آخر شهر كانون الاول (ديسمبر) من عام 1968 أطلقت عناصر من «فتح» صاروخاً على طائرة تابعة لشركة «العال» الإسرائيلية كانت متوقفة فوق أحد مدارج مطار اثينا. وعلى الفور عقدت الحكومة الاسرائيلية جلسة طارئة تحدث فيها وزير الدفاع موشيه دايان عن ضرورة انزال عقاب مؤلم يؤذي لبنان، على اعتبار ان عناصر «فتح» وصلت الى اثينا من بيروت على متن طائرة تابعة لشركة «ميدل ايست». وقال دايان في كلمته ان العملية الانتقامية يجب ان تردع الحكومة اللبنانية عن السماح ل «فتح» باستخدام ارض الجنوب قواعد تدريب على الاعمال الارهابية. ثم اوكل الى «الموساد» قرار اختيار عملية الاقتصاص التي استهدفت طائرات شركة طيران الشرق الاوسط الرابضة فوق مدارج مطار بيروت الدولي. وانتقى رئيس الموساد في حينه الضابط الطموح بنيامين نتانياهو، وطلب منه تنفيذ عملية تفجير 13 طائرة بمعاونة 15 عنصراً من الكومندوس نقلتهم مروحية عن ظهر بارجة حربية اسرائيلية كانت راسية قرب مرفأ بيروت. صحيح ان عملية الانتقام الاسرائيلية استهدفت نشاط المقاومة الفلسطينية من طريق دق اسفين بينها وبين الدولة التي حمّلتها مسؤولية نسف 13 طائرة مدنية... ولكن الصحيح ايضاً ان لبنان غرق في لجة المتناقضات السياسية، خصوصاً بعدما اعلن رئيس الحكومة الدكتور عبدالله اليافي أننا كلنا فدائيون. وفي تصريح حول هذا الموضوع، قال العميد اده ان إحجام الدولة عن حماية امنها وسيادتها، سيعطي المقاومة الفلسطينية الحجة لمصادرة دور الدولة. وثيقة الطائف رسمت حدود النفوذ السياسي والامني، عندما اعلنت عن حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، وتسليم اسلحتها الى الدولة اللبنانية خلال ستة اشهر تبدأ بعد التصديق على وثيقة الوفاق الوطني وانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة الوفاق الوطني. الاحتلال الاسرائيلي عام 1982 ألغى من قاموس التداول الشروط المتعلقة بتسليم اسلحة المقاومة الشعبية، بدءاً بمنظمة «امل» وانتهاء ب «حزب الله». وبسبب تزايد عدد قتلى «جيش الدفاع الاسرائيلي»، قرر «حزب العمل» الانسحاب من جنوب لبنان تحت ضغط اضرابات امهات الجنود. وفي 6 حزيران (يونيو) 1985 قرر «حزب العمل» الانسحاب من جنوب لبنان لأن خسائر جيش الاحتلال أصبحت مرهقة يصعب على شمعون بيريز وإيهود باراك تحمل تبعاتها. ثم جاءت مجزرة قانا 8 نيسان (ابريل) 1996 لتقوض نفوذ رئيس الوزراء بيريز، وتوسع النفوذ المحلي والدولي الذي حمله في طائرته الخاصة رئيس الحكومة آنذاك رفيق الحريري. وقد ساعدته الأممالمتحدة وبعض الدول الأوروبية على عقد «تفاهم نيسان» الذي منح المقاومة اللبنانية مهمات رادعة في مواجهة التفوق العسكري الإسرائيلي. وراحت اسرائيل منذ اعلان وقف الاحتراب في لبنان عام 1989، تهاجم «اتفاق الطائف»، وتدعي بواسطة وسائل إعلامها ان نظام لبنان الجديد ولد بالخطيئة (اي بالرشاوى). وادعت ايضاً ان «اتفاق الصداقة والتعاون» الموقّع في نيسان 1991 يضمن تحول لبنان الى محافظة سورية بامتياز. وكتبت صحيفة «يديعوت احرونوت» غداة مقتل رفيق الحريري تقول ان رئيس الاستخبارات العسكرية السورية في لبنان العميد رستم غزالة عاد الى إدارة السياسة اللبنانية عبر التمديد للرئيس اميل لحود بعدما تجاوز محاذير الدستور. ومع ان سيطرة سورية على لبنان طوال 29 سنة كانت دائماً تمثّل قمة نجاح دمشق، إلا ان الحالة العراقية اثبتت ان مفاهيم القوة قد تغيرت في العالم نحو الديموقراطية، وان نظام لبنان الجديد سيجعل منه اكبر تهديد لنظام دمشق. يستفاد من كل هذه الرسائل الاعلامية، ان اسرائيل كانت متضايقة من التغيير الذي احدثته سورية على الساحة اللبنانية، ومن نشاط رئيس الوزراء الذي نجح في توظيف ثروته وثروة البلاد التي تدعمها (السعودية) للتأثير في سياسة البيت الابيض والكرملين والاليزيه وكل مكان تهيمن عليه اسرائيل. ومع ان الاستخبارات السورية وفرت ل «سي آي ايه» معلومات حول 42 شخصاً من «القاعدة» كانوا يستعدون في اوروبا للقيام بعمليات ارهابية ضد مصالح الغرب، إلا ان هذه البادرة لم تخفف من احقاد الرئيس جورج بوش ضد سورية. والسبب انها انتقدته بقسوة بسبب احتلال العراق... او بسبب تدمير العراق بحجة اسقاط نظام صدام حسين. فور اذاعة نبأ اغتيال رفيق الحريري ظهر يوم 14 شباط (فبراير) 2005، انطلقت في عواصم العالم سلسلة أسئلة تتعلق بالدوافع الحقيقية الكامنة وراء قرار الاغتيال... وما اذا كانت هناك منظمة واحدة ام دولة واحدة، اجنبية ام محلية ام عربية، ارادت التخلص من ظل الحريري. وفسرت واشنطن التي ارسلت الى بيروت مساعد وزيرة الخارجية وليم بيرنر للمشاركة في الجنازة، تفاصيل تلك العملية المصممة بدقة وإحكام، انها تمثل زلزالاً سياسياً واقتصادياً ستكون له تداعيات خطيرة على مستقبل لبنان واللبنانيين. واتهمت المعارضة الفرنسية سورية باعتبارها مسؤولة عن الوضع الامني، او لأن صديق القتيل الرئيس جاك شيراك ساعد في الإعداد لصدور قرار مجلس الامن الرقم 1955 الذي يدعو الى انسحاب سوري فوري وكامل من لبنان، كما يطالب بإجراء انتخابات حرة ونزيهة تعزز سيادة لبنان واستقلاله. انتظار ردود فعل دمشق وحليفها في لبنان الرئيس اميل لحود، فسرت على غير حقيقتها لأن الحديث عن تنظيف حفرة «السان جورج» اعتبر محاولة لتنظيف آثار الجريمة. وهكذا اضطر الرئيس بشار الاسد أن يستنكر الجريمة ويهاجم الذين يقفون وراءها. وهذا ما فعله وزير الخارجية وليد المعلم منذ اسبوعين، عندما قال ان الإعدام ينتظر كل شخص في حال ثبتت التهمة عليه. كل هذه الاتهامات وسواها اعتبرت من نوع ذر الرماد في العيون، لأن الجهة التي قررت اغتيال الحريري، حرصت على نشر اشاعات معينة بهدف طمس الحقيقة وتفادي كل المطبات التي شهدتها عملية اغتيال الرئيس جون كينيدي. اي ان سلسلة الاحاجي ظلت تتراءى في افق السياسة الاميركية بعد مرور 48 سنة على اغتيال الرئيس. وربما يمر نصف قرن قبل ان يستفيق ضمير المخطط لهذه الجريمة والمحرض على اقترافها. ومن ثناياها تبرز عنذئذ كامل المعلومات عن قاتلي 14 شخصاً بينهم: بيار امين الجميل وجبران غسان تويني وجورج حاوي وسمير قصير. بين الذين تنبهوا الى مخاطر الإشاعات المدسوسة بهدف حرف الحقيقة عن طريقها، كان الديبلوماسي المصري حسين احمد امين. وهو نجل المؤرخ احمد امين وشقيق عالم الاجتماع جلال امين. وقد نشر في حينه مقالة في «الحياة» تحت عنوان: من الذي اوحى الى قتلة الحريري بقتله؟ وأرى ان من المفيد اعادة نشر بعض ما جاء على لسان الكاتب والديبلوماسي حسين احمد امين: في الاعوام بين 1963 و 1967 كنت اعمل في السفارة المصرية في موسكو. وكان الشغل الشاغل للاستخبارات السوفياتية في حينه اكتشاف الهوية الحقيقية لاثنين من الروائيين الروس يبعثان سراً بكتابات معادية للنظام الشيوعي الى الغرب، فتنشر الترجمات تحت اسمين مستعارين. عام 1966 قرأنا في الصحف نبأ اعتقال سينيافسكي ودانييل، مع الاشارة الى اعترافهما الكامل. اثناء عودتي الى القاهرة قرأت في مجلة «نيوزويك» الاميركية مقالاً للشاعر السوفياتي المعروف يغفيني يفتوشينكو يكشف فيه السر عن حقيقة اعتقال الكاتبين ويعترف الشاعر بأن روبرت كينيدي اخبره قبل اغتياله، ان وكالة الاستخبارات المركزية هي التي كشفت عن اسمي الكاتبين الى ال «كي جي بي». ولما انفعل الشاعر غاضباً ومحتجاً لأن الاستخبارات الاميركية تساعد على زج اصدقائها في المعتقلات، افهمه وزير العدل كينيدي ان مصير الكاتبين لا يساوي شيئاً بالنسبة الى الجهاز الذي يستخدم الاعتقال لزعزعة سمعة السوفيات وتعزيز سمعة الولاياتالمتحدة والغرب او ما يعرف بالعالم الحر. ويستنتج من الدلالات المعنوية لهذه الحادثة الغريبة، ان الدول لا تتعاطى مع بعضها بعضاً بنفسيات الافراد وأخلاقيات المؤسسات الخيرية. وإنما تتحكم بتصرفاتها وممارساتها سلوكيات المصلحة العليا، اضافة الى المكاسب السياسية والاقتصادية والإعلامية. في ضوء ما تقدم، يمكن طرح السؤال الآتي: هل كان من السهل على الرئيس جورج بوش تطبيق قرار مجلس الأمن الرقم 1559 على القوات السورية بحيث تنسحب من لبنان تنفيذاً لقرار صاغته الولاياتالمتحدة وفرنسا؟ وإذا كان هذا الامر يبدو في حينه مستحيلاً، فما هو البديل؟ الطريف ان اغتيال الحريري انتج امرين كان من الصعب انتاجهما لولا هذا الزلزال السياسي: اخرج سورية من لبنان... وأخرج السنّة من عروبة سورية؟ واللافت ان لغة السنّة ما بين 2005 و 2008 لم تكن تختلف عن لغة غلاة الموارنة من حيث حدتها ولبنانية عصبيتها. لولا زيارات سعد الحريري لدمشق، لما نجح النظام السوري في استرداد من خسرهم من سنّة حلفائه او اصدقائه والسابقين. بقي ان نذكّر بحكاية احمد ابو عدس والدور الذي صنع له كعازل تمويهي استطاع من خلال اطلالته في شريط بثته قناة «الجزيرة»، ان يربك الجماهير ويطرح اسئلة متعلقة بدور «القاعدة» وتشظياتها الاصولية المزروعة في لبنان والعراق. واذا كان مدعي عام المحكمة الدولية دانيال بلمار قد طلب تزويده بالمعلومات الموجودة لدى السيد حسن نصرالله، فإن الامانة تقضي بأن يراجع حادثة اغتيال الرئيس جون كينيدي، كي يكتشف ان الذي اطلق النار ليس بالضرورة ان يكون المستفيد... * كاتب وصحافي لبناني