قمة الدول الصناعية السبع التي عقدت في ميونيخ في وقت سابق هذا الشهر قدمت البرهان على تفاوت المواقف حول القضايا الاقتصادية والسياسية الرئيسية في العالم، ولم يكن هناك اتفاق سوى على تنفيذ برنامج المعونة لروسيا وتقديم المليار الأول من 24 مليار دولار يفترض ان تشكل في مجموعها حجم المعونة المطلوبة للتأثير ايجاباً على الاوضاع الاقتصادية في روسيا. وهذا الاتفاق اليتيم بين الدول السبع تحقق بسبب حاجة هذه الدول الى توسيع تجارة كل منها مع روسيا وحاجة المجموعة للتأكد من حلحلة قضية الديون الروسية البالغ مجموعها بين 77 و80 مليار دولار، منها على الاقل 25 مليار من الديون لألمانيا الغربية. اجتماعات الدول الصناعية السبع، والتي تعقد مرتين في السنة، بدأت في اواسط السبعينات بناء على دعوة من الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان، واستندت اسباب الدعوة للقاء الدوري في حينه الى ثلاثة معطيات: اولاً، الغاء ارتباط سعر صرف الدولار بأية مقاييس متعلقة بسعر الذهب وترك سعر الدولار لعوامل السوق، وكان هذا الاجراء أقر من قبل نيكسون في وقت كان فيه حجم الاقتصاد الاميركي لا زال اكبر بكثير من حجم الاقتصاد الاوروبي، وكان الاقتصاد الياباني على رغم نشاطه بعيداً عن تحقيق معدلات دخل فردية موازية لمستويات دخل الاميركيين، وبالتالي كانت الحاجة ملحة للتشاور مع الاميركيين حول سياسات الفائدة وأسعار تحويل العملات. وأفضل مجال للتحاور بهدوء وسرية تمثل في اجتماع رؤساء الدول الصناعية الكبرى محاطين بوزراء ماليتهم، وبالفعل عقد اول اجتماع لممثلي الدول السبع في فرساي في فرنسا واعتبر الرئيس ديستان هذه الاجتماعات بمثابة صمام امان للاقتصاد العالمي. ثانياً، ادى ارتفاع اسعار النفط بقوة اواخر 1973 وأوائل 1974 من 2،2 دولار للبرميل الى 11.2 دولار للبرميل الى احداث صدمة في موازين مدفوعات البلدان الصناعية التي هي البلدان الاساسية لاستيراد واستهلاك النفط، وكان على قادة هذه البلدان التشاور في وسائل مواجهة دول الاوبك، وهذا الامر اخذ طريقه في اجتماعات الدول السبع، وفي الوقت ذاته، وعلى الصعيد العملي اليومي تأسست وكالة الطاقة الدولية التي شملت عضويتها الدول السبع وغالبية الدول الصناعية من اجل اقرار سياسات عملية لاختصار الاعتماد على النفط، وتطوير البدائل، وكبح قدرة البلدان المنتجة على التحكم بأسعار النفط. ثالثاً، اجتماعات الدول الصناعية السبع حصلت نتيجة مبادرة اوروبية لأن الاوروبيين ادركوا مع بدء تنفيذ اجراءات تحرير التجارة بين بلدان السوق المشتركة ان عليهم الحيلولة دون ابتعاد اميركا الشمالية الولاياتالمتحدة وكندا عن التعامل مع اوروبا، كما عليهم الانفتاح على اليابان البلد الآسيوي السريع التطور والمهيأ لاحتلال موقع مميز في العالم الصناعي، والاوروبيون شكلوا النسبة الكبرى من الدول السبع حيث تمثلوا بايطاليا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وبقية الدول السبع تمثلت بالولاياتالمتحدة وكندا واليابان. منذ اواسط السبعينات وحتى الآن حققت الدول السبع نمواً كبيراً ولم تعد قضية اسعار النفط تشغل هذه الدول، فهذه الاسعار التي تتراوح بين 18 و20 دولاراً للبرميل الواحد للدول المنتجة تعتبر اسعاراً متدنية قياساً على المستويات التي بلغتها عام 1979 35 دولاراً للبرميل، وما يشغل الدول الصناعية حالياً في مجال استهلاك الطاقة هو تأمين مصادر الطاقة من دون تلويث الاجواء حيث ان الاهتمام بالبيئة اصبح عاملاً مهماً في عالم السياسة في الدول الصناعية. ان المواقف السياسية من اسعار العملات وسياسات التجارة والتصنيع، والتي كان كانت من اهم اسباب محاولة جمع زعماء الدول السبع دورياً، لا زالت على حالها من التنافر بين الدول الاعضاء، بل ان اسباب التباعد اصبحت اقوى من السابق بعد التحولات التي طرأت منذ اواسط السبعينات منذ اصبحت هيكلية الانتاج مختلفة بين الدول السبع، كما تعدلت اوضاع الموارد المقارنة بصورة جذرية فيما التوجهات السياسية غير متطابقة، على رغم نتائج حرب الخليج وما سمي بالنظام الدولي الجديد الذي ظهر وكأنه نظام احادي القيادة معقود للولايات المتحدة. منذ سنتين ومن تاريخه برزت تطورات عدة مؤثرة على توازن القوى داخل مجموعة الدول السبع. على الصعيد الاوروبي تصاعد الضغط لتحقيق الوحدة الاقتصادية بين دول السوق المشتركة بحلول اول 1993، وهذه الوحدة تحقق نظرياً مستوى للانتاج يفوق حجم الناتج القومي الاميركي ولا يعود هنالك ما يمنع تخطي اوروبا لاميركا على صعيد الاقتصاد العالمي سوى فقدان وحدة النقد بين الدول الاوروبية، وقد سعى جاك ديلور لتحقيق اتفاق يكفل وحدة النقد بحلول 1997، لكن هذا الاتفاق، بل حتى اكتمال السوق بشكل جذري، لم يعد مؤكداً بفعل المواقف المعلنة في العديد من البلدان الاوروبية، خصوصاً فرنسا وألمانيا، وهما البلدان النواة للوحدة الاقتصادية والسياسية الاوروبية. وضمن المجموعة الاوروبية بادرت المانيا الغربية الى تعزيز تميزها الاقتصادي باتخاذ مواقف سياسية منفردة كانت في السابق تبدو خارجة عن طموحها فأعلنت الوحدة مع المانياالشرقية من دون استشارة حلفائها ووفرت المعونات الكبيرة للاتحاد السوفياتي من دون حماس اميركي، والتزمت بسياسة نقدية صارمة لمنع التضخم نتيجة ضخ المارك الالماني بكميات ضخمة الى المانياالشرقية. وخلال 1991 وبعد فورة حرب الخليج والمنافع المباشرة التي نتجت عنها للولايات المتحدة بدأت تظهر مؤشرات على تباطؤ الاقتصاد الاميركي وترسيخ معالم الركود في مختلف مجالات الانتاج، بل اكثر من ذلك ظهر بوضوح ان اسواق الثمانينات تسبب في ازمات ضخمة، منها ازمة مؤسسات الادخار والتمويل التي خلفت عجزاً يتجاوز 400 مليار دولار، واصبح من المستحيل على السلطات الاميركية كبح عجز الموازنة فبذل الرئيس الاميركي جهده، لتخفيض الفوائد على الدولار أملاً بتحريك الاقتصاد، فانخفضت الفوائد من دون ارتفاع معدلات النمو والانفاق الى مستويات مقنعة باستمرار النجاح، وبالتالي جاء الرئيس الاميركي - وهو الذي يخوض معركته الانتخابية القاسية استناداً الى حال الاقتصاد الاميركي - الى اجتماع الدول السبع وهو يأمل من المانيا بتخفيض معدلات فوائدها وتوسيع عجزها التجاري لتنشيط الاقتصاد الاميركي، كما كان يأمل ان يتبنى اليابانيون برنامجاً لتنشيط اقتصادهم وزيادة الاستهلاك والاستيراد، والالتزام بتقديم مبالغ كبيرة من المعونات للروس حيث القدرة الاميركية في هذا المجال محدودة. تعددية القيادة العالمية الاقتصادية وجد الرئيس بوش في اجتماعات الدول السبع ان قيادة النظام العالمي الجديد ليست معقودة للولايات المتحدة وحدها لأن العالم اتجه نحو التنافس الاقتصادي بدلاً عن التنافس العسكري، وفي هذا المجال الاسبقية الاميركية اضعف منها في المجال العسكري، فالألمان وهم اصحاب ثالث اكبر اقتصاد عالمي بعد الاقتصاد الاميركي والياباني، غير مستعدين لتخفيض معدلات الفوائد على المارك وغير مستعدين لتحفيز الاستهلاك لأنهم يخشون التضخم اكثر من اي شيء آخر، وفي الوقت ذاته انجز الألمان موازنة حصروا فيها العجز في نسب بسيطة، ولم يعد بإمكان الاميركيين الذين يبلغ عجز موازنتهم 400 مليار دولار ونسبة تفوق 25 في المئة من مجمل ارقام الموازنة مطالبة الألمان بأية التزامات، وبالتالي اضطر بوش ووزير ماليته الى الامتناع عن مطالبة الألمان بأية التزامات اضافية بعد حصر عجز موازنتهم. وبالمقابل كان اليابانيون مطالبين بأمرين من الولاياتالمتحدة: اقرار برنامج لتوسيع الاستهلاك والاستيراد، وهذا ما فعلوه، والالتزام بمعونات كبيرة لروسيا. وهذا ما لم يفعلوه. والموقف الياباني يعبر هو الآخر عن رغبة اليابان في تبني قرارات سياستها الخارجية بنفسها من دون خوف او مساومة، ومن هذا المنطلق يرفض اليابانيون المشاركة في الجهود الجماعية لمساعدة الروس، فهم يكررون استعدادهم لتقديم مساعدات ضخمة لروسيا في حال انسحاب القوات الروسية من جزر الغوريل وإعادتها الى السلطة اليابانية، ولا شك ان هذا سيتحقق في المستقبل غير البعيد لأن الاهمية العسكرية التي يعقدها الروس على هذه الجزر انخفضت بشكل ملحوظ بعد الاتفاقات ما بين الروس والاميركيين على تخفيضات الاسلحة الاستراتيجية، وفي الوقت ذاته يدرك الرئيس الروسي يلتسين ان بامكانه حيازة بين 20 و30 مليار دولار من المعونات اليابانية مقابل الانسحاب، ومساعدات على هذا المستوى تبرر، حتى استراتيجياً - انسحاب الروس من جزر الغوريل. وقد عزز اليابانيون موقفهم على صعيد المساعدات في وجه المطالب الاميركية، حينما اشاروا الى ان المساعدات التي يقدمونها لبقية العالم تفوق، بالقيمة، المساعدات الاميركية المقررة لهذا العام والتي تبلغ 4،13 مليار دولار فقط، هذا على رغم ان حجم الناتج الياباني يوازي فقط 60 في المئة من حجم الناتج الاميركي، وبالتالي وقياساً على عدد اليابانيين توازي مساعدات اليابان ضعف مساعدات الاميركيين. وأخيراً اشار اليابانيون في معرض شرحهم لبرنامج تنشيط الاستهلاك والاستيراد الى ان معدل النمو المتوقع للاقتصاد الياباني يوازي عام 1992 بين 5،2 و3 في المئة، ومع ان هذا المعدل منخفض نسبياً لليابان الا انه يبقى معدلاً جيداً تسعى لتحقيقه الولاياتالمتحدة، وهو معدل يفوق متوسط معدل النمو المتوقع للدول الصناعية والذي تقدره منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بما بين 9،1 و2،2 في المئة. الاحراج الاميركي لقد وجد الاميركيون انفسهم محرجين على اكثر من صعيد في اجتماعات ميونيخ، والمجال الوحيد الذي وجدوا ان لهم فيه مجالاً للحركة تمثل بانتقاد السياسة الزراعية لفرنسا في نطاق تبادل المنتجات الزراعية بين الولاياتالمتحدة والسوق المشتركة. وبالمقابل وفي مجال معالجة الحرب في يوغوسلافيا لم يجد الاميركيون من مناصرين لارسال قوات تحت راية الاممالمتحدة، سوى الفرنسيين، فالانكليز حلفاء اميركا التقليديون ابتعدوا عن اي ارتباط عسكري بالنسبة الى الوضع في يوغوسلافيا، وبالتالي فقد نتج عن اجتماعات ميونيخ بلورة لأسباب الخلاف اكثر مما نتج ارضية مشتركة للتغلب على الخلافات. بعد سنوات قد يظهر للمراقبين ان اجتماعات ميونيخ في تموز يوليو 1992 كانت موعد اعلان المانياواليابان استقلالهما النهائي في مجال السياسة الخارجية. ولعل البارقة الوحيدة، والتي توفرت بمبادرة اميركية، تجلت في دعوة روسيا لتكون العضو الثامن في المجموعة، وهذه قضية كبيرة الاهمية، وان ظهر وكأنها روتينية في الوقت الحاضر. ان روسيا هذه التي تعامل وكأنها الشقيق المعاق تتمتع بثروات طبيعية تقارب ما كان متوافراً للولايات المتحدة، كما تتمتع بتكنولوجيا متقدمة في العلوم الفضائية والنووية وطاقات هائلة في مجال البرمجة الالكترونية، فيما يتمتع شعبها بحس وطني ويحمل اعتزازاً حضارياً، وبعد سنتين او ثلاث سنوات حينما تتجاوز روسيا مخاض التحول من نظام مركزية القرار الذي كان يسعر انتاج وتسويق 260 الف سلعة وخدمة، الى نظام تطغى فيه الحرية الاقتصادية وروح المنافسة، لا بد ان تفاجئ الشركاء السبعة الآخرين بما لديها من طاقات. اليوم، وبسبب الحاجة، تبيع روسيا الذهب والغاز والاخشاب بأسعار مخفضة، كما، وربما هنا بيت القصيد، تبيع التكنولوجيا المتقدمة بأسعار بخسة، وحينما تصبح روسيا ضمن الاسواق الدولية في مجال الشراء والبيع لن تعود مضطرة الى تسويق نتاج الادمغة بأثمان بخسة، كما لن تبقى محتاجة لبيع الذهب والالماس والغاز بأسعار متدنية، وعندها تكون روسيا بين الدول الأربع الاولى في مجموعة الدول الثماني التي تمخضت عنها اجتماعات ميونيخ. * خبير اقتصادي لبناني.