إطلاق 80 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الأمير محمد بن سلمان    انطلاق المؤتمر الدولي لأكاديميات الشرطة    السعودية الأولى خليجياً وعربياً في مؤشر الأداء الإحصائي    «الجناح السعودي».. ينطلق في «الصين الدولي للطيران والفضاء»    وزير الخارجية: حل الدولتين السبيل الأوحد لتحقيق السلام    «الرابطة» تُرحِّب بقرارات القمّة العربية والإسلامية    رئيس بولندا يشكر خادم الحرمين وولي العهد    الفرج يقود الأخضر أمام «الكنغر»    إحالة ممارسين صحيين للجهات المختصة.. نشروا مقاطع منافية لأخلاقيات المهنة    إسناد التغذية والنقل ل«جودة الخدمات» بإدارات التعليم    «التقني»: إلغاء إجازة الشتاء وتقديم نهاية العام    وزير الداخلية يرعى حفل جامعة نايف وتخريج 259 طالباً وطالبة    وزير الحرس الوطني يفتتح قمة الرياض العالمية للتقنية الحيوية    في بيتنا شخص «حلاه زايد».. باقة حب صحية ل«أصدقاء السكري»    ماذا لو نقص الحديد في جسمك ؟    المملكة تحذر من خطورة تصريحات مسؤول إسرائيلي بشأن فرض سيادة الاحتلال على الضفة الغربية    الأهلي يطرح تذاكر مواجهته أمام الوحدة في دوري روشن    غارات إسرائيلية عنيفة على ضاحية بيروت    الذهب يستقر قرب أدنى مستوى في شهر مع انتعاش الدولار    سعود بن نايف يستقبل أمين «بر الشرقية»    أمير الرياض يستعرض إنجازات «صحية تطوع الزلفي»    أمير القصيم يطلق مبادرة الاستزراع    تطوير وتوحيد الأسماء الجغرافية في الوطن العربي    الاتفاق يعلن اقالة المدير الرياضي ودين هولدين مساعد جيرارد    مقتل ضابط إسرائيلي وأربعة جنود في معارك بشمال غزة    نقلة نوعية غير مسبوقة في خدمة فحص المركبات    استعادة التنوع الأحيائي في محمية الأمير محمد بن سلمان    "الحج المركزية" تناقش موسم العمرة وخطط الحج    رحب بتوقيع" وثيقة الآلية الثلاثية لدعم فلسطين".. مجلس الوزراء: القمة العربية والإسلامية تعزز العمل المشترك لوقف الحرب على غزة    فوبيا السيارات الكهربائية    «نأتي إليك» تقدم خدماتها ب20 موقعًا    مجلس الوزراء يجدد التأكيد على وقوف المملكة إلى جانب الأشقاء في فلسطين ولبنان    ولادة أول جراء من نمس مستنسخ    الأخضر يحتاج إلى وقفة الجميع    المنتخب السوداني يسعى لحسم تأهله إلى أمم أفريقيا 2025    «طريق البخور».. رحلة التجارة القديمة في العُلا    السِير الذاتية وتابوهات المجتمع    أحمد محمود الذي عركته الصحافة    وفاء الأهلي المصري    للإعلام واحة    إضطهاد المرأة في اليمن    يسمونه وسخًا ويأكلونه    يأخذكم في رحلة من الملاعب إلى الكواليس.. نتفليكس تعلن عن المسلسل الوثائقي «الدوري السعودي»    «سامسونغ» تعتزم إطلاق خاتمها الذكي    «الغذاء»: الكركم يخفف أعراض التهاب المفاصل    التحذير من تسرب الأدوية من الأوعية الدموية    الرهان السعودي.. خيار الأمتين العربية والإسلامية    أسبوع معارض الطيران    جمعية يبصرون للعيون بمكة المكرمة تطلق فعاليات اليوم العالمي للسكري    إطلاق 80 كائنا فطريا مهددا بالانقراض    نائب الرئيس الإيراني: العلاقات مع السعودية ضرورية ومهمة    التوقيع على وثيقة الآلية الثلاثية لدعم فلسطين بين منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية ومفوضية الاتحاد الإفريقي    الرئيس السوري: تحويل المبادئ حول الانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين ولبنان إلى واقع    الأمر بالمعروف بجازان تفعِّل المحتوي التوعوي "جهود المملكة العربية السعودية في مكافحة التطرف والإرهاب" بمحافظة بيش    البرهان: السودان قادر على الخروج إلى بر الأمان    اطلع على مشاريع المياه.. الأمير سعود بن نايف يستقبل أعضاء الشورى المعينين حديثاً    أمير الرياض يطلع على جهود الأمر بالمعروف    مراسل الأخبار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بطل قضية "إيران غيت" يتكلم للمرة الأولى . روبرت مكفرلين يروي ذكرياته ل"الوسط": هكذا منعنا احتلال القاهرة وسقوط السادات ومهدنا الطريق منذ حرب 1973 لمعاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية
نشر في الحياة يوم 22 - 06 - 1992

* "رجل واحد في واشنطن توقع انفجار حرب 1973 ... لكننا لم نصدقه"
* إنجاز كيسنجر الوحيد في الشرق الأوسط وليس في الصين وفيتنام وروسيا
روبرت مكفرلين بطل قضية "إيران غيت" يتكلم للمرة الأولى. الرجل الذي لعب الدور الأساسي في إحدى أهم القضايا السياسية في تاريخ الديبلوماسية الأميركية في الشرق الأوسط، التزم الصمت طوال السنوات الماضية، التزم الصمت طوال السنوات الماضية، فلم يدل بحديث أو ينشر مذكرات أو يكتب مقالات عن حقيقة ما جرى من اتصالات سرية بين الولايات المتحدة وإيران، وهو ما سمي لاحقا ب"فضيحة إيران - غيت" بعدما انكشف أمر هذه الاتصالات وزيارة مكفرلين السرية إلى طهران عام 1986.
الرئيس رونالد ريغان نشر مذكراته، وكذلك فعلت زوجته نانسي ووزير الدفاع في إدارته كاسبار واينبرغر ووزير الخارجية ألكسندر هيغ والكولونيل أوليفر نورث الذي كان مساعدا لمكفرلين في هذه العملية. كلهم تكلموا ونشروا ذكرياتهم، ما عدا مكفرلين الذي رفض عروضا عدة قدمتها له دور نشر أميركية وأوروبية كبرى.
لكن مكفرلين لم يكن، فقط بطل "ايران - غيت" بل كان أكثر من ذلك، خلال حرب تشرين الأول أكتوبر 1973، وتجول في الشرق الأوسط كمبعوث خاص للرئيس ريغان، وقام بمهمات "خاصة وسرية" في عدد من دول المنطقة، وتولى معالجة الكثير من الملفات الحساسة والخطرة، كالملف اللبناني وملف الإرهاب في الشرق الأوسط والملف الليبي، وقابل مجموعة كبيرة من الزعماء والمسؤولين في المنطقة العربية وإسرائيل، وشارك في صياغة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط فترة من الزمان.
قبل بضعة أشهر اتصلت "الوسط" بمكفرلين في واشنطن وأقنعته بان يخرج عن صمته، وينشر ذكرياته عن قضية "إيران - غيت" والقضايا المهمة الأخرى في الشرق الأوسط التي لعب فيها أدوار مختلفة، ويفتح ملفاته الرسمية بما فيها من معلومات مهمة وخطيرة ومذهلة. ووافق مكفرلين على أن يروي ذكرياته خصيصا ل"الوسط"، عن سنوات العمل في البيت الأبيض والشرق الأوسط وعن مهماته السرية في المنطقة. ووجهنا إلى مكفرلين مجموعة أسئلة ثم دعيناه إلى لندن وأمضينا معه أسبوعا كاملا جرى خلاله تبادل الحوار وتسجيل الذكريات عن مختلف القضايا التي يرغب في التطرق إليها. وأصر بعد ذلك على أن يصيغ، بنفسه، ذكرياته هذه ويرسلها إلينا، وذلك لدقة المعلومات الواردة فيها ولأهميتها. كما تم الاتفاق بيننا على عدم نشر أية كلمة من ذكرياته هذه في أية مطبوعة أخرى غير "الوسط". لكن مكفرلين يحتفظ لنفسه بحق نشر مذكراته هذه لاحقا بعد صدورها في "الوسط".
ولا بد من التذكير أن مكفرلين عمل في البيت الأبيض في عهد الرئيسين السابقين نيكسون وفورد بين 1973 و1977، ثم عمل في لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي قبل أن ينتقل في بداية عهد ريغان عام 1981 إلى وزارة الخارجية بصفة مستشار للوزير ألكسندر هيغ. وانتقل مطلع 1982 إلى البيت الأبيض مجددا حيث شغل منصب مساعد مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي.
فمكفرلين، على سبيل المثال كان من واضعي ومؤيدي برنامج حرب النجوم و"مبدأ ريغان" الداعي إلى المواجهة المستمرة مع الاتحاد السوفياتي السابق في النزاعات الإقليمية في مختلف أنحاء العالم. وقد وجد داخل البيت الأبيض فراغا يحتاج إلى ملئه بين صقور "البنتاغون" وحمائم وزارة الخارجية، فتحرك في خط واحد مع جورج شولتز وأيده في معظم مواقفه، لكنه لم يتردد في تأييد وزارة الدفاع عندما رأى ذلك مفيداً.
وفي تموز يوليو 1983 اختاره ريغان ليكون ممثله الشخصي في الشرق الأوسط ثم أصبح في تشرين الأول أكتوبر 1983 مستشار ريغان لشؤون الأمن القومي، وبقي في منصبه هذا حتى كانون الثاني يناير 1986. وبعد ذلك تولى منصب المستشار في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن ثم أنشأ وترأس عام 1989 "مؤسسة مكفرلين"، وهو لا يزال على رأسها حتى اليوم. ومهمة هذه المؤسسة تقديم استشارات إلى مسؤولين ورجال أعمال من دول عدة.
وتنشر "الوسط"، ابتداء من هذا العدد وعلى حلقات، مذكرات روبرت مكفرلين. وفي ما يأتي الحلقة الأولى منها التي تكشف معلومات بالغة الأهمية عن حرب 1973 والدور الأميركي في هذه الحرب:
كانت تجربتي السياسية والديبلوماسية المهمة الأولى مع الشرق الأوسط خلال حرب تشرين الأول أكتوبر 1973. وكنت آنذاك في البيت الأبيض أشغل منصب المستشار العسكري للدكتور هنري كيسنجر مستشار الرئيس نيكسون آنذاك لشؤون الأمن القومي.
لكن قبل الحديث عن الشرق الأوسط وحرب 1973، لا بد من العودة سنوات إلى الوراء.
كان والدي ممثلا لولاية تكساس في مجلس النواب الأميركي. وفي تلك الأيام، إبان الثلاثينات، كان الكونغرس، بمجلسيه، ينهي جلساته العادية ويأخذ إجازته السنوية في حزيران يونيو، لكن في ذلك العام 1937 عرض الرئيس فرانكلين روزفلت مشروعا لتوسيع صلاحيات المحكمة العليا فكان على والدي أن يبقى في واشنطن. وهكذا قدر لي أن أولد في تكساس في ذلك الوقت في غيابه، وما لبثت والدتي بعد مدة قصيرة أن توفيت.
نشأت في واشنطن في عائلة سياسية، وذهبت إلى المدرسة مع طلاب كان آباؤهم في الكونغرس أو في إدارات الدولة. لذا تفتحت باكرا على عالم السياسة والعلاقات الدولية. وبعد أن أنهيت علومي الثانوية في العاصمة الفيديرالية، انتسبت إلى الأكاديمية البحرية لأني كنت مهتما بالدراسات الاستراتيجية والديبلوماسية، وتخرجت في العام 1959 من الكلية نفسها التي تخرج منها الرئيس جيمي كارتر قبل 12 عاما. وعندها قررت أن أصير ضابطا في قوات "المارينز" لأبدأ مهنة، أعتقد أنها كانت ناجحة.
والالتحاق بالأكاديمية البحرية كمقدمة للالتحاق بالأسطول كانت نتيجة طبيعية لتربيتي. فقد كانت هناك شخصيات معينة أثرت في توجهي. وأثناء دراستي قرأت سيرة عشرة من أشهر الشخصيات السياسية في القرن الثامن عشر. وكانت المهام الخارجية التي قام بها جيفرسون وأدامز وفرانكلين من أكثر الأمور التي أثارت إعجابي واهتمامي. وكنت أحلم بالقيام بمهمات ديبلوماسية نيابة عن بلادي، ولا شك في أن الأعمال التي قام بها كل من عمي قائد المدمرة دبليو دبليو وشقيقي الذي كان قائد إحدى الطائرات المقاتلة في الحرب الكورية وكلاهما من خريجي الأكاديمية البحرية أثرت في اختياري. واتضح لي أنني كنت الوحيد من المقاطعة الثالثة عشر الذي قبلته الأكاديمية ذلك العام. وفي ظهر يوم السابع والعشرين من حزيران يونيو 1955 أديت اليمين، يمين الأكاديمية. ومنذ ذلك اليوم حفظتها في ذاكرتي ولم أنسها إطلاقا.
كانت الأكاديمية البحرية، ولا تزال إحدى أعظم المؤسسات في بلادنا. وعندما كنت فيها بين عامي 1955 و1959 كانت ضعيفة دراسيا ولكنها كانت قوية في تعليم المهارات القيادية الضرورية لشن الحرب ولتحقيق السلام أيضا بنجاح عن طريق إعطاء المثل الأعلى في السلوك. وكانت قيادتا الأسطول ومشاة البحر ترسلان إلى الكلية أفضل الضباط والمدربين. وحتى الجيش كان يرسل أحد ضباطه إلى الأكاديمية قبل عام. ومن الذين كانوا فيها أثناء فترة التحاقي النقيب جورج باتون والنقيب ألكسندر هيغ الذي أصبح في ما بعد وزيرا للخارجية.
والمهمة الأساسية هي أن يتعلم المرء كيف يلهم الآخرين فعل الأشياء على أفضل وجه، وهي أشياء ما كانوا ليفعلونها لو ترك الأمر لهم وحدهم. وطريقة الأكاديمية لتحقيق ذلك هي مزيج من القراءات المحددة يستوعب من خلالها البحارة ما قام به أبطال الماضي الذين تصرفوا انطلاقا من إحساسهم بالواجب والشرف والكرامة الوطنية، ومن الأمثلة المباشرة التي يقدمها أبطال العصر والمخططون والاستراتيجيون العاملون في الكلية أو الذين يزورونها. وإضافة إلى ذلك، فان كل ضابط صف بحرية يسير منذ أول يوم على نهج يتحمل فيه أكبر مسؤولية ممكنة عن أداء الآخرين وبأسرع ما يمكن. ويبدأ ذلك بتولي المسؤولية عن فريق من اثنين أو ثلاثة ثم تتطور هذه المسؤولية وتزداد إلى أن تصل إلى قيادة لواء، حين يتولى الضابط المسؤولية عن تحرك خمسة آلاف رجل وعن أدائهم. ولربما كانت أعظم لحظات حياتي هي تسمية ابننا سكوت قائد اللواء في صفه عام 1987.
الاحتراف العسكري، لا سيما منذ اكتشاف الأسلحة النووية، يحتاج إلى عقلية خاصة. إذ أن معظم المهن توفر إمكانية الابتكار والاكتشاف أو غير ذلك من مظاهر التميز الواضحة للمجتمع. وفي وسع الأطباء مثلا أو المهندسين وغيرهم أن يفخروا في الاجتماعات والمناسبات بما حققوه من شفاء المرضى أو بنوه من بنايات. لكنك إذا كنت ممتازا جدا في مهنتك كضابط بحري مثلا لا يمكن أن تتاح لك فرصة الاختبار على الصعيد الاجتماعي. ولكننا جميعا نفخر بمساهمتنا في خلق ظروف من السلم. ومن الأمور الأكيدة أن معظم الأميركيين يفهمون أن هناك علاقة بين القوة وبين منع حدوث الحرب، وفي هذا ما يبرر وجود القوة المسلحة.
إن الوطنية والقيادة هما الصفتان الأساسيتان اللتان تطورهما الكليات العسكرية. يضاف إلى ذلك أن هذه الكليات أخذت ترقى بصورة تدريجية لتصبح بين صفوة الجامعات من الناحية الأكاديمية. ومن التطورات الأخرى التي تحسنها الكليات العسكرية أيضا زرع صفة عادية، مع أنها صعبة عادة، إلا وهي إدراك المرء لمكانته الفلسفية - أي السبب في وجوده.
والسنة الثانية أسهل طبعا من السنة الأولى. وقد أتيحت لي الفرصة في السنة الثانية لكي أفكر في المستقبل وما أريد فعله في حياتي. وبدأت هذا التفكير بعد أن أتيحت لي أيضا فرصة السفر إلى الخارج قليلا، والاتصال بالثقافات الأخرى والتعرف على المظالم الاجتماعية والتوزيع غير العادل للثروة وما إلى ذلك.
رجل واحد توقع اندلاع حرب 1973
بعد خمس سنوات اختارتني القيادة للذهاب بمنحة دراسية غير مألوفة إلى جنيف للدراسة فيها مدة عامين. وهناك، في الواقع، بدأت الابتعاد تدريجيا عن نمط حياة ضباط "المارينز" لأدخل إلى حقل العلوم الاستراتيجية والديبلوماسية.
في العام 1967، حصلت على إجازتي الجامعية من المؤسسة العليا للدراسات الدولية في جنيف بدرجة مشرفة، وكان ذلك بين مهمتين لي في فيتنام، الأولى، عندما قدت أول فرقة مدفعية أنزلت في فيتنام في 8 آذار مارس 1965، والثانية بعد تخرجي إذ عدت مرة أخرى إلى سايغون لمدة عام تركزت مهمتي خلالها على التخطيط والتنسيق بين القاذفات "ب - 52" ومدافع البحرية، والمدفعية المساندة للعمليات الأميركية في أدق مراحل الحرب وأنشطها في مدن كيسان وكونتيان وكاملو في الجزء الشمالي من تلك البلاد. وأتتني البرقية بسرعة، فعدت إلى واشنطن في العام 1968 لأجد نفسي وقد انتقلت إلى مجال فكري وذهني جديد. فمع تسع سنوات من الخبرة في الميدان العسكري والمعارك الحربية انتدبت إلى الإدارة العامة لقوات المارينز حيث بدأت العمل مع هيئة الأركان، أولا كمحلل لشؤون أميركا اللاتينية وبعدها كمحلل لقضايا الشرق الأوسط وأخيرا كمحلل للشؤون الأوروبية ومنظمة حلف شمال الأطلسي، وعلى أساس هذه المهمات تم اختياري في ما بعد لوظيفة جديدة وفريدة في البيت الأبيض، هي مساعد مستشار.
التحقت بالبيت الأبيض عام 1971 وبقيت هناك خمس سنوات. وكانت مهمتي، في البداية، إقامة صلة وصل بين البيت الأبيض والكونغرس، لكنني وجدت نفسي أعمل بعد عام من دخولي "قصر الرئاسة" كمستشار عسكري للدكتور هنري كيسنجر الذي كان يشغل منصب مستشار الرئيس نيكسون لشؤون الأمن القومي، قبل أن يصبح وزيرا للخارجية الأميركية. وعملت، أيضا، خلال هذه السنوات الخمس، مستشارا خاصا للشؤون الأمنية للرئيس فورد الذي خلف نيكسون بعد استقالته اثر فضيحة "ووتر غيت".
كانت لهذه السنوات آثار عميقة على تفكيري بالنسبة إلى منطقة الشرق الأوسط، خصوصا عندما اندلعت حرب تشرين الأول أكتوبر 1973، إذ كنت خلالها مسؤولا عن تحليل معلومات تقارير المخابرات الأميركية اليومية الواردة من بلدان المنطقة ومن الجبهة، والتي على أساسها كنت أقترح بعض التوصيات للدكتور كيسنجر حول كيفية التوصل إلى وقف إطلاق النار بين إسرائيل والدول العربية. وما زلت أذكر جيدا عناد الجنرال آرييل شارون قائد القوات الإسرائيلية على جبهة سيناء الذي كان يتحرك باتجاه القاهرة والجبهة الغربية لقناة السويس. وقد قدمت هذه الحرب للمرة الأولى الفرصة لإطلاق عملية السلام بين زعيم عربي معتدل وشجاع هو الرئيس أنور السادات وإسرائيل.
ولا بد من الاعتراف، هنا، بأن اندلاع حرب 1973 فاجأ المسؤولين الأميركيين. لم نكن نتوقع اندلاع هذه الحرب التي بدأت في السادس من تشرين الأول أكتوبر 1973. وقد يبدو هذا الكلام مفاجئا للكثيرين، لكنها الحقيقة. ولا بد من الاعتراف، أيضا، بأن أجهزة المخابرات الأميركية لم تتوقع حدوث هذه الحرب. كان هناك شخص واحد توقع هذه الحرب هو سام هوسكنسون المسؤول في وكالة الاستخبارات الأميركية السي. آي. أي. عن شؤون الشرق الأوسط في ذلك الحين.
لقد حذر هوسكنسون المسؤولين في إدارة نيكسون من أن حربا عربية - إسرائيلية ستندلع، لكن لا أحد في واشنطن صدق ما قاله هوسكنسون آنذاك، أو تعامل مع تقاريره بجدية.
وبدا الأمر في الأسبوع الأول من الحرب كما لو أن الجيش المصري من جهة والجيش السوري من جهة أخرى، سوف ينزلان خسائر فادحة بإسرائيل وجيشها ويحققان انتصارا مهما. وهذا ما دفع بالرئيس ريتشارد نيكسون إلى أخذ القرار بإرسال الطائرات الضرورية والأسلحة العسكرية إلى تل أبيب كي تستطيع مواجهة القوات المصرية والسورية.
وفي غضون عشرة أيام تحول مجرى المعركة، وبدأت تبرز أسس مستقبل مستقر وأكثر أمانا، واعتقدنا في حينه أن هناك مناسبة تاريخية لفتح حوار بين إسرائيل ومصر بزعامة أنور السادات. ولكن قبل الوصول إلى ذلك كان يجب وقف الحرب وحل التعقيدات المتعلقة بها، ومنها المصالح السوفياتية التي تسعى للمحافظة على موقعها في تلك المنطقة، إضافة إلى الموقف غير المتوقع والمتعنت للقوات الإسرائيلية التي كان يقودها آرييل شارون في سيناء.
إنقاذ السادات
فبعدما اجتازت القوات الإسرائيلية قناة السويس وبدأت تتحرك في اتجاه الضفة الغربية للقناة، ركزنا اهتمامنا، كيسنجر وأنا، على ضرورة منع القوات الإسرائيلية من "إذلال" الجيش المصري وربما توجيه ضربة كبيرة تقضي عليه، إذ أن من شأن ذلك، في حال حدوثه، أن يجعل تحقيق السلام صعبا للغاية بين مصر وإسرائيل، كما أن من شأن ذلك أن يطيح بالرئيس السادات.
وقد وصلتنا معلومات تفيد أن القوات الإسرائيلية يمكن أن تصل إلى القاهرة نفسها لاحتلالها مما كان سيؤدي إلى سقوط السادات. وقد تحركنا، كمسؤولين أميركيين، للحيلولة دون احتلال القاهرة. كان مهما، بالنسبة إلينا، ضمان استمرار السادات في الحكم، لأنه بدا لنا، آنذاك، أن الرئيس المصري معتدل فعلا ويريد تحقيق السلام بسرعة مع إسرائيل.
وكمسؤولين أميركيين يتابعون تطورات الحرب يوما بعد يوم، من خلال التقارير والمعلومات التي كنا نتلقاها، تركز اهتمامنا آنذاك على أمرين أساسيين:
الأول، كيف يمكن وقف زحف القوات الإسرائيلية وتقدمها في الأراضي المصرية؟
الثاني، كيف يمكن منع السوفيات من التدخل في هذه الحرب؟
وانطلاقا من هذه المعطيات كلها كان هدف الإدارة الأميركية إقناع رئيسة الحكومة الإسرائيلية آنذاك غولدا مائير بأن مصلحة إسرائيل البعيدة المدى تقضي بالتوصل إلى حل سياسي للنزاع مع مصر، وليس في تحقيق انتصار عسكري. وكان هدفنا إقناع مائير بأن الحل السياسي يصبح مستحيلاً مع مصر إذا دمر الإسرائيليون الجيش المصري أو سقط السادات.
وهكذا مع حلول اليوم العاشر للحرب بدأ كيسنجر جهوده ومساعيه لإقناع المسؤولين الإسرائيليين بضرورة وقف تقدمهم في الأراضي المصرية وتجنب التسبب بأي حرج للرئيس السادات وللقوات المصرية. وكان همنا، آنذاك، كمسؤولين أميركيين، المحافظة على السادات كرئيس لمصر وكزعيم قادر على التفاوض مع الإسرائيليين وتحقيق السلام معهم. ولم يكن أحد، بالطبع، يفكر في هذا الأمر، آنذاك، باستثناء مجموعة صغيرة من المسؤولين الأميركيين المعنيين مباشرة بهذا الملف، وبينهم كيسنجر وأنا.
ديبلوماسية كيسنجر
لكن "إنقاذ" السادات - والجيش المصري - لم يكن بالأمر السهل، إذ وصلت الأزمة إلى ذروتها في ليلة 24 تشرين الأول أكتوبر 1973، بعدما استطاعت إسرائيل تثبيت مراكز سيطرة عسكرية على الضفة الغربية لقناة السويس وبدأت تتجه جنوبا حيث كان باستطاعة الاتحاد السوفياتي تخيل وتصور الإحراج الذي ينتظره وحليفته مصر، في ذلك الحين، من جراء انتصار إسرائيلي، لذا أعلن الكرملين استعداده للتدخل بقواته العسكرية من أجل منع التقدم الإسرائيلي. وكان بمقدور كيسنجر يومها رؤية خطر المجابهة مع السوفيات. فقوتهم الصاروخية والنووية تعاظمت، أصبحت أكبر مما كانت عليه خلال أزمة الصواريخ في كوبا قبل 11 عاما. في قضية "خليج الخنازير"، كان من الواضح تفوق الأميركيين النووي، ولكن بحلول تشرين الأول أكتوبر 1973 تحول عدم التوازن هذا إلى تقارب كبير بين القوتين العظميين، وصارت المجابهة النووية مع السوفيات أكثر خطورة من السابق. لذا، انصبت الجهود على تجنب هذه المواجهة مع السوفيات، وكانت الخطوة الأولى تهدف إلى إيقاف تقدم القوات الإسرائيلية.
وما زلت اذكر جيداً الجلسات المتتالية في الطابق الارضي من البيت الابيض، وذلك الاجتماع الذي ترأسه كيسنجر مع قيادة الاركان الجنرال الكسندر هيغ كان مدير موظفي البيت الابيض ووزيري الخارجية والدفاع، حيث اوصى الجميع بوجوب ايقاف القوات الاسرائيلية، لكن لم يكن في وسع احد منهم اقناع غولدا مائير بذلك، اذ انها كانت تعتبر الامر لحظة تاريخية ستحقق فيها دولتها انتصاراً ساحقاً على اكبر دولة عربية.
في هذه الأثناء كنا نتلقى رسائل متعددة من موسكو وكلها تؤكد أن الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف لن يسمح بان تتقدم القوات الإسرائيلية أكثر مما وصلت إليه في الأراضي المصرية، وتؤكد أيضا أن بريجنيف سيسمح للقوات السوفياتية بالتدخل في مصر، إذا لم يتوقف "زحف"القوات الإسرائيلية خلال ساعات. وكانت التقارير التي نتلقاها من أجهزة المخابرات الأميركية تؤكد فعلا أن بريجنيف بدأ يتخذ الإجراءات اللازمة لإرسال قواته عن طريق الجو إلى مصر. لذا أخذ تحذير بريجنيف جديا.
وقد تبدل الموقف ليلة 24-25 تشرين الأول أكتوبر 1973 حين "اقتنعت" غولدا مائير بأن مصلحة إسرائيل تقضي بوقف تقدم القوات الإسرائيلية واستمرار السادات في الحكم على أساس أنه "زعيم معتدل وشجاع ومستعد للدخول في مفاوضات سلام" مع الدولة اليهودية. وخلال اجتماع عقدته مع حكومتها، قدمت مائير الاقتراحات الأميركية الداعية إلى وقف إطلاق النار في الحرب وبدء المفاوضات بين مصر وإسرائيل من أجل فصل القوات بينهما. وكان ذلك بداية العملية التي قادت إلى توقيع معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية المعروفة باسم معاهدة كامب دافيد عام 1979.
والواقع، أن كل هذا كان في الميزان وبعيد المنال ليلة الرابع والعشرين من تشرين الأول أكتوبر 1973، حيث كنا نحاول الاتصال عن بعد آلاف الأميال لمناقشة شروط استراتيجية طويلة الأمد مع أناس كانوا يتحاربون ويسقط منهم القتلى بكثرة، ولم يكن باستطاعتهم الرؤية بوضوح ومعرفة شروط مصالحهم البعيدة المدى، إذ أن المحاذير كانت كثيرة على المدى القصير.
ومن حسن الحظ أن ديبلوماسية كيسنجر أثبتت نجاحها، وأعلن اتفاق لوقف إطلاق النار. أن كيسنجر رجل خارق للعادة على صعيد معرفة التاريخ، فقبل تسلمه مهامه الحكومية استطاع "بلع" معلومات مكثفة لأحجام ضخمة من الكتب التاريخية لثقافات عدة كان يعلم بأنه سيتعامل معها، فقرأ عن العرب والصينيين وسكان أميركا اللاتينية والأوروبيين الوطنيين. إضافة إلى ذلك كان يملك موهبة تقدير واستغلال القوى الاستراتيجية التي تحدد الاستقرار أو عدم الاستقرار في العلاقات الدولية. من عنصر الزعامة، إلى عنصر القوة العسكرية إلى القوة الاقتصادية، ودور ومعنى الحلفاء وتأثير الدين، وفي أي موقف طارئ، كان يملك القدرة على معرفة كيف أن كل هذه القوى الاستراتيجية يستطيع زعيم محدد في موقع معين من الأحداث استغلالها.
هذه المقدرة والكفاءة والمؤهلات الذهنية والثقافية مكنت كيسنجر من إقناع السادات ومائير والرئيس حافظ الأسد وبريجنيف - ببراعة ديبلوماسية عالية المستوى - بأن مصالحهم تقضي بقبول "الحلول الوسط" التي يقدمها لهم. كان كيسنجر رجلا متطلبا في عمله، يقرأ الكثير من التحليلات، وهو مستعد لمناقشة أي اقتراح يتقدم به أي موظف لديه، وإذا لم يستطع هذا الأخير الدفاع عن رأيه فسوف يطرد فورا من عمله. فهو لم يكن يملك وقتا لإضاعته مع عدم الكفاءة.
إن هذا المستوى العالي الذي كان يتميز به مساعدوه تطلب جهودا جبارة كانت تظهر نتائجها
خلال تأدية كيسنجر لمهماته. وعلى رغم أنه رجل قلق وغير واثق من نفسه في بعض الأمور فان ذلك لم يؤثر على معرفته أو قدرته التحليلية. لقد وجدت العمل معه نوعا من التحدي وتجربة مفيدة جدا. وكنت في معظم الأحيان أوافقه الرأي. وأعتقد أنه خلال السنوات الثماني التي قضاها في الإدارة الأميركية استطاع تحقيق إنجاز واضح، ويتلخص بتوثيق العلاقات أكثر بين الولايات المتحدة وبلدان الشرق الأوسط وبين عدد من الدول العربية وإسرائيل.
معظم الناس يعيدون لكيسنجر في تحقيق إنجازات أخرى كاتفاقية السلام في فيتنام، والانفتاح على الصين أو الوفاق مع السوفيات. وهذه، حسب رأيي، غير صحيحة ولا تستحق الإشارة إلى أنه من إنجازات كيسنجر أو من صنعه. فالانفتاح على الصين كان فكرة الرئيس ريتشارد نيكسون، والوفاق مع السوفيات كان سابقا لأوانه وعرض خطأ على الشعب الأميركي واتفاقية السلام الفيتنامية كانت ناقصة ومبتورة وشائبة جدا ولم تكن في مصلحة الولايات المتحدة. لكن ديبلوماسية الخطوة خطوة التي اعتمدها في الشرق الأوسط تشكل إنجازا تجدر الإشارة إليه، ويعود نجاحه فيها إلى قدرته على الحوار. وأعتقد أن التاريخ سوف يسجل بأن مساهمة كيسنجر الكبرى لتعزيز أسس الاستقرار في العالم، كانت في منطقة الشرق الأوسط وليس في الصين وفيتنام والاتحاد السوفياتي.
والجدير بالذكر هنا، أن التغيير الأساسي والكبير في التصرفات السوفياتية حصلت في الثمانينات وبدأت خلال سنوات الرئيس رونالد ريغان.
أزمة 1973 مهدت في الواقع لديبلوماسية الرئيس جيمي كارتر التي أدت إلى اتفاقيات كامب دايفيد. أما بالنسبة إلى، فتركت البيت الأبيض مباشرة بعد خسارة الرئيس جيرالد فورد الانتخابات، وعدت إلى قوات "المارينز"، وشاركت في تأليف كتاب عن "إدارة الأزمات"، ثم ما لبثت أن تركت الجيش وتقاعدت في العام 1979.
كنت اخطط للعمل في القطاع الخاص عندما طلب مني الالتحاق بمجلس الشيوخ الأميركي كعضو موظف مهمته درس بنود اتفاقية تحديد الأسلحة الاستراتيجية مع الاتحاد السوفياتي "سالت - 2". وعملت لمدة عام في هذا المجال مع السيناتور جون تاور، حيث طلب مني بعدها المشاركة في كتابة البرنامج السياسي لحملة ترشيح رونالد ريغان للرئاسة في العام 1980. في تلك الأثناء كنت أصبحت مواطنا عاديا خارج المؤسسة العسكرية، فوافقت وكتبت القسم المتعلق بالشرق الأوسط في ذلك البرنامج.
بعد فوز ريغان في الانتخابات طلب مني الجنرال ألكسندر هيغ، الذي كان عين لتوه وزيرا الخارجية، أن أكون مستشارا له برتبة مساعد وزير. ثم جعلني ممثله في حوارات خاصة ودقيقة في الشرق الأوسط، إذ أوكل إلي مهمة فتح أبواب الحوار مع عدد من زعماء المنطقة.
ولا بد، هنا، من التحدث عن بداية ولاية ريغان.
3 نكسات
عندما وصل الرئيس ريغان إلى السلطة ودخل البيت الأبيض عام 1981 كان لديه أفضل فرصة لتحقيق منجزات في السياسة الخارجية، مما كان لدى أي رئيس آخر منذ الحرب العالمية الثانية. إذ أنه حصل على تفويض لانتهاج سياسة أكثر فعالية، وكان لديه المال لتنفيذها بينما كان يواجه في الوقت نفسه عدوا في حالة من التقهقر، وقد استندت هذه الظروف التي كان الحظ حليفها، على سوء طالع الرؤساء الذين سبقوه من ناحية، وعلى رغبة الأميركيين في التغيير واستعدادهم للإنفاق من أجل تحقيق هذا التغيير من جهة ثانية.
ففي السنوات العشر التي سبقت انتخاب الرئيس ريغان، منيت الولايات المتحدة بثلاث نكسات خطيرة قوضت الثقة الوطنية الأميركية الذاتية. ففي بادئ المر خسرنا حربا: أي أن أقدم الديموقراطيات في العالم التي كانت متحدة في كل شيء، ولم تكن عرفت الهزيمة إطلاقا، منيت بالهزيمة في حرب فيتنام.
وكان من الطبيعي أن يثير إخفاقنا في فيتنام في الوفاء بالتزاماتنا الأصلية تجاه أحد حلفائنا الكثير من الشكوك في مختلف أرجاء العالم - بين أصدقائنا ولدى موسكو - في مدى الاعتماد علينا كحليف يوثق به. وخلال الأعوام الخمسة التالية بدأ الأصدقاء القدامى والجدد في العالم الثالث يعربون عن تلك الشكوك بتوقيع اتفاقات تجارية مختلفة مع الاتحاد السوفياتي. وبدأ الأصدقاء الذين كنا نثق فيهم في الماضي، من أمثال المستشار الألماني هيلموت كول والرئيس الفرنسي جيسكار ديستان يقومون بزيارات إلى موسكو حتى من دون لياقة استشارتنا، بعد أن شعروا بازدراء عظيم للأداء الأميركي.
ثانيا، كان اقتصادنا تدهور وكاد يصل إلى الفوضى المطبقة. والأسوأ من ذلك أن مسؤولينا لم يكن لديهم، على ما يبدو، أية فكرة عما يفعلونه لاصلاح الوضع. إذ اقترن التضخم المالي الذي وصل إلى أرقام مزدوجة، وأسعار الفائدة العالية والبطالة لإظهار حقيقة بديهية وهي أن الولايات المتحدة فقدت قدرتها على حل المشكلات وبالتالي حقها في القيادة. وكانت هذه الصورة من الشلل والعجز أكثر من الضرر الاقتصادي الذي نعاني منه هي التي عززت النزعة نحو انحسار الثقة في الولايات المتحدة والنتيجة الطبيعية لهذا الانحسار، أي تعزيز العلاقات مع الاتحاد السوفياتي.
ثالثا، سمحنا بحدوث تحول كبير جداً في التوازن النووي الاستراتيجي. إذ أن موسكو كانت تأخذ في اعتبارها، طوال السنوات الثلاثين الماضية كلما فكرت في توسيع نفوذها وراء مجالها المباشر، ما إذا كانت محاولاتها ستجرها إلى مواجهة مع الولايات المتحدة. فإذا كان الحال كذلك، كانت تمتنع عن بذل تلك المحاولات لتجنيب نفسها المهانة والإذلال. والخروج من إطار الإحساس بعقدة التخلف النووي لم يكن يعني ازدياد احتمال الحرب النووية، وإنما كان يعني أن موسكو أصبحت أكثر استعدادا لتحمل المجازفات التي تنطوي على استخدام مستويات أقل من القوة. وهكذا فقد تحرك السوفيات خلال الفترة ما بين عامي 1975 و1980 بحذر، ولكن بصورة مضطردة لاختبار مقدرتنا على الرد والمقاومة. وكانوا يسيرون في ذلك عادة بصورة غير مباشرة معتمدين على اتبعاهم في دول مثل كوبا أو فيتنام. إلا أنهم نجحوا خلال خمس سنوات فقط في إقامة نفوذ كبير في أنغولا وأثيوبيا واليمن الجنوبي وكمبوديا وأفغانستان وموزامبيق ونيكاراغوا.
إلا أن الشيء الجيد هو أن الأميركيين أخذوا يستوعبون ويدركون جيدا تصاعد النفوذ السوفياتي، وهو أمر أثار استياءهم. وليس معنى هذا الكلام أن التفضيل الأساسي عند الأميركيين، أي الرغبة في العزلة عن بقية العالم، تغير. أنه لم يتغير لأنه يظل راسخ الجذور في الضمير الوطني الأميركي حتى اليوم. ولكن الاستياء كان تعبيرا عن الرغبة الأميركية في أن تكون الولايات المتحدة وهي الأولى في أي منافسة. وهذه المشاعر هي التي جعلت وعد رونالد ريغان عام 1980 باستعادة قوتنا وهيبتنا يجتذب الناخبين إليه. ولم يكن في ذلك أي ضير.
ولكن من الأمور البديهية أن يتوقع الأميركيون من رئيسهم أن يكون لديه اكثر من مجرد شعار ليهتدي به في رعايته ثقتهم به، وأن يكون لديه خطة لتعبئة الموارد التي يرسلونها إلى واشنطن في استراتيجية متجانسة من أجل تحقيق أهداف ملموسة تجعل السلام في العصر النووي أكثر يقينا، وتبعد عنهم الأخطار، وتجعل الترشيد الاقتصادي في سياساتنا المالية والنقدية افتراضا معمولا به. ولكن لسوء الحظ، إذا ما قسنا أولويات عام 1981 وأهدافه بأي بيان حقيقي عن الأهداف الخارجية وجدنا أن إدارة ريغان فشلت. وهناك نظريات معقولة لسبب الفشل. من تلك النظريات واحدة طالما أكدتها لتعطي عن الرئيس صورة عن بعد النظر ووضوح الرؤية، وهي انه ينبغي علينا قبل أن ندخل في أي حوار مع قادة الكرملين، أن نحشد تأييد الحلفاء، وأن تحقيق ذلك يستدعي منا أولا حل بعض مشكلاتنا. ومن هذا المنطلق كان من الأمور المعقولة أن نقضي الأعوام الأولى في تجديد قوة اقتصادنا المحلي. ومن هذا المنطلق أيضا كان علينا أن نشرع في تجديد قوتنا العسكرية على الفور، إدراكا منا بأن العملية ستستغرق سنوات عدة، وإدراكا منا بان على هذا التحول الأميركي ليس ظاهرة مؤقتة وإنما هو بجدية مد من التجدد الأساسي الدائم. ولو أن مع ريغان استدعى ألكسندر هيغ وكاسبار واينبرغر مع بيل كيسي والجنرال جونز وشرح لهم مثل هذه الأفكار انتقلت من القمة إلى القاعدة ومن الرؤساء الى المرؤوسين وأعطت جميع المعنيين بالأمن القومي الثقة. لكنه لم يفعل ذلك. وحسب معرفتي لم يكن يفكر إطلاقا في مثل هذا الإطار.
صحيح أن ريغان أصر على تجديد قوتنا ووضع ثقله السياسي وراء تحقيق زيادة هائلة في ميزانية الدفاع. وكان من البديهي أيضا أن يتوقع من مجلس وزرائه، وبشكل خاص من وزير خارجيته أن يضع استراتيجية لاستخدام الموارد المتاحة وتحقيق أهداف محددة. فلماذا لم يحدث ذلك؟ أعتقد أن هناك سببين. الأول، كما قلت آنفا، إذا كان لدى ريغان أي أهداف ملموسة محددة أو أولويات واضحة في الشؤون الخارجية فانه لم يعلنها إطلاقا لوزرائه خلال العام الأول من رئاسته. فلو فعل ذلك لشعر مجلس الوزراء بالالتزام بتطوير استراتيجية لمحاولة تحقيقها. ولكن بالنسبة إلينا نحن من مستوى وكلاء الوزراء على الأقل، لم نتلق أي تكليف في العام الأول من مجلس الأمن القومي لفعل أي شيء. وكل ما سمعناه هو أن الرئيس يريد أن يولي الاقتصاد اهتمامه الأقصى. ولكن حين أتطلع إلى الوراء يبدو واضحا لي أن الرئيس كان له هدف واحد على الأقل في السياسة الخارجية، وأن هذا الهدف كان على غاية الأهمية بالنسبة إليه، وهو الشروع في برنامج مكرس لحماية الأميركيين من الدمار النووي، واقتراح فكرة القضاء على الأسلحة النووية من مختلف الترسانات العالمية وترويج هذه الفكرة. ومن الغريب أنه لم يسمع أحد منا خارج البيت الأبيض شيئا من هذا كله في أي وزارة أو دائرة خلال العام الأول.
العقبة الثانية في وجه تطوير استراتيجية هي عدم وجود أي إطار بيروقراطي لفعل ذلك. فطوال عام 1981 لم يكن هناك نظام لتحديد الخيارات السياسية أو صنع القرارات، أو لاستخدام الحكومة لتحليل الاستراتيجيات البديلة واستنباط الأفكار لعرضها على الرئيس لكي يختار من بينها. فبعد أسبوع أو اثنين من حفل التنصيب توجهت لمقابلة ريتشارد ألن مستشار الأمن القومي لكي أسأله متى يمكن للدوائر المختلفة أن تتوقع تلقي معلومات تحدد أهداف الرئيس في كل مجال إقليمي أو اختصاصي وتطلب من الوزارات والدوائر المختلفة رفع تقارير إليه بأفكارها وافضل السبل لتنفيذها. ولكنني ذهلت من إجابته. إذ قال ألن أنه لا يرى أية حاجة لوجود نظام اتصال مسهب بين الوزارات والدوائر، أو لأية دراسات موسعة لأنها لن تكون أكثر من تسجيل لآراء البيروقراطية المحترفة من الديموقراطيين. وفي رأي ألن أن الرئيس سيتعامل مع الأمور بالحزم والحكمة حين تستدعي الأحداث ذلك. بمعنى آخر أن ألن لا يؤمن بالتخطيط.
ولم يكن هناك أحد يقدر قيمة وجود عملية منظمة لصنع القرارات أكثر من هيغ. إذا انه عمل في إدارة الرئيس نيكسون ومع هنري كيسنجر ونظامه لمجلس الأمن القومي الذي كان آنذاك المثال الأعلى الذي يخضع لشخصية واحدة سيطرت على تعريف السياسة من خلال الإشراف على جميع هيئات التخطيطي السياسي في كل الوزارات والدوائر ووثائق السياسة التي كانت تذهب في نهاية المطاف إلى الرئيس.
وجاء الرئيس ريغان بعد أن تعهد بالتطلع إلى مجلس وزرائه ليحكم والى وزير خارجيته بشكل خاص ليدير سياسة الخارجية - لا إلى موظفين في البيت الأبيض. فما الذي حدث؟ باختصار لجأ كبار موظفي البيت الأبيض إلى تقويض مكانة هيغ لأنهم لم يثقوا به.
وهكذا، قمت في ربيع 1981 بزيارة منطقة الشرق الأوسط.
الأسبوع المقبل: الحلقة الثانية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.