كان كل شيء مهيأ لصدام دامٍ امام عدد من مساجد الجزائر بعد صلاة الجمعة. شباب غاضب يشعر بأن أمله في الدولة الاسلامية التي "ستحلّ" كل مشاكله قد اختطف منه، وجنود مشحونون بالتوتر والخوف من رصاصات غادرة وقد حاصروا المساجد وتسلحوا استعداداً لمعركة حاسمة وسط تخويف اعلامي من رجال الجماعات المتطرفة و"الافغان" و"التكفير والهجرة" الذين يضربون ثم يختفون. لو حصلت المذبحة لتغيرت طبيعة المعركة القائمة بين السلطة الحالية والجبهة الاسلامية للانقاذ، ولاندفعت الجزائر نحو دوامة من العنف بين فريقين يدخلان معركة "لا يؤخذ فيها اسرى"، ولا بد ان يخرج فريق منها منتصراً. تصريحات رئيس المجلس الاعلى للدولة محمد بوضياف تشير الى ان السلطة لديها خطة كاملة لاقتلاع الجبهة الاسلامية للانقاذ. فلقد بات يركز على استعادة هيبة الدولة، ويعني ذلك استعادة قدرتها على منع خطباء المساجد من التهجم على اعلى سلطة في البلاد ومن المسيرات التي تسخر مرة أخرى من اعلى سلطة في البلاد، ومن البيانات التي تتهم الطبقة الحاكمة بالعمالة والفساد، وكل ذلك حصل في عهد الرئيس السابق الشاذلي بن جديد. وعندما يتحدث بوضياف عن الديموقراطية فانه يتبعها بكلمة "الحقيقية"، وفسرها في مؤتمره الصحافي الأخير بقيام احزاب تعتمد على "برامج ونظريات سياسية، وليس على دين او لغة". ولذلك عقب على تأكيده بأن الاحزاب الاسلامية، غير جبهة الانقاذ، يمكنها ان تعمل في اطار القانون حالياً غير ان "المستقبل في علم الله". احد الناشطين في الجبهة الاسلامية، ويعمل كطبيب، قال لنا: "ان الجبهة الاسلامية تدرك انها مستهدفة وأن السلطة لن تتوقف الا بعد ان تحجمها، ولكن حتى لو حصل ذلك فان المشروع الاسلامي والطموح لبناء الدولة الاسلامية زرعته الجبهة الاسلامية في ضمير الشعب الجزائري ولا بد ان يتحقق". حسين آيت احمد زعيم جبهة القوى الاشتراكية والذي يختلف مع الجبهة الاسلامية في مشروعها السياسي ولكنه يتفق معها في معارضة النظام، أكد قائلاً: "ان ما تفعله السلطة حالياً تستفيد منه الجبهة الاسلامية، ودائرة العنف تولد العنف". ولكن لماذا تراجعت الجبهة الاسلامية عن الاحتكام الى الشارع وتحريك التظاهرات؟ يقول الطبيب الناشط مع الانقاذ والذي طلب عدم ذكر اسمه: "الجزائر ليست ايران وشعبنا لا يحتمل فكرة ان يقتل الجزائري اخاه والسلطة لن تتردد في القتل محتكمة بذلك الى القانون الذي وضعته، ونحن سنخسر الرجال ونتحمل وزر الدماء". الشيخ عبدالله جاب الله زعيم حركة النهضة التي انتقل كثير من افرادها الى الانقاذ، ومنهم الزعيم المعتقل عبدالقادر حشاني، اوضح لنا ان "للمسألة جانبها الشرعي، فهل يجوز ان ندفع الشباب الى التظاهر والتعرض لنيران الشرطة؟ ان ما اعتقده ان هذا لا يجوز شرعاً". محفوظ نحناح زعيم حركة حماس - الاخوان المسلمون الجزائريون - والذي اتهم الجبهة بالتسرع ذكر "ان المسألة لا تستحق سفك الدماء واشعال فتنة في الوطن بينما الحكم وضعه صعب، وعلى الجبهة ان تنتظر". ويضيف نحناح الذي يتزعم حركة من المثقفين الاسلاميين: "ان ما حصل في الجزائر يؤكد ما ذهبنا اليه من قبل بأن الدولة الاسلامية تحتاج، على الأقل، الى عشر سنين منذ بداية العمل العلني… ولكن الاخوة لم يقتنعوا بذلك". ويستدرك نحناح مؤكداً تماسك النظام في الوقت الحاضر، فهو يرى ان "العنصر الهام في التركيبة الحاكمة هو الجيش، اما ما يطرأ من خلافات بين السياسيين فليس مهماً، وانما هو لصرف الانتباه بعيداً عن المعركة الحقيقية" حسب قوله. صراع مهري - غزالي وكانت المماحكات السياسية تصاعدت بين الامين العام لجبهة التحرير الوطني عبدالحميد مهري ورئيس الحكومة سيد احمد غزالي وقد اتخذ الأول موقفاً معارضاً للسلطة الجديدة وان كان دون موقف الجبهة الاسلامية والقوى الاشتراكية. وشنت صحيفة "الشعب" الناطقة باسم جبهة التحرير الوطني حملة على رئيس الحكومة ودعت الى استقالته. وذهبت الى حد القول ان "فاقد الشيء لا يعطيه" وأن غزالي "بعيد عن الثورة". وتقول مصادر جبهة التحرير ان غزالي يحرك الاتجاه المضاد لمهري داخل جبهة التحرير بهدف ابعاده، ويبدو ان العلاقات ليست على ما يرام بين الأخير وبين بوضياف، اذ نشرت "الشعب" رسالة مفتوحة من مهري الى رئيس المجلس الاعلى يدعوه فيها الى حوار وطني "لتجنب البلاد مخاطر مسلسل العنف والصراعات الدموية"، وذكرت الصحيفة ان مهري تقدم بطلب لمقابلة بوضياف ولكنه لم يتلق رداً. غير ان الرد جاء من خلال وكالة الانباء الجزائرية الرسمية التي ذكرت ان سبب رفض بوضياف استقبال السيد مهري على انفراد هو "الازمة التي تعيشها جبهة التحرير منذ سنوات عدة". وأضافت الوكالة "ان لا احد يجهل ان القيادة الحالية للجبهة والمتمثلة في شخص السيد مهري، تلقى معارضة شديدة داخل اللجنة المركزية ولدى قاعدتها". ونسبت الى المصادر قولها ان السيد بوضياف اعتذر عن استقبال مهري حتى لا يفسر ذلك بأنه تدخل في الشؤون الداخلية للحزب. وتستمر المشاكل بين رجال السلطة السابقين. فرئيس الوزراء السابق مولود حمروش مهدد بالاعتقال بسبب تحميله مسؤولية احداث حزيران يونيو 1991 عندما اصطدمت الجبهة الاسلامية بالجيش وتم اعتقال قادتها. وكان حمروش التقى عباسي مدني وعلي بلحاج في السجن العسكري في البليدة، وقيل انه طالب بضرورة استماع المحققين لشهادة الرئيس السابق بن جديد. ولا توفر الشائعات مستقبل حكومة سيد احمد غزالي التي اعلن بوضياف وجود نية لتحجيمها. ويبدو ان رغبة السلطة - اي الجيش - هو تشكيل حكومة من التكنوقراط غير المسيسين، وذلك لتنفيذ خطتين، واحدة اقتصادية يتقدم بها غزالي، وأخرى أمنية يتولاها وزير الداخلية بلخير صاحب اقوى الصلاحيات في الجزائر حالياً بحكم قانون الطوارئ. وتطمح القيادة الحاكمة من خلال هاتين الخطتين الى تغيير الواقع السياسي في الجزائر ومعالجة الاسباب التي أدت الى ظهور الجبهة الاسلامية. 20 ألف معتقل؟! وفي لقائه الاخير مع الصحافيين الاجانب ركز بوضياف على ان الرسالة التي اراد الناخب الجزائري ان يوصلها الى السلطة، وهي انه يريد التغيير الجذري، وصلت، كما ركز على النقطة نفسها في خطابه الى المواطنين. ويؤمن بوضياف بأن معالجة مشاكل الشباب وتوفير فرص العمل واصلاح النظام التربوي سوف تجفف المنابع التي تحصل منها الانقاذ على مؤيديها، لذلك يدعو الى تشكيل تجمع وطني للشباب، "فليس هناك من سيحل مشاكلكم اذا لم تبادروا وتشكلوا هيئة تمثلكم لمناقشة قضاياكم واقتراح الحلول لها". ويرى بو ضياف انه لا بأس من تربية الشباب الذين انجرفوا خلف اعمال العنف، لذا فإن "توقيف الشاب لمدة شهرين او ثلاثة اشهر ليس خطأ اذا اريد من ذلك ابعاده عن العنف والبلاد في حالة طوارئ". ويلاحظ ان قرار اعلان حالة الطوارئ اجاز لوزير الداخلية انشاء مراكز امن يوضع فيها "اي شخص راشد يتضح ان نشاطه يشكل خطورة على النظام والامن". واعترف بو ضياف بأن عدد المعتقلين يراوح ما بين خمسة و ستة آلاف، معظمهم من الشباب، "لان معظم سكان الجزائر من الشباب" حسب قوله، بينما تتوقع مصادر مقربة من الانقاذ ان يصل عدد المعتقلين الى 20 الفاً، ويستنتج احدهم ان رقم 20 ألف هو ابتدائي يشمل العاملين في البلديات الاسلامية فقط. وكانت الجبهة الاسلامية فازت بحوالى 875 بلدية، واذا قدر ان في كل بلدية 20 موظفاً من انصار الجبهة الاسلامية فان اجمالي الانقاذيين المرشحين للاعتقال هو 500.19. زي نسائي جديد غير ان نورالدين بوكراح زعيم حزب التجديد الجزائري يرى ان الاعتقالات ليست سوى تسكين لصداع مزمن "فالجبهة الاسلامية ستظهر من جديد بصورة او بأخرى والقمع يكسبها تعاطفاً وشعبية". ويقول بوكراح ان على الدولة ان تعمل لحل المشاكل التي ادت الى ظهور التيار الاصولي بهذه القوة، واول الحلول التي يقدمها هو التخلص من الحرس القديم اذ "لا يزال هؤلاء يُسيّرون الامور في الجزائر بل ان كثيراً من الماركسيين لا يزالون في مواقع عديدة في السلطة والماركسية التي سموها في الجزائر الاشتراكية العلمية هي التي جلبت الكوارث الى البلاد". غير ان بوكراح يرفض المشاركة في الحكم او في المجلس الاستشاري الذي يشاع ان المجلس الاعلى سينشئه ويقول "في ظل الظروف الحالية افضل ان اكون في المعارضة فالمجلس الاعلى يمتلك كل الصلاحيات ولن يكون لأحد اي دور معه"، ويوافقه في ذلك محفوظ نحناح زعيم حماس الذي ينفي ان يكون وافق على المشاركة في المجلس الاستشاري، ويقول: "اذا كان المجلس للاستشارة فقط ولا يملك ان يحاسب او يعترض فلا يمكن ان ادخل مجلساً كهذا"، غير ان بوضياف نفسه غير متحمس لمشاركة السياسيين اذا فسر رفضه لمشروع حكومة الوحدة الوطنية على هذا النحو، ولكن هل يحتاج النظام الى قاعدة سياسية شعبية يقف عليها. يقول محفوظ نحناح "نحن حالياً في مرحلة ما بين الديموقراطية والديكتاتورية واذا ما عجز السياسيون عن التفاهم وكثرت المشاكل بينهم فأحسب ان الجيش سيتولى السلطة مباشرة وننتقل الى الديكتاتورية الكاملة". ولا تقتصر خطة المجلس الاعلى للقضاء على الجبهة الاسلامية على المسائل الاساسية، كبسط سلطة الدولة واعادة هيبتها والاصلاح الاقتصادي والتغيير الجذري بابعاد الحرس القديم وانما تتطرق الى التفاصيل الدقيقة التي تتضح بعض معالمها كل يوم. فمنذ فترة يعلن التلفزيون الجزائري عن مسابقة لتصوير تصاميم ازياء شعبية تحمي الزي النسائي الوطني وتجعله ميسراً لجزائرية اليوم، ولعل هذا يعكس رغبة السلطة في حسم مسألة الحجاب الذي انتشر بين الفتيات، بل وظهر النقاب والقفازات ايضاً. ويرى بعض المسؤولين الجزائريين ان لايران اثراً ما في تحريك الشباب الجزائري. غير ان احد الناشطين في جبهة الانقاذ يعلق على ذلك بانه "دليل على ابتعاد السلطة الحاكمة عن معرفة الواقع الجزائري. فالتيار الاحتجاجي الاقوى داخل الجبهة الاسلامية ليس تياراً متأثراً بايران". حاضرة - غائبة وتبقى المعجزة الجزائرية الكبرى التي ينوي رئيس الحكومة سيد احمد غزالي انجازها وهي الانعاش الاقتصادي وتحويل الجزائر الى اقتصاد السوق الحر من دون عيوب "الرأسمالية اللااخلاقية"، حسب تعبير بوضياف. ويعكف غزالي في منزله منذ ايام مع فريق عمل على اعداد الخطة الموعودة، في الوقت الذي يجوب فيه وزير الخارجية الاخضر الابراهيمي الدول الاوروبية والخليجية بشكل خاص بحثاً عن الدعم اللازم لتحقيق المشروع الذي تنتظره تحديات عدة تبدأ بالوضع الامني غير المستقر وببلديات اسلامية ترفض الاعتراف بشرعية السلطة - وان كان من المؤكد انها ستحل قريباً - ومديونية هائلة واعادة تأهيل لملايين العاطلين عن العمل، بالاضافة الى سلسلة طويلة من الصعوبات ترهق اية عملية انعاش في دولة تمر بظروف طبيعية. وبعيدا عن التحليل الاقتصادي للازمة الجزائرية يطرح بعض المثقفين الازمة من جانبها الحضاري، فهي "مواجهة بين التيار العروبي الاسلامي والتيار الفرانكوفوني المستغرب، وهي مواجهة قديمة تعيشها الجزائر منذ الاستقلال". نور الدين بوكروح الذي يقف بحزبه ما بين التيارين اذ هو حزب عروبي اسلامي ينطق بالفرنسية، يوافق على هذا الطرح، فيقول "الانتخابات الاخيرة اظهرت ان هناك شعبين في شعب واحد، وما زاد من صعوبة الامر ان الاسلاميين العروبيين كانوا يشعرون دوما بالظلم، فالمناصب الكبرى في الوزارات والجيش والاعلام كانت دوما حكرا على الفرانكوفونيين، ولعل هذا هو الذي حركهم للدفاع عن مصالحهم، فشجعوا عملية وقف المسار الديموقراطي، ولكن هذا الاشكال يجب حله لكي نحافظ على استقرار ووحدة الجزائر". ولكن هناك جانب مخيف في العلاقة بين التيارين، خصوصا على مستوى القاعدة الشعبية، فبينما يوجد بين الاسلاميين من يذهب الى تكفير المجموعة الفرانكوفونية واتهامها بالعمالة، واثارة مخاوفها عن طريق الدعوة الى تهجيرها الى فرنسا، فهم "اولاد وبنات فرنسا"، يوجد في التيار الفرانكوفوني من يؤيد وبقوة اجراءات القمع ضد الانقاذ. فالسيدة فاطمة التي تملك معملا صغيرا لصنع الحلويات تقول: "لا بأس من قتل 3 او 4 آلاف كي يعود النظام، فهؤلاء الشباب غير منضبطين". ومن المفارقات ان ولديها من أنصار الانقاذ، وهي تقول انها طالما نصحتهما بالابتعاد عن الجبهة الاسلامية "إنهم كبار وعليهم ان يتحملوا المسؤولية". وعلى شاشة القناة الفرنسية الثانية ذهبت امرأة اخرى الى حد ابعد عندما دعت الى احراق انصار الانقاذ وهم احياء. وبينما يترقب الجميع المستقبل، فإن معظم الاحزاب الجزائرية لا تتوقع نجاح السلطة الجزائرية في مهمتها الصعبة، بما في ذلك جبهة التحرير التي انتقلت الى المعارضة بعد ان كانت الحزب الحاكم الوحيد طوال ثلاثين عاما. اما جبهة القوى الاشتراكية التي صودف ان جعلت شعارها الانتخابي "قوى المستقبل" فإن عينها على المستقبل اكثر من الحاضر، اما حماس الاخوان المسلمون فيبلغ حد الاعتقاد بأن الدولة الاسلامية قادمة، ولكن بعد 10 سنوات على الاقل. في الوقت نفسه يراقب الجميع الجبهة الاسلامية للانقاذ الموجودة - الغائبة، دون ان يعرف احد تحركها المقبل.