الجزائر في مرحلة التحالفات السياسية الجديدة وخلط الأوراق… فيما السلطة الحاكمة تثبت شرعيتها الداخلية والخارجية. كثفت السلطات الجزائرية الجديدة ضغطها على الجبهة الاسلامية للانقاذ في الوقت الذي امتنعت فيه "جبهة التحرير الوطني" عن اعلان موقف حاسم من التغيير في السلطة. وتقول مصادر عربية مطلعة ان عدم تمكن اللجنة المركزية لپ"جبهة التحرير" التي امتدت اجتماعاتها حتى منتصف الاسبوع الماضي من اتخاذ موقف موحد من المجلس الاعلى للدولة، ومن اتخاذ قرار بشأن قيادتها الحالية الممثلة بأمينها العام عبدالحميد المهري، يعني ان ثمة صراعاً كبيراً يخترق الجبهة، وان التوازن داخلها سيحيّد ما بقي لها من نفوذ سياسي، ويحرم السلطة الجديدة من تأييد كانت تعتبره مضموناً. لذلك ستكون المعركة السياسية بين مؤيدي المجلس الاعلى للدولة والمعترضين على دستوريته داخل "جبهة التحرير" قاسية خلال فترة الاسبوعين التي تقرر ان تعاود اللجنة المركزية اجتماعها خلالها، في انتظار عقد مؤتمر عام للجبهة، لم يحدّد موعده بعد. في مقابل ذلك تحاول السلطة الجديدة ان تحفظ لنفسها صورة السلطة الدستورية، غير المتأثرة بالصراعات والنزاعات الداخلية، تاركة، علناً على الاقل، لحكومة سيد احمد غزالي مهمة ادارة المشاكل الملحة. وتستند هذه الصورة التي يرغب المجلس الاعلى الجزائري في ان يعطيها لنفسه الى سلسلة التطورات التي شهدتها البلاد منذ خريف 1988، في ظل رئاسة بن جديد. وهي التطورات التي اظهرت الحركة الاسلامية، ومن ثم "جبهة الانقاذ"، كقوة معارضة اساسية تعلن امتلاكها لمشروع "انقلابي"، عبر السيطرة على المجلس الشعبي الوطني البرلمان وتغيير الدستور الجمهوري واقامة سلطة اسلامية. هذا المشروع "الانقلابي" هو الذي رفضته المؤسسة العسكرية استناداً الى شرعيتها التاريخية والى المهمة التي كلفها بن جديد بها لاحتواء حركة العصيان في تشرين الاول اكتوبر 1988 وفي حزيران يونيو 1991. التحالف السري ويقول العارفون بالاوضاع الجزائرية ان "الانقلاب المدني" الاول حصل عندما سمح الرئيس السابق في 1990 بالعمل السياسي العلني لپ"جبهة الانقاذ" التي حققت انتصاراً ساحقاً على جبهة التحرير الوطني الحاكمة، في الانتخابات البلدية، مما دفع المؤسسة العسكرية، منذ ذلك الحين، "الى مراقبة الزحف الانقلابي الاسلامي" لتزداد قناعته بأن ثمة تحالفاً غير معلن بين الرئاسة وبين "جبهة الانقاذ"، قيل انه ادى الى الاتفاق على تسوية اساسها القبول باستمرار بن جديد في الرئاسة بعد الانتخابات النيابية، مقابل التخلص من بعض الوجوه العسكرية التي تطالب "جبهة الانقاذ" بابعادها. واذا كانت الجزائر شهدت انقلاباً عسكرياً، فان ذلك جرى يوم طالبت المؤسسة العسكرية باقالة مولود حمروش من رئاسة الحكومة، مقابل تدخلها لضبط الاوضاع في الجزائر العاصمة في حزيران يونيو 1991، وهو التدخل الذي ادى الى سقوط قتلى واعتقال قيادات في "جبهة الانقاذ"، منها زعيما الجبهة الشيخ عباسي مدني والشيخ علي بلحاج، ويوم فرضت المؤسسة العسكرية على بن جديد تعيين سيد احمد غزالي رئيساً للحكومة كضمانة لها في مواجهة التحدي الجديد. ولقد جاء التدخل العسكري في اطار الدستور الذي يوكل للجيش مهمة الدفاع عن مؤسسة رئاسة الجمهورية، وكذلك مهمة الدفاع عن السلم الاجتماعي الذي اعتبر العسكريون انه تعرض للتهديد من خلال مضي "جبهة الانقاذ" بتنفيذ مشروعها "الانقلابي" عبر الدورة الاولى من الانتخابات النيابية. ولم يكن ممكناً لها ان تستمر بهذا التنفيذ لولا القانون الانتخابي لتوزيع الدوائر الذي اقرته جبهة التحرير الحاكمة. هذه الجبهة التي لم تحسن ايضاً ادارة المعركة الانتخابية، ما ادى بها وبالاحزاب الاخرى غير الاسلامية الى الفشل، وبالتالي الى العجز عن مواجهة المشروع الاسلامي. واليوم، بعد استقالة الشاذلي بن جديد بضغط من المؤسسة العسكرية والغاء الانتخابات وتعرض قيادات "جبهة الانقاذ" وعناصرها للاعتقال والمحاكمة بتهمة الاساءة الى احدى مؤسسات الجمهورية، وبعدما عزّز المجلس الاعلى للدولة سلطته ونال الاعتراف العربي والدولي، تظل الخطوات المقبلة التي قد تتخذها الاحزاب، مجهولة، مقابل الخيارات التي اقرتها السلطة الجديدة. لقد حددت السلطة الجديدة خياراتها الاساسية، خلال فترة انتقالية على الاقل، فالمجلس الاعلى الذي يرأسه محمد بوضياف ويضم في عضويته كلا من وزير الدفاع الجنرال خالد نزار وعلي كافي الامين العام السابق لمنظمة قدامى المحاربين وعلي هارون وزير حقوق الانسان وتيجاني هدام إمام مسجد باريس، ضمن بتركيبته الاعتراف العربي عموماً، والمغاربي خصوصاً، نظراً الى التوازن في اختيار اعضائه. كما انه في الوقت نفسه يضمن عدم الاعتراض الداخلي على الشخصيات التي يضمها، لأن اياً منها لم يشترك لا في معركة مفتوحة ضد السلطة السابقة ولا في مشاحنات الرأي. على صعيد آخر، لخصت السلطة الجديدة مهمتها بهدفين اساسيين: محاولة النهوض الاقتصادي، عبر الاجراءات التي تعلنها الحكومة، والمحافظة على السلم الاهلي، عبر تقييد حرية العمل لپ"جبهة الانقاذ"، وبذلك تتحدد المواجهة السياسية العلنية بين السلطة والاسلاميين. صراع طويل المدى وواضح ان السلطة تعتمد على اسلوب الهجوم عندما يكون ممكناً تبرير الأمر قانونياً، مثل اعتقال قيادات في "جبهة الانقاذ" بتهمة التحريض واثارة الشغب واصدار بيانات اعتبرت ماسة بالمؤسسة العسكرية، او مثل منع النشاط الحزبي في المساجد. كما انها تعتمد في الوقت نفسه على اسلوب "القضم التدريجي" لنفوذ الاسلاميين. في مقابل ذلك، تلتزم "جبهة الانقاذ" بضبط النفس وعدم ممارسة العنف الذي قد تستتبعه حملات قمعية من السلطة، مشددة على المعارضة السياسية لپ"الطغمة الحاكمة". كما ان "الانقاذ" تراهن على صراع طويل المدى سواء بينها وبين السلطة او داخل "جبهة التحرير". فهي تستبدل زعماءها المعتقلين بدون أي تصعيد ميداني. وفي الوقت الذي تنصح انصارها، وكوادرها الوسطية، بالانكفاء، تقدم نفسها كضحية لانقطاع العملية الديموقراطية وللقمع الذي يستهدفها ولپ"المؤامرة على الاسلام". كل ذلك بانتظار ظروف مناسبة اكثر لها. وتشير اوساط مطلعة الى ان شهر رمضان الذي يبدأ في مطلع آذار مارس المقبل قد يشهد مفاجآت في هذا الاتجاه. التاريخيون الثلاثة الطرف الآخر في المعادلة الحزبية هو جبهة التحرير التي تواجه، كما ظهر من الاجتماع الاخير للجنتها المركزية، خيارات صعبة: سياسية وتاريخية. فسياسياً، لم يستطع الذين ينتقدون قيادتها التي ايدت ودعمت بن جديد في علاقته مع "جبهة الانقاذ" في مرحلة اولى، والتي حاولت التقرب من "الانقاذ" و "جبهة القوى الاشتراكية" لاحقاً.لم يستطيعوا بلورة قوة كافية تطيح هذه القيادة، ما يعني صراعاً كبيراً بين التيارات، وبالتالي اضعافاً للقاعدة التي يفترض ان تكون دعامة للسلطة الجديدة. اما تاريخياً، فهناك وجهة نظر بدأت تبرز لدى مؤسسي جبهة التحرير مفادها انه تنبغي المحافظة عليها "كجسم مقدس لعب دوراً تاريخياً لا يمكن مسه". وهي، بهذا المعنى، ارث مشترك لجميع الجزائريين بمن فيهم اطراف متباعدة، مثل حسين آيت احمد واحمد بن بللا ومحمد بوضياف ورابح بيطاط. وبحسب وجهة النظر هذه تحل الجبهة كاطار حزبي سياسي، وتعيد املاكها الى الدولة، ومن يريد من زعمائها ان ينشط في اطار حزبي، فما عيله الا ان يشكل حزبا خاصا به، من غير ان يدعي الارث السياسي للجبهة. وحسب اوساط عربية مطلعة ثمة توافق في هذا الاتجاه بين التاريخيين الثلاثة محمد بوضياف رئيس المجلس الاعلى والرئيس السابق احمد بن بللا ورئيس المجلس الشعبي السابق رابح بيطاط. في حين ان التاريخي الرابع حسين آيت احمد زعيم "جبهة القوى الاشتراكية" يعارض الحل. خلط أوراق وفي اطار معالجة هذا التحدي السياسي والتاريخي، تتحدد التحالفات الجديدة سواء داخل جبهة التحرير او على المستوى الوطني الجزائري. وكشفت الاوساط العربية نفسها انه استعداداً لهذه المرحلة عمد الرئىس السابق بن بللا، المؤيد بقوة للمجلس الاعلى، الى تجميد العمل الحزبي في "الحركة من اجل الديموقراطية" التي يتزعمها، وانه قد يحل هذا التنظيم، بعدما اتضح له ان بنيته الداخلية وادارته السياسية لم تكن تناسب المرحلة. ومن الواضح ان بن بللا يهدف من هذه الخطوة الى اعادة طرح نفسه كشخصية عامة على المستوى الوطني تكون قادرة على التحرك في ظل المعطيات والتحالفات التي قد تتبدل بسرعة. في موازاة ذلك، تزداد التساؤلات داخل "جبهة القوى الاشتراكية" التي تستند شعبيتها اساساً على المنطقة البربرية، حول صحة الموقف المعارض للسلطة الجديدة والملتقي، موضوعياً، مع الحركة الاسلامية. وقد تساهم هذه التساؤلات في خلط الاوراق بين "الجبهة الاشتراكية" و"التجمع من اجل الديموقراطية والثقافة" المنافس لها في منطقتها والذي يتزعمه سعيد سعدي احد ابرز الذين طالبوا بالغاء الانتخابات النيابية التي سجلت فيها "جبهة الانقاذ" انتصاراً كاسحاً. وفي كل هذه الحالات تتركز المناقشة حول اختيار اساسي: العودة الى الوضع الديموقراطي السابق، بما فيه احتمال تسلم الاسلاميين للسلطة، او القبول بالوضع الجديد، وايجاد سبل للتعامل معه، على اساس التعددية في اطار الجمهورية. ولن تحسم هذه المناقشة سريعاً، لكنها ستكون مختبراً للتحالفات الجديدة التي تحتاجها السلطة الحالية لتثبيت شرعيتها الشعبية. في انتظار ذلك، تبدو السلطة وكأنها معطى غير قابل للتغيير، خلال مرحلة انتقالية على الاقل، هذه المرحلة التي منها ستنشأ السلطة المنتخبة.