبالفعل، فقد اظهرت تحقيقات اولية جرت في ملف شركة الناقلات النفطية الكويتية التي تملكها الحكومة حصول اختلاسات بمئات ملايين الدولارات نتيجة تورط مسؤولين في الشركة في عمليات وهمية لتحقيق ارباح تم تحويلها الى حسابات سرية في بعض المصارف الخليجية وفي سويسرا ولندن. ويجمع محللون اقتصاديون في الكويت، على ان فتح ملف الفساد في الكويت، قد لا ينتهي عند موضوع الاستثمارات في اسبانيا او التجاوزات الحاصلة في "شركة الناقلات النفطية الكويتية"، وانما قد يعاود الظهور في ملفات جديدة، يبدو ان السلطات الكويتية بدأت تقترب منها ولو بأقل من السرعة التي يطالب بها بعض الاصوات المعارضة، سواء في مجلس الامة، أو خارجه. ويعترف معظم المعنيين بالموضوع المالي، بالجرأة التي يتحلى بها وزير المال الدكتور ناصر الروضان في مواجهة ملف الفساد المالي والاداري. وينظر الى جرأة وزير المال الكويتي على انها تعكس قراراً سياسياً على اعلى المستويات بعدم التستر على اي انتهاك للقوانين، او على اي شخص تورط في هذه الانتهاكات. ويقول المحللون الماليون ان خطورة الفضائح التي كشف عنها ملف الاستثمارات في اسبانيا، باتت تتجاوز الآثار المالية المباشرة لها، الى المسّ بالسمعة الدولية للبلاد، وبمصداقيتها في الاسواق الخارجية. فلقد كانت الاستثمارات الكويتية في الخارج، الى سنوات خلت، نموذجاً حاولت دول خليجية وغير خليجية اقتباسه في اطار مواجهة مرحلة ما بعد النفط. وتحاول الحكومة الكويتية في الوقت الحاضر لجم الانفاق العام، واعادة النظر بالابواب والبنود التي تثقل كاهل المالية العامة للدولة. وتقوم اللجنة النيابية للمال والاقتصاد بمراجعة برنامج شراء المديونيات الصعبة على المصارف، والتي تقدر قيمتها بحوالي 18 مليار دولار، في مقابل سندات بفوائد يتم تجديدها سنوياً لمدة 20 عاماً. وتقول اللجنة انها تسعى الى اختيار صيغة تساهم في حل مشكلة المديونيات الصعبة للمصارف من جهة، لكن من دون ان تؤدي الى ارهاق الموازنة العامة للدولة من جهة ثانية، ويتم التداول حالياً في مجموعة من الاقتراحات المطروحة، الا ان اياً منها لم يحظ بعد بالموافقة النهائية، في اشارة واضحة الى ان تنفيذ برنامج شراء المديونيات الصعبة للمصارف قد يتأخر لفترة جديدة، وهو الامر الذي يرخي بظلاله على الوضع المصرفي في البلاد، وقدرة المصارف على تجاوز مشاكلها من دون دعم حكومي كاف. وليس هناك حتى الآن من مؤشرات كافية على ان المصارف ستستطيع الخروج من تعثرها في ظل تقلص الدورة الاقتصادية في البلاد، وانحسار النشاط التجاري والعقاري الذي يعاني من الركود الواسع الذي يخيم على القطاعات الاقتصادية بمجملها. ويقول عاملون في سوق العقارات، ان اسعار العقار خسرت اكثر من 40 في المئة من قيمتها السابقة، كما ان في الكويت حالياً عشرات الآف الشقق الفارغة، وآلاف المحال التجارية التي لا تجد من يشتريها او يستأجرها، ولو بأسعار اقل بأكثر من النصف عما كانت عليه قبل الغزو، ويقول تجار انهم يضطرون الى اقفال مؤسساتهم او التخلي عنها، اذا كانت مستأجرة، بسبب الركود الذي يسيطر على السوق، وضعف الحركة الذي بالكاد يغطي كلفة الايجار. وتسعى الحكومة الكويتية الى المباشرة باصلاح الوضع الاقتصادي في البلاد عن طريق زيادة الواردات الضريبية، واسعار الخدمات العامة التي تقدمها، وهي باشرت في الاشهر الاخيرة تطبيق سياسة تخصيص مرشحة للتوسع في السنوات الخمس المقبلة، لتشمل جميع القطاعات الخدمية، مثل الهاتف والمياه والكهرباء والنقل. وحتى في مجال النفط. وتجمع توقعات غير رسمية على ان تعاظم أعباء الديون المتوجبة على الحكومة سيكون حافزاً لها لزيادة وارداتها، وتخفيف الاعباء التي تواجهها نتيجة دعم اسعار بعض السلع والخدمات، وقد يكون اللجوء الى فرض رسوم جمركية على بعض السلع المصنفة كمالية عند دخولها الى البلاد كمؤشر على سياسة مالية جديدة تنوي انتهاجها والتوسع فيها. لقد اتكلت الكويت حتى الآن على العائدات النفطية كمصدر أساسي، لا بل شبه وحيد لواردات الدولة. ولعل اهمية هذه العائدات هي التي دفعت الى اعطاء القطاع النفطي الاولوية المطلقة في اعادة التأهيل والتطوير. الا ان المشكلة التي ستواجهها ستكون محدودية عائدات النفط في سوق يزيد فيها العرض على الطلب، في مقابل ارتفاع تكاليف الانتاج الى ثلاثة اضعاف ما كانت عليه قبل الغزو العراقي للبلاد، نتيجة الرساميل التي احتاجتها عملية اعادة التأهيل والبناء، واصلاح الاضرار التي لحقت بالآبار والمنشآت النفطية في البلاد، وهي اضرار احتاجت حتى الآن الى ما يزيد على 9 مليارات دولار لاصلاحها، وربما احتاجت الى ما لا يقل عن 6 مليارات دولار اخرى لانجاز عملية اعادة التطوير. وتتزايد في الوقت الحاضر اهمية الاصوات المطالبة بإعادة هيكلة الاقتصاد الكويتي. وللمرة الاولى في تاريخ هذا البلد، يظهر مجلس الامة شريكاً كاملاً في معالجة الملف المالي والاقتصادي بعدما كان هذا الملف، قبل سنتين، من الملفات الخاصة بالحكومة. ويعكس هذا التوجه قيام المجلس بتكليف لجان مالية متابعة ملف الاستثمارات الذي كان واحداً من الملفات الاكثر سرية في الكويت. لقد قدرت الخسائر التي سببها الغزو العراقي للكويت، بحوالي 83 مليار دولار، وهي تشتمل على قيمة المنشآت التي ضربها العراقيون، والاضرار التي الحقوها بالاقتصاد الكويتي، وتوقف انتاج النفط. واضطرت الحكومة الكويتية الى مواجهة اعباء ما سمي "ازالة آثار الغزو" في أقرب مهلة ممكنة. الا ان المشكلة الاهم التي تواجهها حالياً تتمثل في كيفية تحقيق التوازن المالي واعادة انعاش الاقتصاد الوطني.