من غير الصعب على زائر الكويت هذه الأيام، ان يلاحظ السيارات الجديدة الفارهة التي تعجّ بها الشوارع، كما ليس من الصعب ملاحظة الطرق السريعة والمنشآت العامة وقد استعادت الرونق الذي كانت عليه قبل العام 1990. وباستثناء بعض البصمات التي لا تزال قائمة في بعض المنشآت وتغير ما يسميه الكويتيون "نكهة" الحياة اليومية، فان لا شيء في هذه الدولة، التي كانت الى سنوات خلت من اكثر دول الخليج انفتاحاً وحيوية، يوحي بأنها تعرضت لما تعرضت له فعلاً في اثناء الغزو العراقي. فالاتصالات التي تدمرت شبكاتها باتت متوافرة بالكامل، وكذلك التيار الكهربائي والمياه وشبكات الطرق، وباستثناء ارتفاع نسبة حوادث السير والاصطدامات القاتلة نتيجة السرعة التي يلجأ اليها الشبان الكويتيون في قيادة سياراتهم، وانتشار ظاهرة اقتناء وحمل السلاح، على رغم الاجراءات الصارمة التي تطبقها اجهزة الامن الكويتية، فان الوضع عاد الى ما كان عليه. ويسود اعتقاد قوي بأن اعادة دورة الحياة اليومية الى مجراها الطبيعي، لم تكن من دون ثمن، ومن دون ثمن كبير، كما يقول احد المصرفيين، فقد اضطرت الحكومة الى تسييل جزء مهم من الاصول والموجودات التي تملكها في الخارج، كما اضطرت الى الاقتراض من المصارف الدولية، والى السحب مما كان يسمى صندوق الاحتياط العام، ومن صندوق الاجيال المقبلة، وهو الصندوق الذي انشئ في فترة الرخاء باقتطاع جزء من عائدات النفط لتمويله. وتقدر الخسائر والنفقات التي تحملتها الحكومة في العامين 1990 و1991، وتحديداً منذ تاريخ الغزو العراقي، وحتى نهاية العام 1991، بحوالي 60 مليار دولار، اشتملت على نفقات الحكومة الكويتية في المنفى، ثم تمويل العمليات العسكرية وتوفير الاعتمادات الكافية لاعادة تأهيل القطاع النفطي، الى جانب الانفاق على قطاعات الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه واتصالات لتسهيل عودة الكويتيين بعد التحرير. ومن المقدر، طبقاً لمعلومات متطابقة، ان الانفاق الذي وفرته الحكومة الكويتية في اثناء فترة الاحتلال، ثم في السنة الأولى للتحرير، تم تمويل النسبة الكبرى منه بواسطة تسييل بعض الاصول التي تملكها في الخارج، اضافة الى الاقتراض في السوق المصرفية الدولية حوالي 5،5 مليار دولار، اضافة الى نحو 10 مليارات دولار على شكل تسهيلات ائتمانية من حكومات صديقة، من بينها الحكومات الاميركية واليابانية وبعض الدول الاوروبية. والى هذه النفقات التي لم يكن هناك بد من مواجهتها، كان على الحكومة الكويتية ان تستوعب النتائج الاقتصادية والاجتماعية التي خلفتها فترة الاحتلال العراقي، سواء على الكويتيين كأفراد، او على الكويتيين كرجال اعمال وشركات، فأقرت برنامجاً لشراء المديونيات الصعبة من المصارف بلغت قيمته حوالي 21 مليار دولار. واعتبر هذا البرنامج، على رغم الخلاف على تفاصيله وأسلوب تطبيقه، حاجة اساسية لانقاذ، ليس فقط القطاع المصرفي وانما كبرى الشركات، وحتى كبار رجال الاعمال الكويتيين من الانهيار. ومع برنامج شراء المديونيات الصعبة اضطرت الحكومة تحت ضغط الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي نشأت بعد الاحتلال، الى تقديم مساعدات متنوعة للكويتيين عن طريق التنازل عن بعض انواع القروض، اضافة الى توفير السلع الأساسية وحتى المحروقات بصورة شبه مجانية، كما فتحت الباب امام تقديم الكويتيين لطلبات تعويض عما لحق بهم من خسائر في اثناء الغزو لتسهيل الحصول على قروض ميسرة وطويلة الاجل. وكان آخر هذه الاجراءات لجوء الحكومة الى تحمل اقساط السيارات التي اشتراها كويتيون وتضررت في اثناء الاحتلال من دون سداد كامل اثمانها. وفي خطوة للمساهمة في حل مشكلة نقص العمالة في الدوائر العامة بعدما تشددت الحكومة في منح تأشيرات الدخول واجازات العمل للاجانب، لجأت الدولة الى زيادة الاجور لموظفي القطاع العام. السمعة الخارجية وتزامنت هذه التقديمات مع انفجار قضية الاستثمارات في الخارج، التي ما لبثت ان تطورت بشكل مأسوي اصاب ليس فقط السمعة الخارجية للبلاد، وانما الوضع المالي العام. اذ تصل قيمة الخسائر التي واجهتها الكويت نتيجة الاختلاسات وسوء الادارة في بعض استثماراتها الحكومية في الخارج، الى حوالي 10 مليارات دولار، من بينها 5 مليارات دولار قيمة الخسائر في اسبانيا وحدها. ولم يكن امام الكويت التي واجهت مشكلة اعادة قطاعها النفطي الى الانتاج، الا ان تواجه مشكلة اخرى تمثلت في التراجع الى حد الانهيار في اسعار النفط في الاسواق العالمية، الامر الذي ادى الى تدني العائدات النفطية، وهي العائدات الوحيدة التي تحصل عليها بنسبة لا تقل عن 30 في المئة. وخصصت الحكومة ما مجموعه 12 مليار دولار على 12 سنة للانفاق العسكري والامني، على ان يتم توفيرها من الاحتياط، الا ان معلومات اخرى تقول ان الحكومة انفقت حتى الآن ما يزيد على 50 في المئة من قيمة الاعتمادات المخصصة للاغراض العسكرية لتمويل الصفقات التي عقدتها، في حين يقدر العجز في الموازنة العامة للعام المالي 1993 - 1994 بأكثر من 30 في المئة من اجمالي الناتج المحلي. وتقول الحكومة الكويتية انها تسعى الى خفض العجز عن طريق تنفيذ سياسة صارمة في الانفاق العام، الا ان ثمة اعتقاداً متزايداً بأن الحكومة التي لا تستطيع التحكم بقيمة العائدات النفطية لاعتبارات خارجية، قد تجد نفسها امام الخيار الوحيد الذي سيكون متوافراً لها، وهو اللجوء الى زيادة الواردات غير النفطية، وتقليص الانفاق على الخدمات، عن طريق تخفيض نسبة الدعم عنها. وكان التقرير الذي أعده صندوق النقد الدولي حول الوضع المالي في الكويت، بناء لطلب الحكومة الكويتية نفسها، انتهى الى التوصية بضرورة اجراء اصلاحات هيكلية في البناء المالي في اقرب فرصة ممكنة. ومن ابرز هذه الاصلاحات التي شدد عليها خبراء الصندوق ضرورة تحرير اسعار المحروقات، خصوصاً اسعار البنزين والطاقة الكهربائية والمياه التي يحصل عليها المستهلك بأقل من 20 في المئة من اسعار كلفتها. كما شدد خبراء الصندوق على ضرورة اللجوء الى سياسة جمركية جديدة تضع حداً لمرحلة الرسوم المتدنية وتفتح الباب امام سياسة جديدة تقوم على فرض رسوم مرتفعة نسبياً على السلع المستوردة من الخارج، على ان تندرج هذه الرسوم وفق تصنيف السلعة، كمالية او اساسية. وتجمع تقديرات متطابقة في الكويت حالياً، على ان الحكومة باتت مقتنعة بضرورة التركيز على زيادة ايراداتها غير النفطية، وبضرورة تقليص الدعم الذي تحصل عليه اسعار الخدمات، الا ان النقاش الدائر المستمر منذ اشهر، يتركز على اختيار الصيغة الاقل اثارة للاعتراضات، وقد يكون التخصيص في احد وجوهه المدخل الى السياسة المالية المتوقعة في الكويت في السنوات القليلة المقبلة.