تعترف الواقعية الاميركية الجديدة بأن منطقة الخليج العربي اكثر اهمية لأميركا من اسرائيل. يواجه الرئيس جورج بوش تحديات متنوعة قد تحول دون اعادة انتخابه رئيساً لولاية ثانية، الأمر الذي سيعرض العالم العربي لانتكاسة، ذلك ان الرئيس الاميركي استفاد من نتائج حرب الخليج للضغط على اسرائيل كي تبدأ مباحثات السلام مع الاطراف العربية، ومن هنا فان أقسى التحديات التي تواجه بوش هو موقف اللوبي الاسرائيلي منه في مرحلة التحضير للانتخابات المقبلة. وتبدو قوة الضغط الاسرائيلي مترددة حتى الآن، في اتخاذ موقف قاطع وصريح من جورج بوش، علماً بأن وسائل الاعلام المتعاطفة، عادة مع اسرائيل تندد، منذ مدة، بمواقف الرئيس الأميركي، خصوصاً موقفه من الضمانات لقرض الپ10 مليارات دولار التي يفترض ان تستخدمها اسرائيل لايواء المهاجرين اليهود. ويعود الانتقاد الخجول، بدل التنديد الصريح بالرئيس الاميركي، الى سببين اثنين، الأول حاجة اسرائيل الشديدة للضمانات نظراً لتردي اوضاعها الاقتصادية وارتفاع نسبة البطالة، اضافة الى صورة المجتمع الاسرائيلي التي اصبحت متخلفة مع ارتفاع عدد الوافدين من المعوزين والمعتادين على نسق حياتي مختلف عن النسق الغربي والأوروبي الذي تسعى اسرائيل الى تصويره بأنه الواقع المسيطر لديها. السبب الثاني للانتقاد الخجول ادراك بعض القيادات الاسرائيلية أن الزعامات اليهودية الأساسية في الولاياتالمتحدة لم تعد تناصر اسرائيل بشكل كامل او من دون احتساب النتائج المحلية والدولية في مجال التعاطف مع الطلبات الاسرائيلية. هذا التحسس لدى قيادات اسرائيلية بأن المناخ السياسي في الولاياتالمتحدة لم يعد يسمح بالضغط الشديد على اي رئيس اميركي لتأييد مواقف الحكومات الاسرائيلية، يعود جزئياً الى تعديل الموقف الاستراتيجي الاميركي من دول الشرق الاوسط بعد حرب الخليج، فالاميركيون قادوا الحرب ولم يسمحوا لإسرائيل بالمشاركة فيها موفرين لها الحماية بصواريخ باتريوت، بعد النصر وجد الاميركيون انهم المرجع القوي في الشرق الاوسط، فيما اصبحت دول الخليج بمواردها النفطية والغازية ومواقفها السياسية، اكثر اهمية للولايات المتحدة من اسرئيل، وهذا الواقع القديم عملياً، والجديد في الحس السياسي الاميركي يميل، مع انقضاء الوقت، نحو تعزيز العلاقات الخليجية - الاميركية على حساب العلاقات السياسية الاسرائيلية - الاميركية. اسرائيل النووية ان التوجه الدولي الحديث والمتسارع نحو تخفيض الترسانة النووية لدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً والولاياتالمتحدة وبعض الدول الغربية، كفرنسا وبريطانيا، لا بد ان يؤدي في وقت غير بعيد الى بحث قضية الترسانة النووية الاسرائيلية، والتي تقدر بحوالي 200 رأس نووي، فأميركا وروسيا لن تستطيعا مطالبة فرنسا وبريطانيا بتخفيض مخزونهما النووي، وتقييد العراق وسورية ايضاً في هذا المجال من دون ان تطلبا من اسرائيل ذلك، باعتبار ان اسرائيل وجدت اصلاً لإيواء يهود أوروبا الذين عانوا من سياسات لا أخلاقية، وفي هذه الحالة ليس من المعقول ان تمتلك اسرائيل 200 قنبلة نووية تهدد مائتي مليون عربي عاجزين عن مواجهة هذا الخطر. ان جميع هذه الأسباب توحي بأن التشدد الاسرائيلي لا يمكن استمراره دولياً دون استثارة ردود فعل قد تفرض على اسرائيل مصاعب اقتصادية وأمنية، وبالتالي اذا اراد الاسرائيليون الحفاظ على مقدار من التواصل السياسي الدولي فلن يستطيعوا جعل معركة الرئاسة الاميركية مناسبة يفرضون فيها قرارهم على الرئيس الحالي او على اي رئيس آخر في الخريف المقبل. الصعوبات الاقتصادية ويبقى ان صعوبات جورج بوش الحقيقية هي في المجال الاقتصادي، ويمكن تعداد اهم هذه الصعوبات على الوجه الآتي. تردي اوضاع القطاع المالي، ما قد يؤدي الى انهيار عدد كبير من مؤسسات الادخار والتمويل ومشارفة عدد من المصارف على التعثر، ويمكن ربط هذه التطورات التي برزت خلال السنوات الثلاث المنصرمة بسياسات ريغان - بوش التحريرية التي ألغت الكثير من القيود على عمل المصارف ومؤسسات الادخار والتمويل، وكان هدف ريغان وبوش زيادة المنافسة في هذا القطاع، فكانت النتيجة توسع التصرفات العشوائية، وطغيان حركة شراء الشركات لبعضها البعض، بتسهيلات مالية ضخمة من دون حدوث زيادة فعلية في التوظيف او في قواعد الانتاج. ولقد تجلت المحصلة في تدني قيم الاملاك العقارية، وتكاثر الافلاسات وتبدد القناعة بأن السوق المالية الاميركية، إضافة لكونها الأوسع، هي الأكثر صلابة على الصعيد الدولي، وبالتالي اصبح ارث مؤسسات الادخار والتمويل والبنوك المتعثرة 500 مليار دولار من العقارات التي تبحث عن المشترين لقاء اسعار بخسة، وفي الوقت ذاته تبدد الحماس للاستثمار في سندات الحكومة الاميركية لقاء فوائد منخفضة. ازدياد عجز الموازنة الى ما يساوي 350 مليار دولار في الوقت الذي كان يفرض فيه التشريع الاميركي حصر العجز وتحقيق التوازن بين الانفاق والعائدات. استمرار عجز ميزان المدفوعات حتى على مستوى يقل بنسبة 40 في المئة عما كان عليه قبل ثلاث سنوات. وضوح الفارق بين القدرات السياسية والعسكرية الاميركية وبين الموارد الاقتصادية والمالية المتاحة للبلاد، فعلى صعيد القدرات السياسية والعسكرية استطاعت الولاياتالمتحدة قيادة حرب الخليج بنجاح، وحصلت على التأييد الدولي لتوجهاتها، واحتلت مركز القيادة في النظام العالمي الجديد، لكن مسؤولية تطبيق هذا النظام، على صعيد التعامل الدولي المبني على مبدأ المفاوضات لا الحروب، تستوجب موارد اقتصادية غير متوفرة للولايات المتحدة، والدليل على هذا التناقض الالتزامات تجاه اسرة الدول المستقلة، فالمعونة الاميركية هي في معظمها ضمانات لقروض، وهو نظام معمول به منذ اوائل الخمسينات، وفي المقابل فان المعونات الالمانية واليابانية ومعونات السوق المشتركة، هي في مجملها جديدة المحتوى، كما هي أغزر وأوفر بكثير من المساعدات الاميركية. لقد ادرك الاميركيون وهم اسياد النظام الدولي الجديد، المستند الى قدرات تقديم المعونات والتسهيلات، انهم في هذا المجال الحيوي عاجزون عن التشبه بألمانيا، ومقارعة السوق المشتركة، ومنافسة اليابان، ولا شك ان هذا الادراك أسهم في تعميق ازمة ثقة الاميركيين بمستقبلهم الاقتصادي. منافد أمل على رغم جميع هذه الاعتبارات والمؤشرات لا يجوز اعتبار الاقتصاد الاميركي قاصراً ومتعثراً في المستقبل البعيد، فهنالك دلائل واضحة على انجازات قد تجعله من جديد، قبل نهاية التسعينات، الاقتصاد الأبعد اثراً في مستقبل العالم. ويمكن للرئيس بوش ان يستند الى هذه النظرة التفاؤلية، في معركته الرئاسية، وسنعرض لأهم اسباب التفاؤل المستقبلي قبل استعراض برنامج بوش لانعاش الاقتصاد الذي اعلنه في رسالته الى الأمة مساء 28 كانون الثاني يناير الماضي. ان الولاياتالمتحدة لا تزال المجتمع الاقتصادي الأكبر بين مجموعة الدول الصناعية المتقدمة، كما هي البلد الأكثر قدرة على انتاج فائض غذائي يفوق حاجات مواطنيها ويكفي لتغطية 30 في المئة من الحاجات الغذائية العالمية، كذلك، وربما بدرجة اهم، حققت الولاياتالمتحدة نمواً مستمراً في انتاج القوى العاملة في نطاق الصناعات التمويلية خلال الثمانينات، فقد تجاوز معدل نمو الانتاجية هذا ما تحقق في اليابانوالمانيا، الامر الذي يعني ان طاقة الصناعة الاميركية على المنافسة في سوق التصدير وفي مجال كفاية الحاجات المحلية تعززت خلال السنوات الست المنصرمة. ولعل افضل دليل على ما يعنيه هذا التحول هو في موقع الولاياتالمتحدة في مجال التصدير دولياً، فهي كانت تحتل قبل ثلاث سنوات الموقع الثالث بعد اليابانوالمانيا، وعام 1991 تجاوزت صادرات الولاياتالمتحدة البالغة 430 مليار دولار، صادرات اليابان وصادرات المانيا. ان الجزء الاكبر من المصاعب الاقتصادية الاميركية الحالية يعود الى الاسراف في الاستهلاك وتآكل المدخرات خلال حقبة الثمانينات، وبالمقابل نشهد توسعاً للاستهلاك في المانيا، وربما في اليابان قريباً، قد يحمل للعملاقين الاقتصاديين الجديدين متاعب اقتصادية ما بعد خمس او عشر سنوات. والولاياتالمتحدة لديها ذخر للاقتصاد في نفقاتها الدفاعية لا يتوافر لأية دولة صناعية اخرى، بل على العكس فالنفقات الدفاعية لألمانيا واليابان لا بد وان تتزايد مع توسيع دورهما السياسي الدولي، فيما تستطيع الولاياتالمتحدة تخفيض نفقاتها الدفاعية من 6 في المئة من مجمل الدخل القومي الى 2 في المئة، لكن هذه العملية تتطلب بعض الوقت وتحتاج الى توجه جديد لدى القيادة الاميركية، وقد أعلن جورج بوش خفض النفقات العسكرية بمعدل 10 مليارات دولار سنوياً على مدى خمس سنوات، وبإمكان الولاياتالمتحدة زيادة هذا الخفض بنسبة 50 في المئة، وعلى ما يبدو فان خطوات يلتسن تهدف الى تأمين الأرضية السياسية لهذا التوجه، بسبب حاجاته الملحة لخفض نفقات التسلح الروسي بسرعة اكبر. وتفتح حملة تخفيف الاخطار النووية الباب واسعاً امام الولاياتالمتحدة لتحقيق وفورات لا يمكن تقديرها حالياً، ولا شك ان هذه الحملة ستتعزز بتوجهات بيئوية تفرض اكلافاً اجتماعية كبيرة على المجتمعات الصناعية، والولاياتالمتحدة، بسبب اتساع رقعتها وثبات عدد سكانها، لا ترزح تحت مستوجبات بيئوية كالتي تواجهها اليابانوالمانيا وروسيا. لقد تبنى الرئيس الاميركي برنامجاً يبدو محدوداً للانعاش الاقتصادي، فهو طالب باعفاءات ضريبية لمن يشترون منازل جديدة، بهدف تحريك قطاع البناء الذي يعتبر حيوياً، واقترح مساعدات للعائلات الفقيرة، واعفاءات ضريبية على الارباح الترسملية، وهذه تنشط الاستثمارات في سوق الاسهم، كما في المجال العقاري والصناعي، وأرفق كل ذلك بخفض للانفاق العسكري. ويمكن القول بأن برنامج بوش لم يذهب بعيداً في التوجه المطلوب، لكنه بالتأكيد تحرك ايجابي، وهو لو شاء التخلي عن التزامه بعدم فرض ضرائب جديدة لكان فرض رسوماً على استهلاك وقود السيارات تكفي لتغطية جزء ملحوظ من عجز الموازنة، لكن بوش مقتنع مع مستشاريه بأن الاقتصادي الاميركي مقبل على استعادة نموه مع حلول الصيف، وهنالك ما يوحي بأن تقديره صحيح، وقد يكون هذا الامر، اضافة الى برنامجه الاقتصادي وضعف الديموقراطيين وتردد اللوبي الاسرائيلي في محاربته بوضوح، من أسباب تمتعه بفرص جيدة للنجاح في الانتخابات المقبلة، ما لم تطرأ متغيرات سياسية او صحية تقلب هذه الصورة. * خبير اقتصادي لبناني