بدأت الحكومة الجزائرية ما يمكن اعتباره "حرباً شاملة" ضد الاصوليين الاسلاميين، اذ فرضت حظر التجول في العاصمة وست مناطق اخرى ابتداء من يوم 5 كانون الأول ديسمبر الجاري، من الساعة العاشرة والنصف وحتى الخامسة صباحاً. وكانت السلطات الجزائرية أعلنت حالة الطوارئ في شباط فبراير الماضي ولمدة 12 شهراً عندما اندلعت اضطرابات بعد الغاء الانتخابات العامة التي احرزت فيها الجبهة الاسلامية للانقاذ تفوقاًً واضحاً. وفي آذار مارس تم حظر نشاط الجبهة. ويوم 4 كانون الأول ديسمبر الجاري انتهت مهلة عفو مدتها شهران كانت اعلنت طبقاً لقانون جديد لمكافحة الارهاب صدر في تشرين الأول اكتوبر الماضي. وقد سلّم نحو 100 متطرف انفسهم تجنباً للمحاكمة أو للافادة من تخفيف الاحكام. وقبل فرض حظر التجول حذر رئيس الوزراء بلعيد عبدالسلام من اجراءات جديدة ستتخذ قريباً قائلاً، ان حكومته يجب ان تحطم شبكة المنظمات التي تدعم الارهابيين. وأضاف انه أمر بحل ما سماه "شبكة العنكبوت" من المجالس والاجهزة والشركات التي يسيطر عليها اصوليون اسلاميون، ومن بينها سلطات محلية يديرها رجال انتخبوا في حزيران يونيو 1990 على قائمة الجبهة الاسلامية للانقاذ. واعتبر المراقبون هذه الخطوات بداية حرب شاملة ضد جبهة الانقاذ المنحلة وأنصارها. وفي هذا الاطار كتبت نيفين عبدالمنعم مسعد، الخبيرة بشؤون الشرق الاوسط والمتابعة تطورات الوضع الجزائري، هذا المقال الخاص لپ"الوسط": في 26 كانون الأول ديسمبر الجاري يمر عام كامل على إجراء الدورة الاولى للانتخابات التشريعية الجزائرية. وكانت تلك الانتخابات فجرت ازمة سياسية حادة أدت الى الغاء نتائج الانتخابات وتعطيل الحياة النيابية وإعلان حالة الطوارئ في البلاد. ومع تخلي الرئيس الشاذلي بن جديد عن الرئاسة اكتسب الوضع في الجزائر أبعاداً جديدة ودخلت الدولة في مواجهة مسلحة مع الجماعات الخارجة عن شرعيتها. واليوم تسعى الجزائر الى تجاوز ازمتها وتحاول تحقيق المصالحة السياسية عبر بعث مشروع التجمع الوطني للرئيس الراحل بوضياف، وهناك أكثر من طرف واحد ينازع الدولة سيادتها على نحو يتهدد هذا المشروع وينذر بتجميد الاوضاع. فكيف يمكن ان تكون ذكرى الانتخابات التشريعية الجزائرية مناسبة حقيقية لتأكيد هيبة الدولة وسحبها للبساط من تحت أقدام القوى المناوئة؟ وما هي المؤشرات التي نستخلصها من تلك الانتخابات وتفيد في بلورة مشروع التجمع الوطني وإخراجه الى حيز الوجود؟ هذا يستدعي تحليلاً لهذه الانتخابات التشريعية من حيث ادارتها ونتائجها ودلالاتها بالنسبة الى جهود المصالحة السياسية في الجزائر. في ما يتعلق بإدارة الحملة الانتخابية، فمن الممكن ان نسجل بخصوصها ثلاثاً من الملاحظات الأساسية: 1 - بلغت نسبة المشاركين في تلك الانتخابات 59 في المئة من اجمالي المقيدين بالجداول الانتخابية وعددهم 771،334،13 ناخباً يمثلون 48 في المئة من اجمالي الشعب الجزائري. وتلك النسبة تقل قليلاً عن النسبة المناظرة للتصويت على مستوى البلديات والولايات. وعلى الرغم من أن مقاطعة 41 في المئة من الناخبين للانتخابات التشريعية لا تمثل ظاهرة فريدة في الممارسة السياسية الجزائرية، مقارنة بالتجارب المناظرة، الا ان دلالتها تكمن في ان الارتفاع الكبير في عدد من الاحزاب المشاركة في انتخابات 1991 49 حزباً من اجمالي 58 حزباً مقارنة بما كان عليه الوضع في انتخابات 1990 11 حزباً من اجمالي 22 حزباً لم يشكل في حد ذاته عاملاً جاذباً للقوى الانتخابية. وهذا يعني ان ما يقل قليلاً عن نصف عدد الناخبين الجزائريين أعلنوا بكل وضوح أنهم لا يجدون ضالتهم الايديولوجية في أي من التيارات السياسية الأربعة القائمة: تيار أقصى اليسار، التيار الاجتماعي - الديموقراطي و/أو البربري، التيار الوطني والتيار الاسلامي. 2 - حتى على مستوى المشاركين في تلك الانتخابات فان خياراتهم السياسية لم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالبرامج الانتخابية للمرشحين، بل أتت تلك الخيارات في مجملها على درجة عالية من العشوائية مبعثها غموض البرامج الانتخابية وعدم وضوحها. فلو توقفنا إزاء أكبر الاحزاب الفائزة في الانتخابات التشريعية، أي الجبهة الاسلامية للانقاذ، لوجدنا ان هذا الحزب لم يتخذ قرار المشاركة في الانتخابات إلا في شهر انعقادها، وتلك ملاحظة كانت لها دلالتها في ما يختص بدرجة استعداده للمعركة الانتخابية. ومن جانب آخر، فان البرنامج الانتخابي للجبهة استلهم الخطوط العريضة لبرنامجها العام والمعلن من قبل على رغم ما يميزه من غموض لا سيما في الشق الخاص بالنظام السياسي المقترح. فمن اللافت للنظر أن من مجموع ست عشرة صفحة صيغ فيها هذا البرنامج، لم يحتل المشروع السياسي أكثر من صفحتين اثنتين، وحتى داخل هذا الحيز الضيق أمكن لنا أن نلمح خلطاً واضحاً بين السياسة كنظام للحكم وبين السياسة كإطار لمعالجة القضايا المتخلفة من اقتصادية واجتماعية وأمنية... الخ، تلك الظاهرة، أي ظاهرة الانفصال بين التأييد الحزبي ودرجة الاقتناع بالبرنامج الانتخابي، عرفتها انتخابات البلديات والولايات بصورة أعمق، ففي دراسة لروبرت موريمر عن التعددية السياسية في الجزائر، يكشف النقاب عن مفارقات مهمة قوامها أن عباسي مدني زعيم جبهة الانقاذ الذي استضافه البرنامج التلفزيوني "في مواجهة الصحافة" للرد على استفسارات المواطنين عن مشروع جبهته، لم يحصل في الاقتراع التليفوني اللاحق على التسجيل على أكثر من ثلاث درجات ونصف الدرجة من اجمالي عشر درجات، في الوقت الذي حصل سعيد سعدي زعيم حزب التجمع من اجل الثقافة والديموقراطية على ست درجات ونصف الدرجة. ومن الغريب انه في الوقت الذي لم يفز حزب التجمع في أكثر من ولاية واحدة و87 بلدية فإن جبهة الانقاذ فازت في 32 ولاية و853 بلدية، الامر الذي يوضح درجة التخبط في اختيارات الناخبين الجزائريين. 3 - تغلبت النزعة الاستبعادية أو الاقصائية على تفاعلات القوى السياسية مع بعضها البعض. ولعل هذا المتغير بدوره مارس تأثيراً على تشتيت أصوات الناخبين أو قادها الى المقاطعة. فقد كان من المألوف ان تتبادل الحملات الدعائية الحزبية أوصاف الكفر والإلحاد أو ما يقابلها، كالشمولية والاستبداد. ويرتبط بهذه النقطة ان انتخابات 9911 اختلفت عن انتخابات 1990، من زوايا ثلاث أساسية: الزاوية الأولى: مزيد من التركيز في أساليب الدعاية الانتخابية، بعد إقرار المجلس الشعبي الوطني لقانون جديد يحظر تنظيم التظاهرات التي كثر اللجوء اليها في انتخابات 1990. الزاوية الثانية: ارتفاع حدة التصعيد في أعمال العنف الشعبي ضد السلطة. فعلى رغم أن انتخابات 1990 شهدت وقوع احداث عنف متفرقة في مناطق تيبازا وسوق أهراس، الا أن انتخابات 1991 انفردت بحادث هو الأول من نوعه منذ الاستقلال وهو التعدي على المخفر الامني في منطقة قمار الحدودية. الزاوية الثالثة: انفضاض ظاهرة التحالفات الحزبية التي شهدتها انتخابات 1990 وأسفرت عن ظهور تحالف خماسي بين مجموعة الاحزاب الاجتماعية - الديموقراطية، وآخر موازٍ له على المستوى الاسلامي، ومن المفارقة ان الاحزاب الجزائرية الثمانية والخمسين التي لم تخف انبهارها بفكرة الائتلاف واتخذ العديد منها لنفسه اسم الجبهة أو أضاف لاسمه صفة الوحدة أو الوحدوي، وقعت هي نفسها أسيرة آفة الانشقاق والتشرذم. وفي ما يتعلق بنتائج الانتخابات التشريعية فقد أتت، مقارنة بنتائج انتخابات البلديات والولايات على النحو الآتي: في انتخابات المجلس الشعبي الوطني 232 مقعداً في 26/12/1991، جاءت النتائج كما يأتي: - الجبهة الاسلامية للانقاذ فازت بپ188 مقعداً 81 في المئة. - جبهة القوى الاشتراكية فازت بپ25 مقعداً 7،10 في المئة. - جبهة التحرير الوطني فازت بپ16 مقعداً 9،6 في المئة. - المستقلون فازوا بپ3 مقاعد 3،1 في المئة. وفي انتخابات البلديات 1539 بلدية والولايات 48 ولاية في 12/6/1990، جاءت النتائج كما يأتي: - الجبهة الاسلامية للانقاذ فازت بپ853 بلدية 42،55 في المئة وبپ32 ولاية 7،66 في المئة. - جبهة التحرير الوطني فازت بپ487 بلدية 64،31 في المئة وبپ14 ولاية 14،29 في المئة. - المستقلون فازوا بپ106 بلديات 88،6 في المئة وبولاية واحدة 2 في المئة. - التجمع من اجل الثقافة والديموقراطية فاز بپ87 بلدية 65،5 في المئة وبولاية واحدة 2 في المئة. - الحزب الوطني من اجل التضامن فاز ببلديتين 129،0 في المئة وبلا شيء في الولايات. - الحزب الاجتماعي - الديموقراطي فاز ببلديتين 129،0 في المئة وبلا شيء في الولايات. - حزب التجديد الاشتراكي فاز ببلديتين 129،0 في المئة وبلا شيء في الولايات. من الممكن القول انه باستثناء جبهة القوى الاشتراكية التي لم تختبر قوتها في انتخابات البلديات والولايات بسبب مقاطعتها لها، فإن مختلف القوى السياسية التي توزعت عليها مقاعد الدورة الأولى للانتخابات التشريعية شهدت تراجعاً نسبياً في شعبيتها كما يتضح مما يأتي: 1 - حصلت الجبهة الاسلامية للانقاذ على 359،260،3 صوتاً في انتخابات 1991، وذلك بفارق يقل بنحو مليون صوت عن انتخابات 1990، وسواء أرجعنا هذا التطور الى الازمة الداخلية التي عاشتها الجبهة خلال أزمة وحرب الخليج الثانية، أو أرجعناه الى ممارسات الجبهة على مستوى البلديات والولايات طيلة عام كامل، فإن الدلالة الحقيقية لهذا التطور تكمن في أنه مع كون الجبهة احتفظت بتفوقها المطلق على بقية القوى السياسية الجزائرية، فإن تفوقها النسبي تراجع بدرجة معينة. 2 - حصلت جبهة التحرير الوطني على 507،613،1 اصوات بفارق يقل قليلاً عن مليوني صوت عن جبهة الانقاذ لكون مشكلاتها مع مجتمعها ومع نفسها كانت أكبر وأعمق. ومن اللافت للانتباه ان التقطيع الجديد للدوائر الانتخابية حرم جبهة التحرير من التمثيل في البرلمان بما يتوازى وشعبيتها الحقيقية. وذلك فانه في الوقت الذي لم تحصل فيه جبهة التحرير على أكثر من 16 مقعداً برلمانياً، فإن جبهة القوى الاشتراكية تمثلت بپ25 عضواً برلمانياً، بينما لم تحصل على أكثر من 0661،510 صوتاً. 3 - فشلت الحركة من أجل الديموقراطية التي يتزعمها الرئيس السابق أحمد بن بللا في الوصول الى البرلمان، على رغم انها كانت القوة التي راهن عليها البعض لاعادة تشكيل التوازنات السياسية في الجزائر في أعقاب انتخابات البلديات والولايات. وتلك الازمة في جوهرها هي جزء من أزمة التيار الوطني بكل فصائله: جبهة أجيال الاستقلال، الجبهة الوطنية للشهيد، حزب عهد 54، الحركة الجزائرية من اجل العدالة والتنمية، فضلاً عن جبهة التحرير الوطني ذاتها. مأزق الدولة أما في ما يتعلق بالمؤشرات المستقاة من تلك الانتخابات والمتصلة ببلورة مشروع التجمع الوطني، فإن من الممكن الحديث عن ثلاثة استخلاصات أساسية بهذا الخصوص: 1 - إيجاد المشروع الوطني الذي يمثل الأساس الموضوعي المتين لهذا التجمع. فقد ثبت ان ثمة خواءً فكرياً تعاني منه التيارات القائمة طبع سلوك المواطن الجزائري تجاهها بطابع تراوح بين العشوائية والاعتزال. وتأكد ذلك أكثر على ضوء ملاحظة التراجع في شعبية ومن ثم شرعية كل الفصائل والقوى السياسية الجزائرية من انتخابات 1990 الى انتخابات 1991. المطلوب اذن هو ترشيد هذا السلوك من خلال ايجاد الهدف الوطني الذي يقنع الجزائريين ويجمعهم من حوله. وهنا، فان مواجهة العنف السياسي تمثل الهدف الأكثر ملاءمة لهذه المرحلة، ليس فقط لأن العنف يرتبط بتهديد الاستقرار، والاستقرار قرين التنمية الاقتصادية ولكن هذا، وهو الأهم، لأنه بات يتهدد حياة المواطن العادي الذي يتردد على المسجد أو المخفر أو المصلحة بعد ان طالت يد الارهاب تلك الاماكن كلها. 2 - توسيع نطاق هذا التجمع ليشمل وبالأساس القوى والفعاليات الشابة القادرة على التواصل مع 65 في المئة من السكان دون سن الخامسة والعشرين. ولا يرتبط ذلك ميكانيكياً بزيادة عدد الاحزاب السياسية الداخلة في تشكيل التجمع، فلقد اثبتت الخبرة الانتخابية الجزائرية انه كانت ثمة علاقة عكسية بين المشاركة السياسية من جهة والزيادة في عدد الاحزاب السياسية من جهة اخرى. لكن ذلك يرتبط أساساً بإشراك المزيد من القوى المستقلة والشابة من قيادات دينية وطلابية وثقافية ونقابية قد تكون لها طروحاتها البديلة لكنها غير مؤطرة بالضرورة في أطر وتشكيلات حزبية. 3 - الحذر من تحايل هذا التجمع الوطني على صيغة التعددية السياسية الراهنة ليعيد مجدداً تقنين نظام الحزب الواحد. فعلاوة على ان هذا النوع من الإحلال يتنافى مع الاتجاه العام السائد دولياً وإقليمياً فلقد أثبتت التجربة الانتخابية الجزائرية عجز ورثة الحزب الواحد والكفاحية السياسية عن تجييش مشاعر المواطنين الجزائريين بعد انقضاء ثلاثة عقود على استقلالهم. أكثر من ذلك، فإن الفهم العميق لدور التجمع الوطني في هذه المرحلة يجعل منه خطوة على طريق تهدئة الاوضاع تمهيداً لاستئناف المسيرة الانتخابية وتأكيد التطور الديموقراطي. إن الدولة في الجزائر تواجه مأزقاً حقيقياً أخطر ما فيه أنه قد يجعل من الوضع الاستثنائي الراهن وضعاً طبيعياً يألفه الناس ويتعايش معه النظام مع مرور الوقت، وهذا يعني ان على القيادة السياسية ان تتحرك من هذه اللحظة ذاتها لتفرض ارادة التغيير على كل القوى المضادة في المجتمع. * خبيرة في شؤون الشرق الاوسط وأستاذة العلوم السياسية في كلية الاقتصاد جامعة القاهرة.