لا يوحي الاتفاق الذي توصلت اليه الحكومة الكويتية مع مجلس الأمة أخيراً حول برنامج المديونيات الصعبة بأن "سجال" الحكومة مع المعارضة قارب النهاية، أو أن الملف المالي بات على وشك الاقفال. بل على العكس، فإن ثمة اشارات واضحة أخرى الى أن الخلاف مستمر، وان الملف المالي في معظم فصوله، لا يزال مفتوحاً على مصراعيه، بدءاً من ملف الفضائح والاختلاسات، الى ملف التسلح الى اعادة النظر في سياسة التقديمات والمالية العامة وقضايا التخصيص، والنفط والاستثمارات، حتى كادت كل القضايا المطروحة، باستثناء السياسة الخارجية، موضع خلاف وانتقادات متبادلة، لا بل موضع تنازع على المسؤوليات... والصلاحيات. وينظر من الكويت الى هذا الملف الكبير المفتوح، على أنه نتيجة طبيعية ومباشرة لما جرى حتى الآن، فقد خسرت الكويت عشرات بليارات الدولارات، ويرفعها بعض التقديرات الى أكثر من 110 بليار دولار، فيما اضطرت الى ضخ البليارات في استثمارات في الخارج، خصوصاً في اسبانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة لمساعدتها على الاستمرار، في حين ان الخسائر المباشرة نتيجة افلاس بعض الشركات التي تملكها الكويت في الخارج تجاوزت مستوى 10 بليارات دولار، اضافة الى تدني قيمة الاستثمارات الأخرى. واضطرت الحكومة الكويتية، وفق برنامج المديونيات الصعبة، الى ضخ حوالي 23 بليار دولار للمصارف لمساعدتها على مواجهة ديون مترتبة على حوالي 10 آلاف كويتي، يقدر أن نسبة 10 في المئة منهم حصلت على 90 في المئة من الديون، فيما توزعت ال 10 في المئة على 90 في المئة من صغار المدينين. وعندما توصلت الحكومة الى تسوية مع مجلس الأمة، تبين ان الاعباء على الدولة ارتفعت نتيجة اعطاء صغار المدينين تسهيلات أوسع، بحجة مساواتهم بكبار المدينين. واللافت في موضوع الخسائر في الخارج، كما في موضوع المديونيات الصعبة، ان التحقيقات التي جرت حتى الآن لم تؤدِ الى نتائج محددة، لا بل تحولت الى موضوع جديد للخلاف، اذ اكتفت الحكومة باجراء التحقيقات الادارية والقضائية، وتغيير المشرفين على مكتب الاستثمار، الذراع المالية للدولة في الخارج، الى جانب نقل مقره الى الكويت، بعدما كان طوال السنوات الماضية في لندن. الا ان اخضاع أعماله لمزيد من الرقابة لم يحصل. كما ان المطالبات النيابية بملاحقة المتهمين بعمليات الاختلاس الضخمة لم تتحقق. والى ملف الفضائح المالية والاختلاسات الذي لا زال مفتوحاً، وقد يتوسع لشمول استثمارات كويتية خارج أوروبا الغربية، تبرز قضية العجز في الموازنة العامة، وموضوع الديون التي بلغت حتى الآن حوالي 33 بليار دولار. ومن المتوقع، طبقاً لتقديرات متطابقة، الا يقل العجز السنوي في الموازنة العامة عن 5 أو 6 بليارات دولار سنوياً في خلال الأعوام الخمسة المقبلة، على رغم ارتفاع قيمة العائدات النفطية الى حوالي 11 بليار دولار. ويرتبط هذا العجز المتنامي باعتبارين على الأقل: الأول نمو الانفاق العسكري الذي تصل نسبته الى حوالي 30 في المئة من الانفاق العام، ويثير مثل هذا الانفاق تساؤلات واسعة عن جدوى اقامة ترسانة عسكرية كبيرة ومتطورة، يقول بعض المعارضين انها لم تمنع الغزو العراقي، أو حتى لم تؤخره. والاعتبار الثاني ان ارتفاع حجم محفظة الديون على الحكومة سيزيد من الاعباء المالية المترتبة على الموازنة العامة. ويقدر ان حصة الديون من الانفاق العام يمكن أن تصل الى 25 في المئة، أي ما قيمته 3 بليارات دولار سنوياً يجب أن تدفعها الدولة لسداد الالتزامات المالية المترتبة عليها. وإذا ما أضيفت الى هذه النسب، النسبة التي يحتاجها الانفاق على الرواتب، وهو يمثل حوالي 30 في المئة، فإن المبالغ المتبقية للحكومة لانفاقها على قطاعات الخدمات الأساسية، وتطوير البنية الاقتصادية تصبح أقل بكثير مما هو مطلوب. وتقول الحكومة الكويتية انها تتجه الى تنفيذ سياسة تخصيص واسعة في مجالات الكهرباء والمياه والاتصالات لتحسين مستوى الخدمات وتقليص أكلافها، الا أن الأصح هو ان الدولة تحاول تخفيض كلفة التقديمات الاجتماعية والمعيشية التي درجت على تقديمها لمواطنيها من خلال تخفيض أكلافها من جهة، وتخفيض الدعم الذي يمكن ان تقدمه الدولة لهذه الخدمات من جهة ثانية. ومن الملاحظ ان ثمة فوارق أساسية بين ما هو عليه الوضع في دول خليجية أخرى من حيث امكانات تنامي مساهمة القطاع الخاص في عملية التنمية وتوفير الاستثمارات اللازمة وبين ما هو عليه الوضع في الكويت التي لا تزال تعاني من كثافة التحويلات الى الخارج، ومن محدودية المساهمة التي يقوم بها القطاع الخاص في البلاد، والذي يبدو أنه بات في ظل الوضع الحالي أكثر حذراً من اتجاهات المستقبل. ويلاحظ مراقبون اقتصاديون ان الحكومة الكويتية التي تحتاج الى برامج متشددة في مجال ضبط الانفاق العام، تسعى الى التقليل من انعكاسات مثل هذه السياسة على الأوضاع المعيشية في البلاد وعدم اعطاء المعارضة مبرراً لاجتذاب المتضررين من تراجع التقديمات الحكومية. وينظر الى خروج الكويت من التزام الحصة المقررة لها في "أوبيك" على أنه يعكس الحاجة المتزايدة للحكومة الكويتية لرفع قيمة عائداتها النفطية نتيجة توسع اعبائها المالية، وبالفعل، وللمرة الأولى في تاريخها تظهر الكويت مثل هذا التمسك بزيادة انتاجها النفطي، على رغم اعتراض الأعضاء الآخرين في أوبيك. الا ان ثمة تفهماً غير معلن للأوضاع المالية في الكويت، اضافة الى التفهم للأوضاع التي نشأت نتيجة تدمير آبار ومرافق النفط والخسائر التي تكبدها هذا البلد طوال 18 شهراً. ومع ذلك، فإن تقديرات متطابقة تقول ان الاقتصاد الكويتي مرشح للبقاء في دائرة الركود لسنوات أخرى. فالقطاع الصناعي، باستثناء الصناعات البتروكيماوية والصناعات المتصلة بقطاع النفط، لا ينتج الا جزئياً وبنسبة تصل الى نصف ما كان ينتجه قبل الغزو العراقي. كما ان الحركة التجارية في البلاد لا زالت دون مستوى ما كانت عليه قبل سنوات. ويعاني قطاع العقار من انهيار كبير في الأسعار دفعت العديد من الاستثمارات الى التحول الى قطاعات أخرى أقل تأثيراً بالكساد. وتقول تقديرات حكومية ان ما يصل الى 50 في المئة من المساكن في بعض المناطق لا زال خالياً، في اشارة مباشرة الى تأثر هذا القطاع بتراجع العمالة الأجنبية في البلاد، بعدما تدنى عدد الأجانب في الكويت من 1.200 مليون شخص قبل الغزو الى حوالي 400 ألف في الوقت الحاضر، معظمهم من جنسيات آسيوية تتميز بمحدودية الانفاق. ويعترف وزير المال الكويتي ناصر الروضان بتفاقم المشكلة المالية والاقتصادية في البلاد، الا ان الحكومة الكويتية تسعى لكسب الثقة بتطور الأوضاع في البلاد بحيث لا تؤثر المشاكل الاقتصادية والمالية على السمعة العامة للبلاد كواحدة من أكثر دول الخليج العربي استقراراً.