مدينة الأمير عبدالله بن جلوي الرياضية تستضيف ختام منافسات الدرفت    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    أمير الشرقية يفتتح أعمال مؤتمر الفن الإسلامي بنسخته الثانية في مركز "إثراء"    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    تهديدات قانونية تلاحق نتنياهو.. ومحاكمة في قضية الرشوة    لبنان: اشتداد قصف الجنوب.. وتسارع العملية البرية في الخيام    مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    الاتحاد يخطف صدارة «روشن»    دربي حائل يسرق الأضواء.. والفيصلي يقابل الصفا    انتفاضة جديدة في النصر    ارتفاع الصادرات السعودية غير البترولية 22.8 %    برعاية ولي العهد.. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    «التراث» تفتتح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    جامعة الملك عبدالعزيز تحقق المركز ال32 عالميًا    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «العقاري»: إيداع 1.19 مليار ريال لمستفيدي «سكني» في نوفمبر    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    «الأرصاد» ل«عكاظ»: أمطار غزيرة إلى متوسطة على مناطق عدة    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    السجل العقاري: بدء تسجيل 227,778 قطعة في الشرقية    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    تحت رعاية سمو ولي العهد .. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي.. تسخير التحول الرقمي والنمو المستدام بتوسيع فرص الاستثمار    محافظ جدة يطلع على خطط خدمة الاستثمار التعديني    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    نهاية الطفرة الصينية !    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    دمتم مترابطين مثل الجسد الواحد    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة الدور السياسي للمؤسسة العسكرية ... من الاستقلال الى اليوم . الجزائر : الجيش هو النظام
نشر في الحياة يوم 17 - 02 - 1992

الجيش هو النظام: هذه العبارة يمكن ان تختصر العلاقة القائمة بين المؤسسة العسكرية والنظام السياسي في الجزائر، منذ الاستقلال الى اليوم. وما يجري حاليا في الجزائر، اثر تصاعد حدة المواجهة بين الجيش - "القوة المنظمة الوحيدة" - والجبهة الاسلامية للانقاذ - "القوة المنظمة الجديدة" - وسقوط عدد كبير من القتلى والجرحى واعتقال المئات من عناصر الجبهة والمسؤولين فيها، يطرح تساؤلات كثيرة حول دور الجيش في هذا البلد، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. هذا التحقيق من داخل الجزائر يجيب عن التساؤلات المختلفة المطروحة حول دور الجيش ويسلط الاضواء على دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية الجزائرية، كما يكشف معلومات مهمة جديدة عن "حقيقة استقالة" الرئيس الشاذلي بن جديد.
علاقة المؤسسة العسكرية في الجزائر بالسلطة علاقة قديمة، تعود الى السنوات الاولى لثورة التحرير، ولعلها "الخطيئة الاولى" في هذه الملحمة الشهيرة. وقد تأكدت هذه العلاقة في 11 كانون الثاني يناير الماضي عندما ارغمت قيادة الجيش الرئيس الشاذلي بن جديد على تقديم استقالته، واضعة بذلك حدا مفاجئا لمسلسل "التنازل عن السلطة" في طبق من ذهب للجبهة الاسلامية للانقاذ التي كان من المتوقع ان تفوز بثلثي مقاعد المجلس الشعبي الوطني البرلمان الجزائري الذي يتكون من 043 مقعداً.
لم يكن الرئيس السابق يرى حرجاً في التعايش مع الاسلاميين اذا حصلوا على ثلثي مقاعد البرلمان، وذلك لغاية انتهاء ولايته الثالثة في اواخر 1993. وهذا الميل الذي اتضح لدى الرئيس السابق قبل اكثر من سنة، ازعج جناحاً قوياً في المؤسسة العسكرية وامتداداتها المدنية، خصوصاً عندما ادرك ان بن جديد يحاول التضحية بنظام كامل موروث عن الرئيس الراحل هواري بومدين في سبيل مصلحة شخصية عابرة وغير مؤكدة: ان يتمم ولايته الثالثة حتى نهايتها!
وفي خضم الاحداث الدامية التي ميزت نهاية "العصيان المدني" الذي دعت اليه جبهة الانقاذ ابتداء من 25 ايار مايو الماضي - استطاع هذا الجناح ان يقنع الرئيس السابق بالاستعداد للانسحاب خدمة للنظام، ولمصلحة سيد احمد غزالي وزير الخارجية آنذاك الذي جيء به كمنقذ لهذا النظام في 5 حزيران يونيو 1991.
لكن بعد ان تم القضاء على عصيان الاسلاميين واستتب الامن من جديد، بدا للرئيس الشاذلي بن جديد ان يغير موقفه! وأكثر من ذلك اخذ يفكر - بدافع من بعض المقربين منه - بتهيئة المناخ لطلب ولاية رئاسية رابعة! وبعد رفع حالة الحصار في اواخر ايلول سبتمبر الماضي، بدأ السباق الاخير بين "الرئيس المستقيل" وقيادة الجيش: ايهما يرغم الثاني على الانسحاب بشرف!
وتقول بعض المصادر المطلعة ان اللواء خالد نزار وزير الدفاع وانصاره كانوا اسرع مبادرة في 11 كانون الثاني يناير لأن بن جديد كان عازماً على عزلهم بعد 24 او 48 ساعة على ابعد تقدير من ابلاغه بضرورة تقديم استقالته.
وهكذا وضع الجيش حداً لوضع مهتز قبل ان يلجأ الى خيار جديد، من خلال الاستعانة بالسيد محمد بوضياف احد "الزعماء الخمسة" والشخصية الاولى في مسلسل الثورة الجزائرية. والزعماء الخمسة هم: محمد بوضياف وأحمد بن بللا ومحمد خيضر وحسين آيت احمد ورابح بيطاط.
ولم تكن هذه المرة الاولى التي تستعين فيها المؤسسة العسكرية الجزائرية ببوضياف. ففي ربيع 1962، اي قبيل الاستقلال، اوفد العقيد هواري بومدين قائد اركان جيش التحرير يومها، مساعده عبدالعزيز بوتفليقة ليعرض على محمد بوضياف مسألة التحالف مع جيش التحرير النظامي بصفة خاصة، بهدف استلام السلطة من الفرنسيين، بدلا من الحكومة الموقتة. وكانت هيئة اركان الجيش آنذاك في ازمة مفتوحة مع الحكومة الموقتة للجمهورية الجزائرية حكومة منفى بقيادة السيد بن يوسف بن خدة الذي قرر عزل بومدين ورفاقه في 30 حزيران يونيو 1962! وهو القرار الذي رفضه بومدين وجيش الحدود وظل حبرا على ورق! و"جيش الحدود" هو عبارة عن وحدات نظامية تكونت على الحدود الجزائرية التونسية شرقاً والجزائرية المغربية غرباً، وتقابلها داخل البلاد وحدات المجاهدين المعروفة بقوات الولايات. وقد اعتذر بوضياف آنذاك بحجة انه يفضل "دخول الحكومة الموقتة الى الجزائر وحل مشكلة السلطة على البارد داخل البلاد". وبعد هذا الاعتذار اتجهت انظار بومدين ورفاقه الى "الزعيم" الآخر احمد بن بللا.
ان علاقة المؤسسة العسكرية في الجزائر بالسلطة هي علاقة قديمة، كما تؤكد ذلك الشواهد السابقة، وبوادرها الاولى ظهرت منذ السنة الاولى من عمر ثورة التحرير. فقد حاولت القيادة الداخلية في "مؤتمر الصومام" المنعقد في 20 آب اغسطس 1956 رسم حدود "المؤسسة العسكرية" في حاضر الثورة ومستقبلها وحتى ما بعد الاستقلال، عبر المبدأ الشهير الذي سعى السيد عبان رمضان الى تكريسه، والقائل "بأولوية العمل السياسي على العمل العسكري".. وكانت هذه المحاولة بمثابة "الخطيئة الاولى" في ثورة التحرير الجزائرية، لأنها كانت مثار ردود فعل عنيفة غير متوقعة ممن اعتبروا انفسهم "عسكريين" اكثر منهم "سياسيين".. وكان رد الفعل الاول ظهور بوادر نزاع بين "جبهة التحرير"، المنظمة السياسية للثورة وبين جناحها العسكري "جيش التحرير الوطني"، كاد يتحول الى مواجهات مسلحة دامية.
وكان الضحية الاولى للمبدأ المذكور هو السيد عبان رمضان نفسه، وهو منسق القيادة الداخلية للثورة المعروفة بپ"لجنة التنسيق والتنفيذ" التي انبثقت عن "مؤتمر الصومام". فقد عزل من هذا المنصب الهام الذي خلف فيه محمد بوضياف، بمجرد التحاق لجنة التنسيق والتنفيذ بالقاهرة في صيف 1957 حيث اجتمع "مجلس الثورة" واجرى تحويرا عميقاً على الهيئة التنفيذية المذكورة.
وتجسدت هيمنة "العسكريين" يومئذ في "اللجنة الدائمة للثورة" التي رفض عبان ان يكون عضوا فيها لأنه كان "المدني" الوحيد بين اعضائها الخمسة الذين ما لبث عددهم ان تقلص الى ثلاثة هم كريم وبوصوف وبن طبال. ولم تحتمل هذه اللجنة معارضة عبان فخططت لتصفيته جسديا في اواخر كانون الاول ديسمبر من العام نفسه.
وبفضل هذه الهيمنة اصبح لفظ "عسكري" مرادفا "لثوري"، و"سياسي" مرادفاً "لمعتدل" ان لم يكن مرادفا "لمناهض للثورة"!
صراع العسكر
هذه الوضعية المعقدة على مستوى قيادة الثورة ما لبثت ان افرزت ظاهرة العقيد هواري بومدين.
لقد عمل العقيد بومدين بدءاً من سنة 1958، بصفته قائد اركان قوات جيش التحرير المرابطة على الحدود الجزائرية المغربية، في سبيل بناء مؤسسة عسكرية عصرية وقوية العصبية، بعد ان بث فيها روح العداء "للساسة المحترفين"، وفي طليعتهم الثلاثي كريم وبوصوف وبن طبال الذين "ابتلتهم الظروف بآفة من جنسهم"، لاسيما بعد خطأ تعيين العقيد بومدين على رأس هيئة الاركان العامة للجيش كله في مطلع 1960. ويقول الرائد علي منجلي مساعد بومدين في سياق الصراع الحاد بين "العساكر القدم" و"العساكر الجدد" على قيادة الجيش:
ان بومدين ورفاقه من الضباط الشباب تمكنوا من عزل الثلاثي الذي كان مهيمناً على قيادة الثورة عن قواعده الخلفية في الجيش، ومن ثم افرغ من محتواه اذ لم يعد له سند من قوة يرتكز عليه".
هذا الصراع بين "العسكريين القدم والجدد"، ما لبث ان اتسع ليصبح صراعاً بين الحكومة الموقتة وجيش الحدود، لذلك عندما احتدم الصراع بعد وقف اطلاق النار في 19 آذار مارس 1962 واقدام الرئيس بن خدة على عزل بومدين ورفاقه، اشاعت هيئة الاركان العامة يومها ان الحكومة الموقتة تنوي تجريد قوات الحدود من سلاحها وترشيح افرادها ليكونوا مجرد "قدماء محاربين" لا غير، يتقاضون دورياً منحاً زهيدة من الخزينة العامة...
الا ان هيئة الاركان تمردت وساهمت بتحالفها مع الرئيس الاسبق بن بللا في تدبير اول انقلاب كانت ضحيته الحكومة الموقتة التي حُرمت من استلام مقاليد الحكم من الفرنسيين.
جيش بومدين
ويمكن الاستخلاص ان النظام الذي نشأ في الجزائر مع فجر الاستقلال كان وثيق الصلة بالمؤسسة العسكرية، بل ان هذه الاخيرة كانت الطرف الفاعل الاول فيه. وهناك شواهد اخرى تؤكد هذا الارتباط، منها:
تدخل الجيش غداة الاستقلال في تعيين عدد من الولاة المحافظين عوضاً عن "الهيئة التنفيذية الموقتة" وهي هيئة مختلطة جزائرية فرنسية قامت بادارة شؤون الجزائر في الفترة الانتقالية من وقف اطلاق النار في 19 آذار مارس 1962 الى استفتاء تقرير المصير واعلان الاستقلال في تموز يوليو 1962.
شهادة السيد الشريف بلقاسم احد الرجال الاقوياء في عهد الرئيس بومدين الذي اكد لنا ان "جماعة وجدة" ليست فقط بضع شخصيات قيادية برئاسة بومدين، بل هي عبارة عن شبكة واسعة من الاطارات المتواجدة في مختلف اجهزة الحكم. و"جماعة وجدة" هي جماعة بومدين ونسبت الى هذه المدينة المغربية بحكم نشأتها فيها. وبفضل هذه الشبكة الاخطبوطية الواسعة استطاع جيش بومدين ان يحسم الموقف لصالح "المكتب السياسي" في ازمة صيف 1962، وان يكتسب شيئاً فشيئاً شرعية قيادة البلاد تحت شعار "القوة المنظمة الوحيدة"، وباسم "الشرعية الثورية"!
وبعد فترة تعايش صعب لم تزد على ثلاث سنوات، قرر العقيد بومدين وزير الدفاع وضع حد "للتحالف المرحلي" مع الرئيس بن بيللا، مقدراًَ هو ورفاقه انهم لم يعودوا بحاجة الى "غطاء سياسي". وهكذا كان انقلاب 19 حزيران يونيو 1965 الذي تسلمت المؤسسة العسكرية بموجبه مقاليد الامور كاملة.
وقد تم تأسيس مجلس ثورة بقيادة العقيد هواري بومدين الذي حكم البلاد بقبضة من حديد، وفرض هيبة الدولة، بل افقد المعارضين شهية المعارضة بالترغيب تارة والترهيب تارة اخرى. وتميزت مرحلة بومدين ببعض الاغتيالات الشهيرة في صفوف معارضيه، مثل اغتيال محمد خيضر في مدريد عام 1967، واغتيال كريم بلقاسم في فرانكفورت عام 1970.
وعلى رغم ان الرجل جاء الى السلطة بالقوة، فقد استطاع شيئاً فشيئاً ان يقنع الناس بأنه يحمل مشروع تنمية يشفع له، وما لبث ان تمكن من عواطفهم، بفضل مواهبه القيادية الواضحة ومواقفه الحازمة والجريئة، سواء في معركة التأميمات الشهيرة التي توجت بتأميم البترول والغاز - انتاجاً وتوزيعاً وتسويقاً! - في 24 شباط فبراير 1971، او في دفاعه عن "نظام اقتصادي دولي جديد" يعترف بحقوق فقراء "عالم الجنوب".
المهم ان بومدين الذي اصبح رئيس جمهورية اكتسب شعبية واسعة، والذين كانوا يتوهمون ان المواطنين كانوا مكرهين على تقبله فوجئوا بالامواج الآدمية المتلاطمة التي خرجت لتوديعه الى مثواه الاخير في 29 كانون الاول ديسمبر 1978. ومن هؤلاء محمد بوضياف نفسه الذي عين في 14 من الشهر الماضي رئيسا لمجلس الدولة... فقد "صدم" بشعبية الرئيس الراحل، فقرر تجميد "حزب الثورة الاشتراكية" الذي كان يتزعمه والعدول عن معارضة لم تكن تستند الى تقييم موضوعي لوضعية البلاد!
العلاقة المشبوهة!
وطوال فترة مرض الرئيس بومدين والظروف التي اعقبت وفاته، اثبتت المؤسسة العسكرية انها سيدة الموقف بدون منازع، وما الجهاز الاداري او جبهة التحرير الوطني سوى امتداد مدني وسياسي لها. وقد رأت يومئذ في العقيد الشاذلي بن جديد قائد ناحية وهران مرشحها المفضل، باعتباره "اقدم ضابط في اعلى رتبة". وكانت رتبة عقيد هي اسمى رتبة في الجيش الجزائري الذي ورث ذلك عن جيش التحرير الوطني.. لكن الرئيس الشاذلي حرر الرتب لغاية لواء.
لكن بن جديد ما لبث ان اثبت كما تقول مصادر مقربة من الجيش، انه "دون الامانة الثقيلة" التي اسندها اليه الجيش، واكثر من ذلك اخذ منذ قرابة السنتين "يبرهن على انه دون الثقة التي وضعت فيه، لانه راح يراهن على استبدال "القوة المنظمة الوحيدة - الجيش - بالقوة المنظمة الجديدة": الجبهة الاسلامية للانقاذ".
كانت اطوار "العلاقة المشبوهة" بين الشاذلي والجبهة الاسلامية تتسرب بين الفينة والاخرى الى بعض الصحف المحلية التي تثير دهشة القراء لما "تتحلى به من جرأة نادرة"!
وفي 15 حزيران يونيو 1991 اضطر الجيش الى التدخل للمرة الثانية، بعد تدخله في احداث تشرين الاول اكتوبر 1988 التي خلفت، حسب المصادر الرسمية، حوالي 200 قتيل. وجاء تدخل الجيش هذه المرة بخلفية محددة لدى قيادته: ان انقاذ نظام الحكم لم يعد ممكناً بدون التضحية بالمسؤول الاول وهو الرئيس الشاذلي بن جديد!
وقد بات مؤكداً ان بن جديد كان مقتنعاً في حزيران يونيو الماضي بضرورة الانسحاب تحت غطاء انتخابات رئاسية مسبقة. الا انه بدأ يتراجع عن ذلك بضغط بعض المقربين منه. وفي 24 كانون الاول ديسمبر الماضي اعلن صراحة امام عدد من مسؤولي اجهزة الاعلام المحلية "انه رجل مسؤول ولا ينوي الانسحاب في جو من الفوضى، واذا اقتضى الامر ان يستكمل ولايته الثالثة حتى نهايتها في اواخر السنة القادمة، فلن يتردد في ذلك خدمة لمصلحة البلاد العليا".
وقد فهم الجميع مباشرة من ذلك، ان وعد اجراء انتخابات رئاسية مسبقة اصبح في خبر كان!
المهم ان الانظار اتجهت نحو المؤسسة العسكرية لاحداث التغيير الذي يفرضه وضع البلاد بالحاح. وقد نشرت صحيفة محلية في 19 آب اغسطس الماضي مقالا بعنوان "الجيش والسلطة... والتغيير الممكن" جاء فيه: "ان الارتباط الوثيق بين المؤسسة العسكرية والنظام القائم يوحي بأن التغيير من المفروض ان يأتي عبر هذه المؤسسة التي لا شك انها حريصة على استمرارية النظام بشكل او بآخر. اي حريصة على استمراريتها في آخر المطاف". اما التغيير بواسطة الاحزاب فيتوقعه الكاتب على المدى المتوسط "شريطة ان تعمل الاحزاب بجد على تنظيم نفسها لتكون عن جدارة "القوة المنظمة البديلة".
والحال ان "الجبهة الاسلامية للانقاذ" اثبتت بشعبيتها الواسعة وفوزها بالانتخابات المحلية في حزيران يونيو 1990 والدور الاول من الانتخابات النيابية في 26 كانون الاول ديسمبر الماضي، انها فعلاً "القوة المنظمة الثانية" في مواجهة القوة الاولى المتمثلة في المؤسسة العسكرية.
وفي هذا السياق تبدو استقالة الشاذلي بن جديد بضغط من الجيش، بمثابة سحب البساط من تحت اقدام الجبهة الاسلامية قبل التمكن من الحكم وبالحكم. لكن اجراء الدور الاول من الانتخابات والنتائج التي اسفر عنها، جعل مهمة الجيش في غاية التعقيد.
ان الوضعية الجديدة تطرح العديد من التساؤلات التي تحدد الاجابة عنها ملامح المستقبل في الجزائر على المدى القصير والمتوسط.
فهل يوفق مجلس الدولة برئاسة شيخ المجاهدين الجزائريين محمد بوضياف في كسب "الغالبية الصامتة" التي فضلت الامتناع عن التصويت في كانون الاول ديسمبر او صوتت بطريقة غير مفيدة؟ وبعبارة اخرى هل يستطيع مجلس الدولة - بمساعدة المؤسسة العسكرية - في مدة قصيرة، تكوين قوة سياسية قادرة على مواجهة الجبهة الاسلامية بسلاح السياسة وانقاذ البلاد من مغبة مواجهة محتملة بين الجيش والاسلاميين وهي مواجهة بدأت ملامحها تتضح في الايام القليلة الماضية؟ وهل تبقى الجبهة الاسلامية مكتوفة الايدي بعد ان اصبحت على قاب قوسين او ادنى من السلطة العليا؟
ان التحلل من الشرعية الدستورية من جهة، وتمسك الاسلاميين "بشرعيتهم الشعبية" من جهة ثانية يشكلان لفترة معينة مصدر قلق وتوتر وتهديد مباشر للاستقرار والامن.
وما لم يكسب مجلس الدولة رهان "الغالبية الصامتة"، فان المواجهة بين الجيش والاسلاميين لا يمكن ان تتصاعد باجماع معظم المراقبين. ولتوضيح محتوى هذا الرهان، بناء على نتائج انتخابات كانون الاول ديسمبر يجدر التذكير بأن الجبهة الاسلامية لم تحصل على اكثر من 24 في المئة من اصوات الناخبين المسجلين، اي على 3 ملايين و200 الف ناخب من مجموع 13 مليون ناخب مسجل، صوتوا الى جانب الجبهة الاسلامية. ومعنى ذلك ان "الغالبية الصامتة" التي قد تبلغ 35 في المئة من المسجلين ماتزال مترددة، غير مقتنعة، تبحث عن قيادة في مستوى طموحاتها. فهل يكون مجلس الدولة هو هذه القيادة المنتظرة؟ ام سيكون الوسيلة الى هذه القيادة؟ هذا ما ستجيب عنه الاسابيع بل الايام القليلة المقبلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.