دخلت معركة استعادة "هيبة الدولة" مرحلة جديدة بالشروع هذا الشهر باستعادة أملاك الدولة التي منحت للأحزاب، وأكثرها بحيازة جبهة التحرير الوطني الحزب الذي حكم البلاد منذ الاستقلال. وهذا الاجراء هو تطبيق لقرار سابق صدر عن حكومة سيد احمد غزالي في الربيع الماضي، بعد تشكيل المجلس الأعلى للدولة، وإعلان رئيسه محمد بوضياف ضرورة اعتماد الاحزاب، من الآن فصاعداً، على نفسها، سواء من حيث التمويل أو المقرات. ومن الطبيعي ان تكون جبهة التحرير الضحية الأولى لهذا الاجراء، على الصعيدين المادي والمعنوي. فالجبهة بحوزتها أكثر من 80 في المئة من الاملاك العمومية التي سلمت للأحزاب. وتترجم الأوساط الحكومية ذلك بحوالي 2500 عقار أو محل، بالاضافة الى حوالي 3500 سيارة، منها عدد من سيارات "مازدا" الفخمة التي تستعملها قيادات جبهة التحرير، من مدير صحيفة ومحافظ محلّي الى الأمين العام وأعضاء المكتب السياسي. ويعتبر قصر ريغود يوسف المقر الرئيسي لجبهة التحرير من أفخم هذه الأملاك العمومية، بالاضافة الى مقر مهم آخر يقع في ساحة الأمير عبدالقادر في قلب العاصمة الجزائرية، ويضم خصوصاً مقرات المؤسسات الاعلامية للحزب الحاكم سابقاً. وقد كان قصر ريغود في السابق مقراً لپ"المجلس الشعبي الوطني" البرلمان قبل ان يأوي موقتاً وزارة الداخلية، بينما كان مقر ساحة الأمير عبدالقادر يأوي قيادة أركان جيش الاحتلال الفرنسي إبان ثورة التحرير الجزائرية. ويكرس الشروع باسترجاع ما بحوزة جبهة التحرير من أملاك، الطلاق بين المجلس الاعلى للدولة الذي يرئسه السيد علي كافي وهذا الحزب الذي لعب منذ استقلال الجزائر تقريباً عام 1962 دور الجهاز السياسي لنظام الحكم، وغطاء له في الوقت نفسه بحكم "شرعيته التاريخية". ويؤكد هذا الطلاق فشل آخر محاولة لاصلاح ذات البين بين الطرفين في أيلول سبتمبر الماضي اثناء استقبال الرئيس كافي ورفاقه في المجلس الأعلى للدولة، قيادة جبهة التحرير برئاسة الأمين العام السيد عبدالحميد مهري، برفقة عضوين بارزين في المكتب السياسي هما عبدالعزيز بالخادم الرئيس السابق للبرلمان وعلي بن فليس وزير العدل السابق. لماذا فشلت آخر محاولة للحوار بين السلطة الجديدة وجبهة التحرير؟ الحقيقة ان أسباب الفشل كانت مسجلة بوضوح في طبيعة تسلسل الأحداث وتطوراتها منذ مجيء غزالي الى رئاسة الحكومة في أعقاب "العصيان المدني" الذي أعلنته الجبهة الاسلامية للانقاذ في 25 أيار مايو 1991، هذا العصيان الذي أدى الى اسقاط حكومة حمروش في حزيران يونيو 1991. لقد عاد حمروش بعد استقالته الى قيادة جبهة التحرير الوطني بتوصية من الرئيس بن جديد شخصياً الى صهره السيد عبدالحميد مهري الأمين العام. وبتشجيع من الرئيس السابق أيضاً، اتخذ حمروش من جبهة التحرير منطلقاً للهجوم على خلفه غزالي وأدى رد الفعل المتشنج لهذا الأخير الى تسميم أجواء العلاقة بين الجبهة وحكومة غزالي الذي احتفظ مع ذلك بعضويته في لجنتها المركزية! وظهرت القطيعة بوضوح في خريف 1991 عندما قررت حكومة غزالي ان تتبنى قضية المترشحين الاحرار، بدل مترشحي جبهة التحرير الوطني كما جرت العادة قبل ذلك. وقد وجد غزالي في السيد علي كافي الامين العام لمنظمة المجاهدين آنذاك، حليفاً مهماً في هذا الطريق الوعر، وسرعان ما انضم اليهما السيد بلعيد عبدالسلام الذي سبق أن أعلن استقالته من اللجنة المركزية للجبهة خلال دورة الصيف للعام 1991. وفي 27 تشرين الأول اكتوبر 1991 عقد عبدالسلام ندوة صحافية، كانت بداية حملة شعواء على رفاقه السابقين في جبهة التحرير، وعلى رأسهم عبدالحميد مهري الذي وصفه ومن معه من أعضاء المكتب السياسي بپ"العصابة"، وهو وصف سبق لرئيس الحكومة غزالي أن استعمله أكثر من مرة. ودعا في ندوته تلك صراحة قاعدة جبهة التحرير "الى التمرد على قيادتها والالتفاف حول العناصر الوطنية النظيفة داخل وخارج الجبهة". وقد سجلت صحيفة محلية هذا الموقف بقولها: "هناك من يرى ان خرجة عبدالسلام ليست موقفاً معزولاً أو انتحارياً، بل حركة منسقة مع جهات اخرى باتجاه تكوين تجمع وطني واسع، يضم جناحاً من جبهة التحرير وحركة بن بللا وربما حركات أخرى، تجمع يكون أكثر استعداداً وتأهيلاً لمواجهة المواعيد الانتخابية القادمة والتصدي لجبهة الانقاذ تصدياً فعّالاً". لكن الانتخابات النيابية التي كانت مقررة في كانون الأول ديسمبر 1991 وكانون الثاني يناير 1992 داهمت عبدالسلام وأنصار التجمع قبل ظهوره الى الوجود، واضطر رئيس الحكومة الحالي الى ركوب قطار المترشحين الاحرار - بقيادة سلفه غزالي - لكن هذا القطار حاد عن سكة الفوز في الدور الأول، فكان عبدالسلام هو الآخر من الساقطين. ضرب الاحزاب وتعود أسباب الطلاق بين السلطة الحالية وجبهة التحرير الى حسابات قديمة، وقد اصبحت اليوم أكثر من أي وقت مضى مشخصة في كل من مهري ومساعده مولود حمروش. فالمجلس الأعلى للدولة يحبذ تحييد هذين العنصرين لارتباطهما بالرئيس السابق الشاذلي بن جديد، لكي تعود المياه الى مجاريها مع جبهة التحرير، لكن مهري وحمروش يصران على التمسك بقيادة الجبهة مثلما يتمسك الغريق بطوق النجاة، ولو أدى الأمر الى اغراق الطوق ذاته! وقد استطاع مهري في الدورة الاخيرة للجنة المركزية التي انعقدت عشية الاحتفال بذكرى ثورة فاتح نوفمبر تشرين الثاني، ان يناور بنجاح لتأجيل مؤتمر الجبهة المقبل الى منتصف العام المقبل، بينما كان "أنصار التغيير" يطالبون بعقده قبل نهاية العام الجاري. بيد أن عملية استعادة أملاك الدولة لا تعني جبهة التحرير وحدها، فقد سبق للسلطات الجزائرية ان سارعت الى استرجاع مقرات "الجبهة الاسلامية للانقاذ"، فور صدور الحكم بحلها في 4 آذار مارس الماضي، ومن دون انتظار نتيجة الطعن المقدم الى المحكمة العليا. وتشمل العملية بقية الاحزاب الاخرى بلا تمييز بين صغيرها وكبيرها، وسواء أكانت من اليمين أو الوسط أو اليسار! والواقع ان هذه العملية تعود الى عهد الرئيس بوضياف الذي ثار على فكرة دعم الاحزاب مالياً ومادياً من قبل السلطة، مؤكداً ان الحزب الحقيقي هو من يمول نفسه بنفسه بواسطة مناضليه. ويقف المراقبون في العاصمة الجزائرية ازاء هذه العملية حائرين بين تفسيرات عدة أهمها: انها تكرس فشل الحوار مع الاحزاب أو تشكك في جدوى هذا الحوار أصلاً. ان هناك نية مبيتة لضرب الاحزاب بهدف خلق الاجواء الملائمة لاعلان حالة الاستثناء الطوارئ وتعليق العمل بالدستور وتجاوز المأزق الحالي المتمثل في التقيد الصوري بالدستور، وهو تقيد لم يعد ينطلي على أحد. وسيؤدي ذلك الى الحد من نشاط الاحزاب، وتطبيق برنامج حكومة عبدالسلام في ظل أقل ما يمكن من التهريج ووجع الرأس السياسي. ان هناك سوء تفاهم أو سوء تنسيق بين مجلس أعلى قطع شوطاً مهماً في محاورة الاحزاب، وحكومة تريد "محاورة" هذه الاحزاب بلغة مغايرة تماماً هي "لغة" التجريد من أملاك الدولة الثابتة والمنقولة. فأي هذه التفسيرات أقرب الى الحقيقة؟ الجواب في الأسابيع القليلة المقبلة. ايران وجبهة الانقاذ وفي انتظار ذلك، يبدو واضحاً ان بلعيد عبدالسلام يتصرف على أساس ان حكومته باقية سنوات عدة عملاً بالقول: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً". ولقد أعلن رئيس الحكومة ان وضع برنامج حكومته موضع التنفيذ وبلوغ النتائج المرجوة يستلزم من ثلاث الى خمس سنوات. وكان هذا التصريح يبدو معقولاً ومقبولاً، لو لم يكن الأمر يتعلق بالجزائر وبالمجلس الأعلى للدولة بالذات، فهذه الهيئة العليا التي تم اعلان تأسيسها في 14 كانون الثاني يناير الماضي، حددت مهمتها منذ الوهلة الاولى بالفترة النيابية الثالثة للرئيس المستقيل التي تنتهي في أواخر 1993. فهل يمكن لحكومة عبدالسلام ان تستمر فترة أطول من فترة مجلس الدولة الذي كوّنها ونفخ فيها شيئاً من شرعيته الفعلية؟ يبدو لعدد من المراقبين المطلعين ان كلام عبدالسلام يعني ان الجزائر ستعيش في ظل "شرعية" المجلس الأعلى للدولة الناقصة مدة أطول من تلك المنصوص عليها في بيان 14 كانون الثاني يناير الماضي 1992. وضمن هذا الاطار، أقدم رئيس الحكومة الجزائرية هذا الشهر على خطوتين لافتتين للانتباه: الأولى داخلية والثانية ذات طابع خارجي فعلى الصعيد الداخلي أقال عبدالسلام وزير العدل في حكومته السيد عبدالحميد ماحي باهي وعين خلفاً له رئيس المحكمة العليا السيد محمد تقيه. وقد تمت اقالة باهي اثر قراره توقيف عدد من القضاة عن العمل ومن بينهم مدعي عام العاصمة الجزائر عبدالملك صياح ورئيس محكمة مستغانم الهادي بريم. ووصف بيان للحكومة هذه القرارات بأنها "ظالمة وفي غير محلها". كما أخذ على الوزير المعزول عدم قيامه باستشارة رئيس الحكومة عبدالسلام عند اتخاذ قراره. لكن مصادر ديبلوماسية مطلعة ذكرت ان اقالة الوزير لها "علاقة ما" بقضية اغتيال بوضياف، اذ ان ماحي باهي كان مقرباً جداً من الرئيس الراحل وكان راغباً في كشف خفايا عملية اغتياله. الخطوة الثانية كانت قرار تقليص مستوى التمثيل الديبلوماسي بين الجزائر وإيران وابعاد سبعة ديبلوماسيين ايرانيين من الجزائر بينهم الملحقان العسكري والثقافي. وقد اتهمت وزارة الخارجية الجزائريةايران بالتدخل في شؤونها والقيام بأعمال معادية ضدها، كما ذكر بعض وسائل الاعلام الجزائرية ان المستشار الثقافي الايراني عمل على ارسال "أصوليين" جزائريين الى لبنان حيث تلقوا تدريبات في معسكرات تابعة لحزب الله. وقالت صحيفة "الوطن" الجزائرية ان السفارة الايرانية كانت تدعم جبهة الانقاذ وتنصحها بالعمل على تسلم السلطة في البلاد.